رسالة ماجستير تناقش موضوع:
“علاقة العلماء بالسّلطة السيّاسية من خلال معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للدبّاغ”
للباحثة .جميلة بالقروي(تونس) / كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة/ جامعة سوسة
تحمل الرسالة الّتي تقدمت بها أمام لجنة علميّة مكونة من الأستاذ محسن التليلي كمشرف والأستاذ ثامر الغزي رئيس اللجنة والأستاذ محمّد الساسي الضيفاوي عضوا مناقشا عنوان علاقة العلماء بالسّلطة السيّاسية من خلال معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للدبّاغ، تهدف هذه الرسالة إلى بيان دور العلماء بما فيهم الفقهاء والقضاة في العمليّة التأسيسيّة لإحدى أهم الحواضر الإسلاميّة ألا وهي القيروان الّتي أصبحت وجهة يقصدها الرواد للتزوّد من العلوم والمعارف، وقد جعلها هذا التوافد قطبا فكريّا وثقافيّا، زاد في نشاط عُلمائها الذين ساهموا في ازدهارها السيّاسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي داخليّا وخارجيا وذلك منذ عمليّات الفتح الّتي أفضت إلى تأسيسها. كما تبيّن دور أصحاب السّلطة في النهوض بالحركة الحضاريّة في إفريقيّة بعد أن تمكّنوا من السيطرة وإعادة الهدوء إلى معظم أرجاء بلاد المغرب خصوصا أثناء الخطر الفاطمي.
يجمع بحثنا بين التّاريخي والسياسي والدّيني وقد تخيرنا مقاربة تجمع حقولاً بحثية شتّى مع الانفتاح على منهج علم الاجتماع الديني لدراسة موضوع بحثنا واخترنا مدوّنة الدباغ معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان لعبد الرحمن بن محمّد بن عبداللّه الأنصاري المالكي المعروف بالدبّاغ (605ه/696ه) وهو فقيه ومحدّث قيرواني عُرِف بمشاركته في العلوم العقليّة والنقليّة لعصره. أضاف إليه أبو الفضل أبو القاسم بن عيسى بن ناجي التّنوخي (ت538ه) إضافات تتعلّق بالموضوع.
بيّن الدباغ فضل القيروان ومساجدها السبعة ووضّح لنا صورا عديدة للمجتمع القيرواني وركّز بصفة خاصة على فئة العلماء والحكّام، كما سعى إلى بيان العلاقة القائمة بينها الّتي تتراوح بين التّفاهم والتّصادم مما يدلّ المجتمع القيرواني أنذاك الّذي تميّز بتنوّعه الاجتماعيّ والدّيني والثقافي والفكري، وخضع الكتاب إلى ترتيب تراجم العلماء والفقهاء حسب تاريخ الوفاة، يبذأ جزؤه الأوّل بترجمة أبي سعيد المقداد بن عمرو المتوفي سنة ثلاث وثلاثين هجري(33ه/654م) وينتهي في الجزء الرّابع بتاريخ (808ه/1406م).
كما اعتمدنا مراجع أخرى مهمّة مثل ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عيّاض، ورياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقيّة وزهادهم ونسّاكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم وأوصافهم للمالكي، والبيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب لابن عذاري، ومثلت أطروحة محمّد الطالبي: الدولة الأغلبية التّاريخ السيّاسي 184ه/296ه-804م/909م مرجعًا مهمًّا نظرا لأنّها بيّنت لنا بوضوح الأطوار الّتي مرّت بها الدولة الأغلبيّة، بالإضافة إلى الاستئناس ببعض المراجع في الأحكام السلطانيّة.
واقتضت خطّة بحثنا تخصيص فصلين: فصل أوّل لدراسة تعدّد مستويات العلاقة بين العلماء والسّلطة ومظاهر التّفاعل بين السّلطتين: العلم والسيّاسة الّتي تراوحت بين التّبعية والاستقلاليّة خلال القرن الخامس هجري/ الثاني عشر ميلادي وما تلاها. وفصل ثانٍ للنظر في الأثر الاجتماعي والديني والثقافي للعلاقة بين العلمي والسياسي في المجتمع القيرواني. لذا نسعى من خلال هذه الخطة إلى إثارة جملة من الإشكاليّات الّتي تستدعيها هذه العلاقة نظريّا وعمليّا من جهة السيّاسة والعلم والدّين باعتباره يستحوذ على مفاصل السلطة وبناء عليه نثير الأسئلة الإشكاليّة التّالية: منها ما يتعلّق بمفهوم العلماء وكيفيّة اكتسابهم هذه الصفة ومنها ما يتّصل بالسّلطة السيّاسية وكيفيّة تعاملها مع سلطة العلماء.
ففي الفصل الأوّل بيّنا مظاهر العلاقة بين السلطتين: العلميّة والسيّاسية في القيروان وقد نشأت هذه العلاقة منذ اللّحظات الأولى لتأسيس القيروان قاعدة الحضارة الاسلاميّة في بلاد المغرب سنة (50ه/670م)، وشمِل هذا الفصل مسائل فرعيّة: أوّلها، في تحديد مفهومي العلماء والسّلطة حسب ما أورده الدبّاغ فإذا كانت صفة العالم حسب المعاجم اللّغوية من العلم واليقين والمعرفة فإنّها وردت عنده بمعنى خاص فصفة العالم تطلق على الفقهاء والقضاة لما لهم من دور في الحياة الدينيّة والسيّاسية لذلك نزّلهم الدبّاغ في المرتبة الثانية بعد التّابعين باعتبارهم يمثّلون قدوة المسلمين واختزل أدوراهم في الانتصار للحقّ والرّد على أهل الأهواء بالدّلائل القاطعة والنضال بالسيّوف والمجادلة باللّسان في الدين[1] وبالتالي يعرّفهم في سياق ضيق لأنّه يُلغي العلوم العقليّة ويُقصيها.
ثانيها، علاقة العلماء بالسّلطة السيّاسية يمكن أن نجد موقفين: موقف أوّل مساند للسلطة نظرا للظروف الداخليّة والخارجيّة الّتي مرّت بها الإمارة الأغلبيّة من مثل تتالي الثورات الّتي شكّلت خطرا على المذهب المالكي مثل ثورة الجند(194ه/809م) وثورة منصور الطّنْبدي (209ه/824م) في عهد زيادة اللّه حينها شكّل العلماء حلقة وصل بين الثائر والسّلطة السيّاسية[2]. كما مثّل الخطر الشيعي الذي داهم إفريقيّة سببا اخر لوقوف العلماء مع السلطة السياسية، وفي هذا السياق سعى الأمير الأغلبي إلى شحن الفقهاء وإثارة مشاعرهم الدينيّة باعتبار أنّ الدين محرّك للفقهاء من خلال الحماسة الّتي يثيرها فيهم خصوصا أثناء مواجهة المحن، لذلك جمعهم وخطب فيهم واستجاب العلماء لهذه الدعوة الملحة لمقاومة الخطر الشيعي وأفتوا بجهاده ومحاربته. وبناء عليه اعتبرت هذه المواقف المساندة للسّلطة بمثابة التفريط والتنازل والتبرير الزائف بضرورة التّحالف معا لمواجهة العدو واسترضاء للسّلطة ممّا يمكن اعتباره انخراطًا صريحًا في الشأن السيّاسي.
وموقف ثانٍ، معارض للسّلطة عبّر عنه الدبّاغ بكثرة الأفعال من قبيل رفض، أبى، استعفى ووضّح هذه المعارضة من خلال ذكر نماذج للتهرب من مهمّة القضاء تحت ذرائع ومسوغات شتى فسحنون كان يراوده الأمير العباس: أحمد بن الأغلب حولاً كاملاً فأبي، وعادة ما يقبل العلماء تقلّد منصب القضاء تحت التهديد والترويع، أو أن يشترطوا البقاء صوريّا في هذه الخطة دون تكليف أنفسهم عناء البتّ في قضايا الناس، أو أن لا يصدروا أحكاما خلال مدّة قضائهم، وقد تصل معارضة العلماء للسّلطة على المواجهة ورفض الأوامر ويُرجع الدبّاغ رفض العلماء المتقدّمين تولّي منصب القضاء إلى كونه يمثّل عندهم تكليفًا بعهدة عظيمة. هكذا إذن كانت العلاقة بين العلماء والسّلطة السيّاسية علاقة ملتبسة وقد بيّنا مواطن الالتباس ومواطن التقارب المحتمل لكن تبقى هذه العلاقة عدائية ومتقلّبة تأبى سلطة العلماء الخضوع لإملاءات السلطة السيّاسية ونزوع –هذه الأخيرة-إلى إخضاعهم لمشيئتها بالترغيب والترهيب تنتهي بخضوع العلماء لمناصب لا يرغبون فيها أو بمحنتهم وسجنهم من مثل ما حصل مع أنس بن مالك “الّدي ضُرِب سبعين سوطًا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان”.
ثالثا، علاقة العلماء ببعضهم البعض فهي علاقة ذات وجهين: التّعاون والتشاور وابداء النصيحة من جهة والتخاصم والتقاطع من جهة أخرى وهذا برأيي لا يخرج عن حدود المنافسة العلميّة، استقرّ في ذهني أنّ العلماء كوّنوا فئة متماسكة لكن المؤرّخين وأصحاب كتب التراجم عمدوا إلى تقسيمهم إلى طبقات فقد صنّفهم الدبّاغ في الجزء الأوّل من مدوّنته كالتالي: من دخل إفريقيّة من كبار الصحابة وظمّ حوالي ثلاثين اسمًا، ممن وُلِد على عهد الرسول ولم يره وفيه عقبة بن نافع وأحد عشرة آخرين، أمّا الصنف الثالث فشمِل العلماء التّابعين وفُضلائهم. كما صنفتهم كتب الطبقات حسب درجة قربهم من مالك، وتبقى هذه الطبقية موجودة فقط في الفهارس لأنّ العلاقة بينهم كانت جيدة في مجملها ووصلت أحيانا إلى التفكير في المصاهرة بما يحمله هذا المصطلح من قيمة اجتماعيّة، وبفضل هذه العلاقة كانوا سدًّا منيعًا أمام بعض الحكّام وقد مثّلت مؤلّفاتهم مصدر قلق للسلطة السيّاسية.
رابعًا، بينا مظاهر التفاعل بين السلطتين: العلم والسيّاسة مثل المشاركة في الفتوحات والدعوة على الجهاد واقترن الجهاد في معالم الإيمان بالانتصار للحق والصبر على الأذى في اللّه لإعزاز الدّين والقيام بالرّد على أهل الأهواء وإعلاء كلمة الله خصوصا لما استولى العبيديون على إفريقيّة وإظهار مذهبهم الفاسد وتبديل الشرائع والإضرار بأهل السنة. وكنتيجة لذلك نقرّ بأن الجهاد كما صوّره الدبّاغ مازال في طور الدعوة، ومن مظهر التفاعل أيضا بين السلطتين تولّي المناصب السيّاسية حيث حرصت على استمالتهم بطرائق مختلفة كالإغراء بالمال والمكانة الاجتماعيّة وقد قوبلت هذه الإغراءات بالرّفض من قبل بعض العلماء باعتبارها أصل الشرور، وقوبلت من بعضهم الآخر بالترحيب خدمة لمصالحهم الشخصية.
استنتجنا في هذا الفصل الأوّل أنّ هذه العلاقة كشفت البوْن الشاسع بين الفئتين: السلطة تهتمّ بأمور دنيوية مثل الرئاسة والملك والتملّك والفقيه من الفقه وهو “الفهم والفطنة” فالفرق واضح وشاسع بين المجالين من خلال المصطلح الذي مثّل معضلة تاريخيّة كما لاحظنا انخراط بعض المؤرّخين في خط الكتابة التبريرية لأفعال السلطة السياسية. واستنجنا أيضا أنّ العلماء والفقهاء بالرغم من مكانتهم الروحيّة عمد العامّة وعند المؤرخين وبالرغم من تحرّرهم بعض الشيء من السّلطة السياسية حيث كانت لهم مساحة لإبداء مواقفهم إلاّ أنّهم افتقدوا الشخصيّة اللاّزمة لإثبات استقلاليتهم.
وفصل ثانٍ: بينا فيه الجانب الاجتماعي والثقافي في العلاقة بين العلمي والسيّاسي في المجتمع القيرواني وقد عالجنا هذا الفصل من خلال ثلاث عناصر رئيسيّة وأخرى فرعيّة، أوّلها: الجانب الاجتماعي حيث عرف المجتمع القيرواني تباينا لفئاته وتنوّعا في نسيجه الاجتماعي وهذا برأينا نتيجة طبيعيّة للظروف السيّاسية والاقتصادية الّتي أثرت في صياغة ملامح المجتمع الذي تميز بتنوع طبقاته: طبقة الخاصة وتظم الأمراء والوزراء والولاّة وقادة الجند والأعيان وتملك هذه الطبقة النفوذ والسيطرة وتعيش حياة البذخ والإسراف ناهيك أنّ أغلب الأمراء اهتمّوا ببناء القصور الضخمة[3] أمّا الطبقة الوسطى تظمّ التجار الذين ساهموا في ازدهار التّجارة داخل القيروان وخارجها وساهم في ذلك موقع القيروان الاستراتيجي وكثرة الموانئ المنتشرة على شاطئ المتوسّط، كما نجد طبقة الفقهاء وكنّا قد بيّنا تصنيفهم في فهارس التّراجم، كما يمكن تصنيفهم حسب الوضعيّة الماديّة فمنهم من ينعم بالمال الوفير مثل إسماعيل تاجر اللّه وهو الذي بنى المسجد الكبير المعروف بجامع الزيتونة وطبقة العامة وشملت السواد الأعظم من الرعيّة والعبيد والغلمان والجواري وكلّ أولئك يكافحون من أجل الرزق وأهمّ ما يميّزهم الفقر والبؤس، كما مثّل مرضى الدمنات فئة بائسة ومنبوذة وقد سخر بعض فقهاء القيروان أنفسهم لخدمتهم وتقديم يد العون لهم مثل محمّد أبي حميد الّذي انتقل من القيروان إلى دمنة سوسة وخدم المرضى من الجذماء حتّى صار مثلهم ضريرًا ومجذومًا[4] ما نستنتجه أنّ الطبقة الضعيفة مثل الرّقيق والعبيد ساهموا في تطوّر البنية السّكانية لإفريقيّة من خلال نشاطاتهم التّجارية ومساهمتهم في الشؤون السيّاسية لأصحاب السّلطة.
ثانيها: أهميّة المذهب المالكي يُنسب إلى مالك بن أنس (93ه/711م) إمام دار الهجرة وأحد الأئمة عند أهل السنة انتشر المذهب المالكي في المرحلة الأولى بمصر يقول القاضي عياض “وأمّا أرض مصر انتشر بها مذهب مالك بعد المدينة وكان الغالب على القيروان مذهب المدينة والكوفة إلى أن دخل علي بن زياد والبهلول بن راشد وأسد بن الفرات وغيرهم مذهب مالك فأخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيّامه”. يقر البعض بازدواجية المذهب المالكي والحنفي فقد تميزوا بالتعايش فسرته العلاقة الجيدة بين علماء المذهبين ومنهم من يرجع أسبقية المذهب الحنفي في الدخول إفريقيّة مبررهم تقدم أبي حنيفة زمانيا على مالك، وتكمن أهمية المذهب المالكي في انتشار العلم والمعرفة فسرته كثرة الكتابات التي تهم المذهب في إفريقية أو غيرها من الحواضر الإسلامية. ومن أسباب انتشاره يمكن أن نذكر رحلة الحجّ الّتي وفرت فرصة الالتقاء بمالك وأصحابه والاقتداء به كما مثّلت رحلة طلب العلم سببا رئيسا حيث قدِم إلى القيروان بعض فقهاء المالكيّة مثل يحيي الهاشمي (255ه/839م)، وتكمن أهميّة المذهب في كثرة المصنّفات المتعلّقة به مثل موطأ مالك والمدوّنة الكبرى لسحنون وقد اختصرها أبي زيد في مختصره وأبي سعيد البرادعي لخّصها في كتاب التهذيب، وتظهر أهميّته أيضا في اهتمام المستشرقين به مثل برشيه ترجم رسالة أبي زيد القيرواني، وكانت لبرنشفج مجادلات في العصور الوسطى حول مذهب مالك[5]
تعتبر المساجد والزوايا النواة الأولى للعلم والمعرفة في القيروان منذ اللحظات التأسيسية ذكر الدباغ فضل المساجد السبعة وكانت هذه المساجد تحمل أسماء التابعين وهذا العدد الوفير من المساجد يمكن أن نفسره بالرغبة القوية لدى المسلمين في ترسيخ الدين واضطلعت بوظائف دينية وسياسية ففيها كان يعقد الأمراء الاجتماعات اليومية لأخذ رأي الأمة في الشؤون المهمة علاوة على أن أغلب فقهاء القيروان كانوا يمارسون القضاء بالمسجد أو بمكان مخصص لذلك ومنه أيضا تطلق صيحات الجهاد أو التحريض، أمّا اليوم أصبحت المساجد مرتبطة بحاجات إيديولوجيّة، بات من الضروري مراقبة مهمّة الإمام وإعادة تكوينه مع ضرورة تثمين مكانة المساجد في عهد هؤلاء الفقهاء لأنّ مكانتها وخطابها كان أكثر وضوحا ونجاعة. وللربط نفس المكانة والقيمة في ترسيخ التعليم والدين فسحنون كان يتوجه إلى رباط المنستير في شهر رمضان مع عدد من الفقهاء ويعود إلى القيروان بعد انتهاء ليلة القدر، لكن دورها اليوم يقتصر فقط على كونها معالم أثرية تستحق الزيارة.
ثالثا: الأثر الثقافي للعلاقة بين العلمي والسياسي وقد عالجنا ذلك من خلال القيم السائدة والعادات والتقاليد ذلك أنّ كل ثقافة لا يمكن أن تكون إلاّ حصيلة طبيعية للتراكم التّاريخي الذي أحدثه مجموعة من الأفراد وهذا حال المجتمع القيرواني، ودراسة الثقافة لا يمكن أن تكون إلاّ من خلال الجزئيّات المكوّنة لها مثل سلوك الناس وأسلوب حياتهم ونوع اللّباس المتصل بتلك الهيئة والصفة وفهم الرموز الدالّة على ذلك وسلوك المرأة تجاه الرجل ونوع القيم والأحكام الّتي كانت تنظم المجتمع، وقد كان الفقهاء والعلماء حريصين بشدّة على ترسيخ هذه القيم مثل العدل في الأحكام والمساواة بين الفئات بغض النظر على المكانة الاجتماعيّة ناهيك أن سحنون قبِل القضاء على أن يطبّق القضاء في عائلة الأمير.
كما أعطى أهل القيروان قيمة كبيرة للجنائز الّتي كانت منبرًا خفيّا للصراعات السياسية والعقديّة، فمحنة سحنون الأولى معروفة بخلق القرآن كان سببها صلاة الجنازة خلف ابن أبي الجواد وهو قاضي القيروان وكان يذهب إلى رأي الكوفيين ويقول بالمخلوق[6] كما كانت للمقابر قيمة كبيرة في مدونة الدباغ مثل مقبرة قريش ومقبرة باب سلم ومقبرة البلوية الّتي دّفن فيها الصحابي أبو زمعة البلوي، وقيمة هذه المقابر مازالت راسخة إلى يومنا هذا أصبحت تسمى مقام سيدي الصحبي يقصده الزوار من كلّ الأصناف ومن مختلف الطبقات الاجتماعيّة والمستويات الثقافيّة وهو مقام مبارك لديهم. كما ازدهرت الثقافة داخليّا وخارجيا بفضل العلماء والفقهاء والحكام وذلك بانتقال العلماء من مدينة إلى أخرى بغرض بث العلم والمعرفة خارج القيروان إمّا عن طريق الرحلة أو عن طريق مؤلفاتهم الّتي انتشرت في أقطار عربيّة وأجنبيّة مثل كتاب الإمامة لمحمد بن سحنون(ت256ه/870م) لما وصل هذا الكتاب إلى بغداد كُتِب بماء الذهب وأُهدي إلى الخليفة [7] كما كانت لرسالة أبي زيد شهرة عجيبة انتشرت في سائر بلاد المسلمين حتّى بلغت العراق واليمن والحجاز والشام ومصر وصقليّة وجميع بلاد إفريقيّة والأندلس وبلاد السودان وتنافس النّاس في اقتنائها” وهذا الأثر الثقافي لم يكن مجهود العلماء وحدهم فقد كان للحكّام نصيب من ذلك ترميم المساجد ودور العبادة وانشاء بيت الحكمة والسعي إلى المحافظة على استقامة السلوك .
توصلنا في الفصل الثاني إلى أنّ علاقة الثقافة بالسيّاسية وثيقة ناهيك أنّ أغلب الأمراء ساهموا في بناء وترميم المعالم الثقافية وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال مفاده أيّهما أسبق الثقافة أو السيّاسة؟ من الثابت ومن المتحول؟ نقرّ في الإجابة عن هذه الأسئلة أنّ المؤشرات الدّالة على وجود ثقافة في القيروان بصفة خاصّة وإفريقيّة بصفة عامّة كانت متوفرة إضافة إلى توفر رؤى ومناهج تتعلّق بالتربيّة والتعليم من خلال آداب المعلّمين لمحمّد بن سحنون حيث بيّن في طرق ومناهج للتعليم للتكوين نظنها ناجعة وهي صالحة أن تكون ضمن المناهج التربوية الحديثة نظرا لما نراه من سوء المناهج ومن عدم العدل بين الطلبة وغيرها من النقائص الّتي نصّ عليها ابن سحنون.
[1] الدباغ: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، تصحيح وتعليق إبراهيم شبّوح، المكتبة العتيقة، (د-ت)، تونس، ج1، ص24
[2] وجه زيادة الله شجرة بن عيسى القاضي(ت262ه/875م) في أربعين شيخًا من أشياخ تونس يناشده الله ويُرغِّبه في الطاعة ويعرفه بماله في ذلك من الحظّ في دينه ودنياه/ ابن عذاري: البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب، حققه بشّار عوّاد معروف ومحمود بشّار عوّاد، ط1، دار الغرب الإسلامي، تونس 2013، ج1ن ص137
[3] إبراهيم بن الأغلب لم تمض سنة على توليه إفريقيّة إلاّ وبنى مدينة القصر القديم وزيادة الله قم بتحصين القصر القديم وابن الغرانيق عاش حياة الإسراف وبنى قصرا يخرج إليه لصيد الغرانيق/ ابن عذاري: نفس المصدر، ج1، ص ص 136/156
[4] الدباغ: نفس المصدر، ج2، ص 171
[5] بدوي (عبد الرحمن): موسوعة المستشرقين، ط3، دار الملايين، بيروت، 1993، ص91
[6] الدباغ: نفس المصدر، ج2، ص93
[7] نفس المصدر، ج2، ص127
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *