د.عبد الله شكربة
يكتسي الإشهار أهمية كبرى في المجتمع، سواء كان الإشهار بضاعة أو فكرة أو قيمة فإنه لابد للمنتج من الإشهار. والإشهار قديم قدم الإنسان، وقد تطور الاهتمام به بتطور الثورة الصناعية التي عرفها ولازال يعرفها العالم. وهكذا أصبحت الوصلة الاشهارية يتدخل فيها مجموعة من المتخصصين. وقبل أن يصل إلى هذه المرحلة فقد قطع أشواطا وخاض في أشكال من التجارب الإعلانية.
لقد كان الإنسان دائما في حاجة لعرض حاجته المادية )السلع ( والمعنوية )الأفكار(. وحيث الأمر كذالك فإننا لا نستغرب أن يكون الإنسان قد عرف الإشهار منذ القدم واستعمله بوسائل وأشكال مختلفة، كالأشكال الكتابية المتنوعة، حيث كتب الإنسان إعلانه على ورق البردي(المصريون) والكتابة على الحجارة والجدران والرسم عليهما(بابل ومدينة تبسة الجزائرية) والإعلان في اللافتات حيث كان يعلق قدماء الإغريق خارج حوانيتهم اللافتات التي تحمل أخبار بضائعهم”[1]. وإلى جانب الأشكال الكتابية كان الإنسان يستعمل الأشكال الشفوية كاستعمال المنادين(قدماء مصر وعرب الجاهلية) الذين كانوا ينادون في الناس إخبارا عن قدوم بضاعة أو عرضا لمزاياها أو إخبارا بقانون جديد أو مرسوم….الخ.
ومن الأشكال المتميزة التي مارس الإنسان بواسطتها الإشهار نجد الشعر العربي. فقد وجدنا في سياق بحثنا في تاريخ الإشهار نصوصا شعرية تتوفر فيها كل أو جل شروط الوصلة الاشهارية الحديثة. وهو ما نحاول إثباته من خلال استنطاق بعض النماذج الشعرية.
و كمثال عن ذلك نسوق نصين شعريين لحسان بن ثابت. ففي النص الأول يذم فيه الشاعر الخمر ثم يعود فيعرض محاسنها. يقول” أتيت جبلة بني الأيهم الغساني وقد مدحته فقال لي يا أبا الوليد(كنية حسان) إن الخمر قد شغفتني فاذممها لعلي أرفضها فقلت:
ولولا ثلاث هن في الكأس لم يكن ثمن من شارب حين يشرب
لها نزق مثل الجنون ومصرع دنى وإن العقل ينأى و يعزب
فقال جبلة أفسدتها فحسنها لي فقلت:
ولولا ثلاث هن في الكأس أصبحت كأنفسِ مَالٍ يُسْتفادُ ويُطْلَبُ
أمانُّيها والنفس تظهر طِيبَها عَلَى حُزْنها والهمُّ يُسْلَى فيذهب
قال: لا جرم لا أدعها أبدًا“.[2]
والحق إن هذا النص يعد وصلة إشهارية بامتياز، ذلك أن جبلة الغساني هو المنتج (صاحب السلعة) والمستهلك في نفس الوقت، والخمر هي السلعة، وحسان بن ثابت هو الاشهاري أو صاحب الوكالة الاشهارية، والشعر هو الوسيلة التي يستعملها الاشهاري(حسان) في عرض مزايا السلعة المشهر لها.
وقد أحسن حسان ووفق في إشهاره، والدليل إقبال المستهلك(جبلة الغساني) ورأيه في البضاعة.
أما النص الثاني فقد هجا فيه حسان بن ثابت بني عبد المدان وكانوا أشرافا طوال الأجسام كالعمالقة فقال فيهم:
لا بأس في القوم من طول وعظم جسم البغال وأحلام العصافير
وبعد أن انتشر هذا البيت بين القبائل صار بنو مدان أضحوكة بين الناس فكانوا يعيرونهم و يسخرون من طولهم حتى قالوا لحسان” والله يا أبا الوليد تركتنا ونحن نستحي من طول أجسامنا بعد أن كنا نفاخر بها العرب، فقال حسان سأصلح منكم ما أفسدت ثم قال:
وقد كنا نقول إذا رأينا لدى جسم يعد وذي بيان
إنك أيها المعطى بيانا وجسما من بني عبد المدان”
ومن أروع ما قيل من شعر بغية الدعاية والإشهار، ما نطقت به قريحة الشاعر المتعبد مسكين الدرامي، المشهورة ب” قل للمليحة في الخمار الأسود”:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبدِ
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى وقفت له بباب المسجدِ
ردي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحق دين محمدِ
وقصة هذه الأبيات أن تاجرا باع خمره كاملة إلا الأسود منها، فلجأ الى مسكين الدارمي الذي اعتزل الشعر، ولزم المسجد من أجل العبادة والنسك، فطلب منه أن ينظم شعرا في بضاعته الكاسدة، فكانت هذه القصيدة. ولما شاع الخبر أن مسكين الدارمي ترك المسجد والعبادة بسب امرأة جميلة تلبس خمارا أسودا، تنافست النساء وسارعت في شراء الخمر الأسود حتى نفذت البضاعة من التاجر.
فالنص الذي بين أيدينا وثيقة صريحة على توظيف العرب الشعر في الدعاية والإشهار. ومثل هذه الأشعار الإشهارية كثيرة، فقد كان الشاعر ينظم الشعر إظهارا لمزايا شيء أو تخويفا منه، أو طردا للعنوسة، أو إظهارا لمزايا القوم في الشجاعة والبطش والكرم أو للدعاية السياسية…الخ.
[1]أحمد عيساوي،(1420 -1992) الإعلان بمنظور إسلامي، كتاب الأمة. قطر. ع. 71 ص: 38
[2]أبو الفرج النهرواني( المتوفى:390ه) الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، تحقيق، عبدالكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 306
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *