تقديم:
يعتبر موضوع التواصل من أهم القضايا التي شغلت بال الدارسين والباحثين في هذا العلم، ذلك أن التواصل علم يبحث في “المميزات الخاصة في كل نظام من العلامات مستعمل بين كائنين (حيين أو تقنيين) يهدف إلى غايات تواصلية”[1]. ولفهم موضوع التواصل جيدا نقترح إلقاء نظرة تاريخية عن مدارس التواصل ورواده والتخصصات التي بحثت فيه.
نميز هنا بين ممارسة التواصل والبحث فيه، فالإنسان مارس التواصل منذ القدم، لارتباط التواصل بالحاجات البيولوجية والاجتماعية…إلخ أما التواصل كبحث فهو مرتبط بالتطور الفكري والثقافي والتكنولوجي، ” فالتواصل خاصية طبيعية ترافق البشرية منذ البداية وهو عملية آلية وضرورة بيولوجية، أما الوعي به فهو خاصية ثقافية مجردة مرتبطة بتطور الفكر الفلسفي والنقدي حول حدود التواصل في الزمان والمكان. وهذا الوعي هو الذي ساهم بالدرجة الأولى في تطور تقنيات ونماذج التواصل”[2].
يعود البحث أو الوعي بالتواصل إلى العقود الأولى من القرن العشرين بالولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، حيث تضافرت جهود الباحثين الذين ينحدرون من تخصصات مختلفة كالرياضيات وعلم النفس وعلم الاجتماع وهندسة الاتصال. وسنحرص في هذا المقال على ذكر أبرز الباحثين أو المدارس التي ساهمت في تحديد موضوع التواصل.
1) مدرسة شيكاغو : أبرز روادها هم شارل كولي وهربيرت هيد وجون ديوي، تخصصوا في السوسيولوجا وبحثوا في التواصل، وقد تركزت مواضيع بحوثهم على ثلاث نقط هي :
– التركيز على التفاعل الاجتماعي والوصف والعلاقات البينشخصية.
– الاستفادة من إسهامات علم الاجتماع التطبيقي.
– رفض اعتبار التواصل مجرد نقل إرساليات، بل اعتبروه سيرورة رمزية تبنى الثقافة وتحافظ عليها[3].
2) مساهمات بول فيليكس لازار سفيلد : كان متخصصا في الرياضيات وعلم الاجتماع، درس الرياضيات في جامعة فيينا ثم انتقل في الثلاثين من القرن الماضي إلى نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، يعتبر من أبرز الباحثين في التواصل، انصب بحثه في التواصل حول وسائل الاتصال الموجودة أنداك (الإذاعة) حيث اهتم بنقطتين أساسيتين في البحث :
الأولى : تتمثل في دوافع اختيار الجمهور لبرنامج دون غيره، والثانية في استعمالهم لمحتوى البرنامج ومدى تأثيره في سلوكهم. وقد ترك الباحث كتبا اعتبرت رائدة في عصرها من بينها ” اختيار الناس” كتاب مشترك بينه وبين بيير لسون وجودي (1944) وكتاب التأثير الشخصي الذي شاركه في إنجازه الباحث كاتز(1955).
3) مساهمات لاسويل: محلل سياسي درس العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ثم اهتم بعد ذلك بالدعاية، حيث ألف كتابا رائدا في مجال الدعاية معنون بالدعاية التقنية في عام الحرب (1927). خلص الباحث في دراسته للدعاية إلى النقط التالية :
– يعتبر وسائل الاتصال الجمهوري تؤدي دورا بارزا في تشكيل الوعي الوطني.
– ركز في دراسته للدعاية على محتوى التواصل.
– اهتم بالعلاقة الرابطة ما بين الدعاية وتشكل المواقف الآراء.
4) مساهمة كورت لوين : أخصائي في علم النفس الاجتماعي، اهتم بشكل أساسي بالمشاكل المتعلقة بالتواصل داخل الجماعة وبنماذج الجماعة المتعلقة بالتواصل، فهو يتصور الجماعة ككائن حي يبقى اتساقه وتجانسه المطبوع بالشك، محصلة للقوى المضادة[4].
5) مساهمة كارهوفلاند : أخصائي في علم النفس التجريبي، تميزت دراسته للتواصل بانقسامها لمرحلتين :
مرحلة ما قبل الحرب: حيث اهتم بكيفية تشكل المواقف.
مرحلة ما بعد الحرب : اهتم بآليات الإقناع حيث بوأته مكانته المهنية باعتباره مديرا للدراسات التجريبية بقسم الحرب إلى دراسة آلية الإقناع عند الجنود الأمريكيين، وخلصت أبحاثه إلى النتائج التالية :
– قوة الإقناع مرتبطة بالمميزات الاجتماعية للجمهور موضوع الملاحظة.
– تأثر رسالة المرسل بحسب الخلفيات المسبقة لدى الجمهور حول المرسل.
– مقاومة الجمهور لرسالة المرسل في البداية على الأقل، إن كان لا يحظى بالثقة الكاملة.
6) مساهمة شانون وويفر : وقد اختصا في هندسة الاتصال، يرجع إليهما الفضل الكبير في تحديد اللبنات الأولى للتواصل، حيث انصب بحثهم على قياس رياضي جبري للمعلومة كوحدة يمكن تقليصها إلى حدها الأدنى، كي تنخفض تكلفة نقلها عبر التلغراف[5] في كتابهما المعنون ب ” التطبيق الرياضي للاتصال”. حيث حددا الخانات أو العوامل الستة لقيام تواصل معين يمكن التعبير عنهما في الخطاطة التالية ”
الخطاطة رقم (1)
هدف | مستقبل | إشارة | مرسل | مصدر
|
||||
|
|
|||||||
وسيلة اتصال
|
||||||||
تداخل
أو تشويش
|
7) مساهمة الحرب العالمية و وسائل الاتصال في تحديد موضوع التواصل.
يتبين مما سبق ذكره أن المواضيع التي اهتم بها أولئك الباحثين هي الدعاية والإقناع ووسائل الاتصال (الإذاعة و التلغراف على وجه الخصوص).
إذا ربطنا هذه المواضيع بزمانها ومكانها واستحضرنا مجموعة من الأحداث والمتغيرات كالحربين العالميتين، الأولى والثانية، وبداية تشكل القوتين العظيمتين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سابقا، ورغبة الطرفين في البروز قوة عالمية. يتبين أن البحث في التواصل كان نتيجة لهذه الأحداث وتأثرا بها، خاصة أن البحوث المنجزة لم تكن تدرس التواصل لذاته أو علما مستقال بذاته له قواعده وضوابطه، بل كان ضمن تخصصات متنوعة، كعلم الاجتماع، وعلم النفس التجريبي والتطبيقي، والرياضيات والعلوم السياسية وهندسة الاتصال … إلخ. لقد “كان للحرب العالمية الثانية وقعا ملحوظا على البحث في مجال التواصل”.[6] ولم تكن وسائل الاتصال أقل شأنا من الحرب العالمية بل “برهنت وسائل الاتصال و من ضمنها الإذاعة في المقام الأول على الدور القوي الذي كانت قادرة على لعبه لدى الجمهور ومن ثم تجلت بوضوح ضرورة أخذها بعين الاعتبار”.[7]
8) مساهمة المدرسة التجريبية والنقدية :
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتراكم عدد مهم من البحوث، وتوافد عدد نوعي من الباحثين للبحث في التواصل حصل نوع من الاتفاق لدى الدارسين الذين أنجزوا بحوثا في التواصل إلى ضرورة “خلق علم مستقل، غير أنهم اختلفوا على مستوى تصورهم لهذا الأمر و من ثمة بدأت تظهر مشاكل وصراعات مختلفة”. هذه الاختلافات والصراعات أدت إلى ظهور “مدرستين كبيرتين في مجال التواصل والاعتراف بهما رسميا. وهما المدرسة التجريبية بقيادة لازار سفيلد، والمدرسة النقدية بقيادة كل من موركايم وأدورنو وماركوز وفروم”[8].
اختصت المدرسة الأولى ب”الطريقة الكمية وبالوظيفة الوضعانية” أما المدرسة النقدية فقد ربطت كل فعل تواصلي بالسياق الاجتماعي الذي نشأ فيه. وهي على ما يبدو متأثرة بالفكر الماركسي، إذ تعتبر أنه لا يمكن تصور نظرية شاملة للتواصل بدون تحديد نظرية للمجتمع، كما أن الفعل التواصلي لابد أن يستحضر الإشكالية التالية : “من يتحكم في التواصل ؟ لماذا ؟ لمصلحة من ؟
لم تصمد المدرسة النقدية ولا التجريبية طويلا أمام التطور الذي عرفه علم التواصل، فتفرعت المدرسة التجريبية إلى مقاربات مختلفة محافظة على مطالبها الرئيسية. وتوزعت المدرسة النقدية أيضا إلى عدة تيارات. هيمن موضوع الإقناع و دور وسائل الاتصال على جل الدراسات التي اهتمت بالتواصل إلى حدود ستينيات القرن الماضي. كما أن الباحثين المهتمين بالتواصل وإلى حدود الثمانين كانوا ينحدرون من تخصصات مختلفة (علم الاجتماع، علم النفس، الرياضيات، خبراء سياسيون …) أما في العقود الأخيرة فقد “اختفى الارتهان بمجالات أخرى بشكل تدريجي وأصبح الملتقى التواصلي تخصصا قائما بذاته ومتسما بصرامته المتمثلة في الأقسام الجامعية المتخصصة وبرامج الدكتوراه وتقاليد في البحث ومجلات وتنظيمات علمية”[9].
9) التواصل عند بلومفيد :
يحدد بلومفيد التواصل اللساني تحديدا سلوكيا في القصة المشهورة المعروفة لجيل وجاك “يتنزه جاك وجيل في ممر ضيق تشعر جيل بالجوع وتشاهد تفاحة فوق شجرة، تحدث جيل أصواتا بواسطة حنجرتها ولسانها وشفتيها، يقفز جاك من فوق الحاجز ، يتسلق الشجرة، يأخذ التفاحة ويضعها في يد جيل، تأكل جيل التفاحة”[10].
التواصل حسب بلومفيد مبني على المثير والاستجابة. أحست جيل بالجوع ورأت الطعام فرغبت في الأكل، فالجوع ورؤية أو رائحة الطعام هي مثيرات بالنسبة لجيل، وتعد الحركات من أجل الوصول إلى الطعام هي بمثابة رد فعل. و رد الفعل هذا ما كان ليكون لو بقيت جيل صامتة، وفي هذه الحالة (صامتة) كانت جيل ستكون أمام خيارين : إما أن تقطف التفاحة بنفسها أو أن تبقى جائعة. و يرى بلومفيد أن جيل إن لم تتكلم كانت ستكون “في نفس وضعية الحيوان المحروم من الكلام”[11] وعليه فالرجل يحلل الواقعة وفق ما يلي:
- قبل الكلام = الجوع + رؤية الطعام
- الكلام
- بعد الكلام : قيام جاك بحركات ومنح جيل التفاحة. فالكلام عند بلومفيد هو الحلقة المركزية في العملية التواصلية، إذ هو الوسيط أو الحلقة الرابطة بين المثير والاستجابة. فلو بقيت جيل صامتة بفعل ظروف معينة كالخجل مثلا لما كانت العملية التواصلية.
10 ) التواصل عند سوسير :
بخلاف بلومفيد الذي ربط التواصل بالمثير والاستجابة الرابط بينهما الكلام فإن فريناند ذو سوسير ربط التواصل بالتحاور عندما تحدث عن دورة الكلام، كما أنه اشترط في إتمام العملية التواصلية (وجود شخصين على الأقل). وهناك من يعتبره أبا التواصل.[12] يقول الرجل موضحا كيف تتم العملية “لنأخذ مثلا على ذلك شخصين (أ) و (ب) يتبادلان حديثا بينهما، إن نقطة انطلاق المدار تكمن في دماغ أحد المتحاورين، لنقل المتكلم (أ) مثلا، حيث تترابط وقائع الضمير المسماة تصورات مع تمثيلات العلامات اللسانية، أو الصور السمعية المستخدمة في التعبير عنها، ولنفترض أن تصورا ما يثير في الدماغ صورة سمعية مماثلة : فهذه ظاهرة نصية تتبعها ظاهرة أخرى آلية غير بيولوجية”.[13] يحدث إذا شيء ما في دماغ (أ) يدفع عضلات النطق لتنتج الأصوات المناسبة، هذه الأصوات تنقل عبر الموجات الصوتية من فم (أ) إلى أذن (ب) ثم إلى دماغه. إذا أجاب (ب)، تنتج دورة كلامية أخرى، و هذه المرة يتم النقل من دماغ (ب) إلى فمه ثم إلى أذن ودماغ (أ)، و هكذا دواليك ما دامت المحادثة قائمة”[14]. ويلخص سوسير ذلك في الخطاطة التالية [15]:
الخطاطة رقم (2)
السمع النطق
م = مفهوم ص = صورة صوتية |
السمع لنطق
و يمكن تلخيص خصائص العملية التواصلية عنده في ما يلي :
– أنها تشترط وجود شخصين على الأقل (متكلم و مستمع).
– العملية التواصلية تنبني على الحوار بين الشخصين.
– الوسيط في العملية التواصلية مبني على عمليتين:
الأولى : فيزيولوجية (النطق والسمع) والثانية فيزيائية (الموجات الصوتية).
كما أن العملية التواصلية عند سوسير يمكن تمثيلها وفق العناصر الستة التي حددها رومان جاكسون كما سنرى. حيث يمثل المتكلم (المرسل) والمستمع (المتلقي أو المستقبل) والرسالة (هي موضوع الحوار) ولابد لهذا الحوار من قناة يعبر عبرها التي هي (اللغة).
غير أن العملية التواصلية لا يمكن أن تتم بين متكلم لا يعرف إلا العربية، ومستمع لا يتكلم إلا بالصينية مثلا. إذ لابد لهما من الاشتراك في السنن، ولابد للرسالة من سياق تحيل عليه.
11 ) التواصل عند رومان جاكبسون :
يعتبر رومان جاكبسون من أبرز المساهمين في نظرية التواصل، إذ حاول إخراج اللسانيات من مأزق القصور على المنظومة اللغوية المعتمدة على جملة من العلامات والرموز، فأرسى الأسس المنهجية لدراسة الوظيفة الشعرية fontion poétiqe))[16]. وهكذا استطاع إظهار الوظائف الست للعناصر الستة التي يعتبرها مكونة لكل قضية لسانية، ولكل تواصل كلامي،[17] وهذه العوامل الستة هي المرسل والمرسل إليه والرسالة والقناة والسنن والسياق.
1) المرسل : (destinatair ) استعمل هذا العنصر بتسميات مختلفة (المخاطب / الناقل / المتحدث / المتكلم (أ) ) لكن المعنى واحد؛ فالمرسل هو مصدر العملية التواصلية والركن الحيوي بها، فغيابه يعني غياب الباعث الأول الموجه للرسالة موضوع التواصل.
“وتختلف القيود المنطقية والمنهجية المتعلقة بالمرسل حيث وضعه التخاطبي وطبيعة خطاب المرسل إليه، فخطاب سياسي موجه إلى كل الناس لا يتحتم فيه على رجل السياسة أن يوظف كل الأنظمة اللسانية التي يكون فيها المستقبلون على لياقة تداولية معتبرة، والخطاب العادي يختلف عنه أيضا من حيث قيوده أن يكون بسيطا في سننه (…) بينما يتعالى الخطاب الشعري وتزداد فيه التملصات والانفلاتات من عالم الواقع أو الإطار المرجعي للنظام اللغوي المستخدم، فتتحطم أمامه بعض القيود”[18].
2) المرسل إليه : (destinataire) ويدعى أيضا بالمتلقي والمستقبل، والمرسل إليه هو الركن الثاني في العملية التواصلية، حيث يقوم “بعملية التفكيك (décodage) لكل أجزاء الرسالة سواء أكانت كلمة، أم جملة، أم نصا …”[19] ونميز هنا بين نوعين من المرسل إليه، الأول مباشر وهو الذي يتحد فيه المرسل مع المرسل إليه زمانا ومكانا، كالمحاورة اليومية، والثاني غير مباشر قد يتحد فيه المرسل مع المرسل إليه زمانا دون المكان، و يتميز هذا النوع بتعدد المرسل إليه كالتواصل الجمهوري ( التلفزة والإذاعة مثلا).
3) الرسالة : (message) هي موضوع العملية التواصلية والجانب الملموس فيها. وهي إما أن تكون صور سمعية عندما يكون التواصل شفهي، أو علامات خطية في التواصل الكتابي، أو عبارة عن إشارات ورموز بالنسبة للصم والبكم. وقد حددها قاموس اللسانيات تحديدا عاما يشمل الرسالة اللغوية وغير اللغوية، كإشارات المرور والإشارات البحرية حيث اعتبرت ” وحدة الإشارات المتعلقة بقواعد تركيبات محدودة (مضبوطة ) يبعثها جهاز البث (الإرسال) إلى جهاز الاستقبال عن طريق قناة تستعمل كوسيلة مادية للاتصال”[20].
4) السنن : code)) يطلق عليه أيضا مصطلح اللغة والنظام والقدرة. يدل السنن “على نظام ترميز un code)) مشترك كليا أو جزئيا بين المرسل والمتلقي”[21]. “و يمثل السنن القانون المنظم للعملية التواصلية إذ منه ينطلق المرسل في إرساله الرسالة وإليه يعود عندما يستقبل تلك الرسالة، فيفكك رموزها بحثا عن وضعيتها التواصلية. ونجاح العملية الإبلاغية في وضع تخاطبي ما يعتمد في الأساس على هذا النظام المشترك”[22].
5) السياق : (contexte) سبق وقلنا أن كلمة (contexte) ثم الاختلاف في ترجمتها اسما ومعنى، فمشال زكريا ترجمها بمحتوى لغوي، أما الدكتور محمد الحناش فقد ترجمها بالسياق وقصد بها الظرف الذي قيلت فيه الرسالة، وترجمها أنطوان أبو زيد بالمرجع (référant) و يرى الدكتور رايص نورالدين أن سبب هذا الاختلاف راجع إلى جاكبسون الذي ” وقع في خلط، مما جعل كثيرا ممن ترجموا، سواء بالفرنسية أو العربية ـفي لبس كذلك”.[23] ويوضح سبب هذا اللبس في محاولة جاكبسون شرح السياق بالمرجع ويا ليته اقتصر على ذلك ولم يضف الشرح التالي ” … المرجع الذي يحسه المستقبل، وهو إما كلامي أو قابل لأن يكون كلاميا”[24]. إن “لكل رسالة مرجع تحيل عليه، وسياق معين مضبوط قيلت فيه، ولا تفهم مكوناتها الجزئية، أو تفكك رموزها السننية إلا بالإحالة على الملابسات التي أنجزت فيها هذه الرسالة، قصد إدراك القيمة الإخبارية للخطاب”[25]. وقد ذكر الطاهر بومزبر ثلاثة أمور ينبغي استحضارها في السياق وهي :
الموقع : مطابقة الخطاب لمعطى زمكاني.
الهدف : يؤكد أن الهدف هو الغاية القوية لكل عملية تواصلية.
المشاركون : و يراعى فيهم عددهم ومميزاتهم الشخصية وحجم علاقاتهم الاجتماعية والعاطفية…الخ
6) القناة: (canal) لكل رسالة تواصلية لابد لها من قناة تعبر بواسطتها وسلامة هذا الممر يؤدي إلى سلامة الرسالة التواصلية، وقد أكد على هذا الأمر ميشال زكريا بقوله ” وتتطلب المرسلة أخيرا توافر قناة اتصال تحقق الاتصال وتبقيه قائما”[26].
هذه هي العوامل الستة التي حددها رومان جاكسون لكل تواصل كلامي. ويمكننا اختصار هذه العوامل الستة في الخطاطة التالية: [27]
الخطاطة رقم (3)
|
|
||||
|
|
ـ و ينتج عن كل عامل من هذه العوامل وظيفة لغوية حاضرة في كل رسالة تواصلية مع هيمنة وظيفة لغوية دون الباقي بحسب نوعية العامل المركز عليه، وهو ما يؤكده الرجل بقوله ” إننا وإن كنا نميز المظاهر اللغوية الستة هذه، فمن الصعب أن نجد رسائل تؤدي وظيفة واحدة فقط. ويكون تنوع الرسائل في التمايز التدريجي بين الوظائف وليس في سيطرة وظيفة ما أو أخرى. فالبنية الكلامية للرسالة ترتبط قبل كل شيء، بالوظيفة السائدة، ولئن يكن التركيز على المحتوى (أو الوظيفة المسماة تعينية أو إدراكية أو مرجعية) هو المهمة السائدة بالنسبة لرسائل عديدة. فينبغي على اللساني اليقظ أن يأخذ بعين الاعتبار المساهمة الثانوية للوظائف الأخرى لهذه الرسائل”[28].
1) الوظيفة التعبيرية : (Function expressive) ويطلق عليها أيضا بالوظيفة الانفعالية وتتركز حول المرسل وتهتم بالقضايا والمواقف التي يعبر عنها. فعندما يصدر المتكلم كلاما فإن هذا الكلام يعبر عن أفكار في الغالب. هذه الأفكار يمكن إعطاء موقف منها، فنقول عنها أنها إيجابية أو سلبية، جميلة أو قبيحة.
2) الوظيفة الإفهامية : (Function cognitive) ويطلق عليها أيضا الوظيفة التأثيرية والوظيفة الندائية وترتبط هذه الوظيفة بالمرسل إليه وتظهر أكثر “في النداء والأمر الذين ينحرفان من وجهة نظر تركيبية وصرفية وحتى فونولوجية في الغالب، عن المقولات الاسمية والعقلية الأخرى، وتختلف جمل الأمر عن الجمل الخبرية في نقطة أساسية، فالجمل الخبرية يمكن أن تخضع لاختبار الصدق، ولا يمكن لجمل الأمر أن تخضع لذلك”[29].
وتتميز هذه الوظيفة بأمرين :
أنها ذات طابع لفظي مبني على النداء والأمر.
لا تخضع قيمتها الإخبارية للتقييم لورودها في أسلوب إنشائي.
3) الوظيفة المرجعية : (Function referential) ويطلق عليها أيضا الوظيفة المعرفية ” وهي قاعدة كل تواصل، إنها تحدد العلاقات القائمة بين الرسالة والموضوع الذي ترجع إليه، لأن المسألة الأساسية تكمن في صياغة معلومة صحيحة عن المرجع، وتكون موضوعية ويمكن ملاحظتها والتأكد من صحتها”[30]. وبالتالي فهذه الوظيفة تركز على المحتوى الذي يشكل التبرير الأساسي لعملية التواصل.
4) الوظيفة الانتباهية: (Function phatique ) وتسمى أيضا بوظيفة إقامة الاتصال، ويكمن دورها في كونها صمام أمان للتواصل، فبواسطتها نستطيع الحفاظ على التواصل أو قطعه أو إضعافه أو إطالته أو التأكد من استمراره، كقولنا ونحن نتكلم بالهاتف ” ألو أتسمعني “.
5) وظيفة ما وراء اللغة: (Function metalinguistique) ويطلق عليها أيضا بالوظيفة البيانية وهي مرتبطة بالسنن، وتستعمل هذه الوظيفة ” عندما يشعر المتخاطبان أنهما بحاجة للتأكد من الاستعمال الصحيح للسنن الذي يوظفان رموزه في العملية التخاطبية”[31] كقول المستمع ” إنني لا أفهمك وضح أكثر”
6) الوظيفة الشعرية : (Function Poétique)ويطلق عليها أيضا الوظيفة الجمالية. وتظهر هذه الوظيفة عند التركيز على الرسالة الشعرية، وهي الدراسة اللسانية للوظيفة الشعرية في الكلام اللفظي عموما، والشعر خصوصا، فالوظيفة الشعرية تركز على الرسالة اللفظية مهما كان جنسها لكنها بدرجات متفاوتة، فهي لا تستقل بفن القول وحده، كما لا تقتصر عليه فقط”[32]. إذن هذه هي الوظائف الستة التي نتجت عن عوامل التواصل كما حددها رومان جاكسون. و يمكن تلخيصها في الخطاطة التالية :
الخطاطة رقم (4)
|
|
|
|||
|
عبد القادر الغزالي،(2003) اللسانيات و نظرية التواصل رومان جاكسون نموذجا ط،1 ص: 24[1]
يوسف آيت همو، من التواصل إلى التواصل الشعبي، مجلة فكر و نقد، ع 36 ، 2010 ،ص: 99[2]
عبد الكريم غريب،(2008) التواصل و التنشيط الأساليب و التقنيات، ص: 7 – 8[3]
حسن مستر، لا وعي التواصل. التواصل نظريات و تطبيقات. الكتاب الثالث س. فكر و نقد ط 1 ،ص: 11[5]
عبد الكريم غريب، التواصل والتنشيط ص 13[6]
[8] المرجع السابق، ص: 14
التواصل نظريات و مقاربات ص: 84[10]
[12] Christian bachman jacqueline lindenfield jackq simonin. Langage et communication sociales.p:17
التواصل نظريات و مقاربات ص: 82[13]
جاك مارتيني : التواصل نظريات و مقاربات ترجمة عزالدين الخطابي و زهور حوتي ص: 83[14]
الطاهر بومزير، (2007) التواصل اللساني و الشعرية مقاربة تحليلية لنظرية رومان جاكسون ط 1 ص: 23[16]
الدكتور رايص نورالدين، نظرية التواصل و اللسانيات الحديثة ص: 95[17]
التواصل اللساني و الشعرية مقاربات تحليلية لنظرية رومان جاكسون ص: 24 – 25[18]
نظرية التواصل و اللسانيات الحديثة ص: 99[23]
التواصل اللساني و الشعرية ص: 30[25]
نقلا عن نظرية التواصل و اللسانيات الحديثة ص: 95[26]
التواصل اللساني و الشعرية ص: 34[27]
نقلا عن نظرية التواصل و اللسانيات الحديثة ص: 101[28]
نقلا عن التواصل اللساني و الشعرية ص: 39[29]
نظرية التواصل و اللسانيات الحديثة ص: 104[30]
التواصل اللساني و الشعرية ص: 46[31]
[32] المرجع السابق،ص:52
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *