أسس المشروعية لدى الدولة السعدية بين العصبية القبيلة والمرتكزات الدينية
سليمان ازوير
باحث في سلك الدكتوراه
مختبر التاريخ والتراث والمجتمع في الحوض المتوسطي
إشراف: د. حفيظة الدازي
كلية العلوم الانسانية والاجتماعية
جامعة ابن طفيل
القنيطرة – المغرب
مقدمة
تحول السعديون من قادة يتزعمون حركات جهادية تؤطرها الزوايا، ويدعمها الحماس القبلي، إلى قادة سياسيين يرأسون دولة لها مؤسسات سياسية، عسكرية، وإدارية منظمة، أنتجت دولة قوية مهابة الجانب، سرعان ما عرفت انهيارا سريعا بعد مرحلة أحمد المنصور. صعود سريع، وانهيار أسرع منه، المعطى الذي طرح لدى العديد من الباحثين إشكاليات حقيقية حول الدوافع التي ساهمت بداية في الـتأسيس لمشروعية الحكم، لصالح الأسرة السعدية دون غيرهم، والعوامل التي أدت إلى نقض هذه المشروعية وانتهت بالدولة السعدية إلى ما آلت إليه من سقوط سريع؛ منذ التوجه الأول نحو الشيخ عبد الله بن المبارك، ثم منه إلى الشريف “أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان”، وسواء كانت هذه الدوافع ذات أثر مباشر، أو ساهمت ضمنيا في التطورات التي حصلت، فإن الدور الذي قامت به كان محددا أساسيا في توجيه الأحداث.
المغرب في هذه الفترة التاريخية، منذ السنوات الأولى من القرن السادس عشر الميلادي، عرف تغيّرا جذريا في مسار الأحداث، ليس فقط على مستوى المستجدّات التي أملتها التحولات الجيواستراتيجية، سواء منها الإقليمية أو الدولية؛ بل حتى على مستوى الأسس والقوانين النظرية التي تتحكم في قيام أو سقوط الدول بشكل دوري، والمقصود هنا بالأساس؛ نظرية ابن خلدون، التي جعلت من العصبية القبلية، محددا أساسيا لهذا التعاقب، نذكر هذا؛ ونؤكد في نفس الوقت على نسبية هذا التحليل، فسقوط الدولة السعدية فيما بعد، والظروف التي أحاطت به، يجعلنا لا نتسرع في إطلاق الأحكام، والخروج بالاستنتاجات، أو الحسم المبكر في نتائج الاستقراءات الممكنة؛ على اعتبار أن ظروف قيام الدولة السعدية عرفت بعض السياقات التاريخية، التي تدفع الباحث إلى تجنب المغامرة، سواء في عدم اختزال الأسس التي نهضت عليها في العصبية القبلية أو العكس، بالنظر إلى الزخم الديني الذي أطّره شيوخ الزوايا على مراحل ومجالات مختلفة، مستلهمين من الوضع الاستثنائي الذي كان عليه المغرب مرتكزات قيميّة بنوا عليها مشروعيتهم المجتمعية، التي ستعرف مع الوقت التطور اللازم المؤدي لبناء الدولة، فالعصبية عند ابن خلدون تحدد قوة الدولة عند قيامها، لكن “الدعوة الدينية” تزيد الدولة قوة بعد قوة العصبية.
من جهة أخرى، فرغم العجز الذي أبداه زعماء القبائل في توحيد صفوفهم، بعد ظهور الإرهاصات الأولية لسقوط الدولة الوطاسية، انسجاما مع ما كان عليه الوضع في المغرب منذ قرون، سواء مع قيام وسقوط دولة المرابطين، أو الموحدين، أو حتى مع المرينيين، الأمر الذي كان ملهما في جزء كبير منه لابن خلدون في بناء أسس نظريته حول قيام وسقوط الدول، لدرجة جزمه بأن كل التفاصيل السابقة أو اللاحقة عن تأسيس الدولة، هي نتاج خالص للعصبية القبلية، “فالمطالبات كلها والمتابعات كلها لا تتم إلا بالعصبية”؛[1] فلم يحصل بالمغرب طيلة الفترات التاريخية السابقة، أن لم تجد عصبية ما من الظروف المواتية للفعل السياسي كما وجدت بعد عجز الدولة الوطاسية عن توحيد البلاد. من المؤكد أن هناك من الأسباب الموضوعية التي لم تتوفق معها الدولة الوطاسية في تحقيق هدف الوحدة، لكن العصبيات الأخرى الموازية، المتجلية في القيادات المحلية التي كانت منفصلة سياسيا عن الدولة المركزية، فشلت بدورها في الفعل، وهو ما يجعل التساؤل مشروعا حول استمرار النظرية الخلدونية في إعادة صياغة نفسها.
إن عجز أيّ من القبائل المغربية في هذه الفترة عن إعطاء البرهان على القدرة لتكون مدار تحول يفتل في مركزية العصبية التي نظّر لها ابن خلدون، جعل هذه النظرية في حد ذاتها غير قادرة لوحدها “على إسناد مشروع توحيدي ذا طبيعة مركزية مثلما كان الأمر مع المرابطين والموحدين”،[2] بحيث يظهر بشكل لافت مرتكز الشرف كعنصر ينضاف إلى مرتكز الجهاد، مسنودين بسياسة مجتمعية حصرت مداخيلها الجبائية في الضرائب الشرعية، ليكوّنوا جميعا دعامات دينية أساسية، ستتحول معهما العصبية إلى عنصر لاحق بدور ثانوي، غير مؤثر بشكل رئيسي في بناء أساس الدولة المستقبلية.
هل يمكن تأكيد هذا المعطى؟
بنظرة تحليلية مركّزة إلى مسار السعديين منذ انطلاق حركتهم إلى تثبيت حكمهم، مرورا بالانتصارات التي حققوها في البداية الأولى، سواء ضد البرتغاليين أو الوطاسيين، وانتهاء بتوحيدهم للبلاد والقضاء على القيادات المحلية، تظهر الأهمية القصوى لهذه المرتكزات الثلاث: النسب الشريف، الجهاد، والضريبة الشرعية، في بناء مشروعية الحكم لدى الدولة السعدية، ويتجلى بالمقابل قصور واضح على قدرة العصبية القبلية لوحدها في التأسيس لهذه المشروعية كما دأبت على الفعل.
أولا: هل هي عصبية قبلية؟
ظلت العصبية القبلية هي المحرك الأساسي في تأسيس الدول مدة طويلة من تاريخ المغرب، إلا أن الأمر بالنظر إلى الكثير من الدراسات التي تناولت بالبحث الأسس التي قامت عليها الدولة السعدية؛ سيختلف نسبيا مع الظروف والمعطيات التاريخية التي واكبت نشأتها، والتي جعلت من أطروحة ابن خلدون القائلة بأن عصب الملك وقوامه هو العصبية القبلية، “غير ذات وظيفة إجرائية من جهة التعليل التاريخي والتفسير الاجتماعي”،[3] وبالتالي غير ذات تأثير كبير في مسار تأسيس الدولة السعدية التي ارتكزت أكثر على النسب الشريف، أو حسب تعبير محمد القبلي “عصبية-دينية-اجتماعية”؛ كمقوم إيديولوجي تبلور على مهل منذ عهد المرينيين، الذين بدورهم لم تكن “دولتهم قائمة على أي أساس قبلي متضامن متحد”،[4] والتجأت إلى الأشراف على تنوع أصولهم وامتداداتهم الاجتماعية، وتمددهم المجالي، لتزكية مشروعية حكمهم واستمراريته، وهكذا –يقول جاك بيرك- لم تعد السلطة بالمغرب تعتمد على العصبية القبلية، بل اتخذت منطلقا آخر، وحاولت الاعتماد على مكانة الأشراف لتبقى بعيدة عن ضغوط المجتمع.[5]
يؤكد عبد الله العروي هذا المعطى بقوله: “التحليلات الخلدونية؛ -وإن كانت لا زالت تفيد على المستوى المحلي، فإنها لم تعد صالحة لتفسير الانتصار السعدي”.[6]
ربما لم تعد صالحة للاضطلاع بدورها كاملا دون مقومات أخرى تسندها، فأمام واقع مجتمع قبلي مرتبط أخلاقيا وروحيا ببدايات الإسلام المثالية، قد كان السعديون أشد حرصا على استثمار عدة مرتكزات مختلفة قد تكون العصبية عنصرا مهما يفتل في نفس مسارها إلى أبعد الحدود، وهو ما نجحوا في تحقيقه بالفعل، خاصة أن الظروف كانت مهيأة على جميع الأصعدة لتنزيل مشروعهم على أرض الواقع.
نود في هذا المبحث أن ننطلق من هذه الأفكار، لنبني على منوالها بعض الافتراضات المختلفة، التي قد تكون ربما توطئة للحصول على استنتاجات أخرى، قد لا تتخذ من نفس المستوى النظري مسارا لها. فأخذا بعين الاعتبار السياقات الأولى لظهور الدولة السعدية ومقارنتها بسيرورتها ثم زوالها، تجعل الباحث أمام افتراضات حقيقية تهم العلاقة بين نظرية ابن خلدون ونشأة الدولة السعدية.
ألا يمكن الجزم بأن الدعوة الدينية التي استندت عليها الحركة السعدية في بداياتها، ساهمت في تقوية العصبية، التي جاءت لاحقة عنها بعد التحالف الثلاثي بين الحركة الجزولية، والأسرة السعدية ثم القبائل السوسية؟
في الطرح الخلدوني نجد أن العصبية هي مُحدِّد أساسي في قيام الحكم، فبِها “يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها”،[7] لكنه يؤكد في نفس الوقت أن هذه العصبية في حاجة لازمة لعنصر مُهذِّب يُذهب الأخلاق الذميمة، والعلاقات الجافة التي تميز أهل العصبية الواحدة، هذا العنصر أطلق عليه ابن خلدون “الصبغة الدينية”، ومنطلقه في هذا الطرح هو الحديث الصحيح: (ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه)،[8] فيُفهم من الحديث أن العصبية هي المقصودة بالمنعة في الحديث الشريف، “فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب، وكان فيه محقا، قصر به الانفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك، وأما إن كان من الملبِّسي[9] بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق، وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له، والنصيحة للمسلمين”.[10]
من هذا المنطلق؛ فالعصبية بدون محدد ديني في نظر ابن خلدون هي مهلكة، وإذا كانت هذه العصبية تحدد بشكل أساسي قوة الدولة عند قيامها، فإن “الدعوة الدينية” تزيد الدولة قوة تنضاف إلى قوة العصبية.
إذا افترضنا أن القبائل السوسية التي هبّت لنصرة حركة الأشراف، قد تُعتبر في حقيقة الأمر عصبية قبلية متشكّلة، عضدت قيام الدولة ذات المنطلق الديني الجهادي الدعوي، فيصعب التسليم بأن نظرية ابن خلدون لم تكن ذات تأثير كبير في مسار تأسيس الدولة السعدية؛ وربما تعبير محمد القبلي بأنها “عصبية- دينية- اجتماعية”؛ أقرب إلى التوصيف المطابق لواقع نشأتها، فالتحالف الثلاثي بين الأشراف والزاوية الجزولية والقبائل السوسية، أفرز هذه الثلاثية التي ذكرها محمد القبلي، والتي يمكن اعتبارها غير بعيدة تماما عما أثّله ابن خلدون في تنظيره وطرحه للعصبية القبلية في علاقتها بالصبغة الدينية ودورهما المتشابك في قيام الدولة.
اندرج ما حقّقه السعديون في بداية حركتهم من انتصارات، ضمن هذا الإطار المرسوم سلفا. الذي كان سببا في فسح المجال أمام ظهور حركة سياسية مدعومة مجتمعيا، تستند إلى النسب الشريف؛ قد “يكون السعديون بدون عصبية محددة”،[11] كما ذكر عبد الله العروي، وكما أكد ذلك العديد من المفكرين والباحثين قبله، لكنها سلطة جديدة تختلف في أساسها عما كان معهودا في بلاد المغرب إلى ذلك الحين، لا تستند إلى أية عصبية قبلية؛ ومسنودة في نفس الوقت بالقبائل ذات العصبية السوسية، والنسب الشريف، ثم نشاط الزوايا الذي يتجاوز العصبية والانقسامات القبلية.
بهذا تتعدد الركائز التي نهضت على أساسها الدولة السعدية، وهو ما يفسر سهولة تجاوز بعض السلاطين لبعضها فيما بعد، ومحاولتهم إعادة بناء مشروعية دولتهم، في استقلال تام عن بعض المرتكزات التي قامت عليها. الاستقلال الذي يمكن اعتباره محددا في مدى القرب أو البعد عن نظرية ابن خلدون في شقها المتعلق بالعصبية ذاتها.
محاولة إعادة تأسيس مشروعية الدولة التي قام بها محمد الشيخ بتحييده لشيوخ الزوايا، وإنزالهم لمستوى العامة وجعلهم سواسية معهم في أداء ضريبة النائبة؛ مع استحضارنا للترابط الحاصل عضويا ومعاشيا بين الزوايا والقبائل أفرادا وجماعات، هو في حقيقة الأمر تجاوز صميمي للعصبية القبلية السوسية، التي اعتمدت عليها –افتراضا- الحركة السعدية في بناء مشروعيتها، وتشبث واضح بمرتكز النسب الشريف المرتبط عضويا بالصبغة الدينية.
التعاقب الدوري في نظرية ابن خلدون حول تاريخ الدول والعمران البشري، محكوم بمراحل محددها الأساسي التأثير الذي تحدثه العصبية في الجماعة؛ من الحياة البدوية إلى الدولة، إلى العمران والحضارة، إلى التفكك والاضمحلال بانحلال أواصر العصبية، فتسقط الدولة.
إذا صح افتراضنا السابق، هل يمكن اعتبار أن الدولة السعدية قد دشنت لسقوطها منذ اللحظة التي قرر فيها محمد الشيخ إعادة إنتاج مشروعية دولته في استقلال تام عن الزاوية، أو بتعبير آخر محاولته المركزة لفصل الصبغة الدينية عن العصبية، بتنازله طواعية عن مرتكز مهم هو مرتكز الضريبة الشرعية، وما قد يترتب عن هذا الإجراء من فقدان لعصبية مفترضة قد تتضرر بتضرر الشيوخ والأولياء والزوايا، التي تشكل محاضن اجتماعية؛ حتى دون أن تكون الدولة في عهده قد وصلت إلى مستوى الترف الحضاري الموجب للسقوط التدريجي حسب نظرية ابن خلدون؟
الأحداث التالية عن الصراع بين الدولة والزوايا الذي أحدثه قرار تعميم الضرائب، وحتى بعد تولي أحمد المنصور الحكم، وما عرفه المغرب من ثورات متزامنة، ومن اضطرابات متكاثفة بعد وفاته، قد تعضد هذا الطرح إلى حد بعيد.
حسب عبد الله العروي دائما “فنشاط الزوايا يتجاوز بكيفية ما، الانقسامات القبلية”،[12] استغله الأشراف السعديون في بداياتهم بتحالفهم مع شيوخ الزوايا، بهدف توحيد القبائل، لأجل إنتاج عصبية داعمة، في أفق تحقيق مشروعية الحكم، وهو ما تحقق بالفعل، وقاوموا بالتالي المحتل الأجنبي، وقضوا على الوجود الوطاسي، والوحدات السياسية الأخرى، ثم “وحّدوا البلاد في إطار ولاء تام شامل للأشراف الممثلين في الأسرة الحاكمة”.[13] هذا الولاء الكبير للأشراف جعل محمد الشيخ بعد اطمئنانه لاستتباب الأمر له، يفكر في تدعيم مرتكز النسب الشريف، على حساب بقية المرتكزات الأخرى التي بنت عليها الحركة السعدية مشروعيتها؛ وهو ما ستكون له تبعات اجتماعية غير محمودة ما تبقى من عمر الدولة السعدية.
ثانيا: شرف الانتساب بين آل البيت والزاوية
التحليل الطويل الذي تقدم به محمد القبلي، في كتابه “مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط” وخاصة الفصل الموسوم ب “مساهمة في تاريخ التمهيد لظهور دولة السعديين”، حاول أن ينفذ من خلاله وبعمق واضح، إلى تلك العلاقة التاريخية الجدلية بين الصوفية والزوايا من جهة، والأشراف على تنوع مشاربهم من جهة أخرى، لا سيما في علاقتهم جميعا بظرفية تاريخية كانت فيها الدولة المرينية في أمس الحاجة إلى مشروعية اجتماعية تسند بها وجودها السياسي، محاولا أن يخلص في الأخير إلى أن التحالف الذي قام به فيما بعد الأشراف السعديون مع الزاوية الجزولية، هو نتاج للسياسة المرينية السابقة المتعلقة بالأشراف عموما.
تحليل رصين بدرجة عمق فريدة، سلط من خلاله “محمد القبلي” الضوء على القضية المتعلقة بالدعم الذي كانت تقدمه الدولة المرينية إلى الأشراف على العموم، في محاولة منها لاكتساب مشروعية افتقدتها في العصبية، سواء كان هؤلاء الأشراف أدارسة أو صقليين، أو حتى أشراف سجلماسة وغيرهم..، وكيف أن هذا الدعم وضع هذه الفئة خارج التصنيف المجتمعي، بحيث أضحت لها امتيازات نخبوية جعلت نسبة كبيرة من أفراد المجتمع المغربي حينذاك في شبه نفور منهم، “وأصبحت هذه الفئة تستمد نفوذها من الدولة أكثر مما تستمده من التعاطف الشعبي التقليدي، فارتبط مصيرها بمصير الحكام، وأخذ وزنها يتضاءل لصالح الصوفية”.[14]
الذي يهمنا في هذا الطرح ليست نسبيته، من حيث كون المعطيات التي تقدم بها تعضده وتسند محتواه؛ لكن نرى أنه من الواجب أن نتساءل بدورنا ونحن نحاول استشفاف دور مرتكز النسب الشريف في بناء أسس المشروعية السياسية للدولة السعدية؛ من خلال استقراء مركز للمصادر، وكذلك الدراسات التي اهتمت بالموضوع، عن العلاقة التاريخية بين الصوفية والشرفاء؟ وهو تساؤل مشروع في ظل ما استخلصه محمد القبلي من نتائج حول هذه العلاقة.
هل فعلا كانت علاقة تجاذب وتعارض؟ أم كانت علاقة تكامل وتحالف؟
أم أن هذه العلاقة في حد ذاتها هي علاقة ذات واحدة، على اعتبار أن الأولياء وشيوخ الزوايا في معظمهم كانوا من آل البيت وشرفاء؟.
المثير في هذا التحليل والخلاصات التي تقدم بها محمد القبلي، هو أنه أعطى لقيام دولة الأشراف السعديين بعدا سيروريا مرتبطا بشكل مسبق بعلاقتهم بالدولة المرينية، وهنا قد يكون بعض التجاوز من طرف أستاذنا عن الكثير من التفاصيل الدقيقة التي شكلت العلاقة بين الشرفاء والدولة المرينية من جهة، ومن جهة ثانية تاريخ تواجد السعديين على أرض المغرب ومدى اتصالهم بمركز الحكم على فترات تمتد بأثر رجعي إلى فترة حكم المرينيين، من خلال استنتاجه بشكل يقيني، أن السعديين استفادوا من استثنائهم من الدعم المادي والمعنوي الذي استفاد منه معظم الأشراف إبّان فترات مختلفة من تاريخ حكم المرينيين، اعتبارا لعدم اتصالهم بالدولة المرينية، عندما كانت تحاول استقطاب الأشراف لبناء واستمرارية مشروعيتهم السياسية والاجتماعية، فهم لم يكونوا من شرفاء الدولة ولا من الشرفاء المستفيدين، والغالب -يقول- “أن هذا العامل قد لعب دورا لا يستهان به في اختيار الصوفية لهم من دون سائر أشراف البوادي بالشمال أو الجنوب”.[15] وبالتالي فابتعادهم الافتراضي عن السلطة طيلة فترة حكم الدولة المرينية جعلهم في منأى عن التصنيف المجتمعي السلبي، واستفادوا بالضمن من هذا المعطى عندما حلت الفرصة المناسبة للتصدي للحكم والسلطة.
كان التسليم بهذه الاستنتاجات ليكون مسألة تلقائية وبدون ملاحظات تذكر، لو أن محمد القبلي اعتبر أن الفارق الزمني هو الفاصل في هذه القضية، على اعتبار أن الفترة التي كان فيها الأشراف يتلقون الدعم من الدولة المرينية، لم تتزامن مع الظهور الأول للأسرة السعدية على واجهة الأحداث، بل بالعكس من ذلك تزامن بروز السعديين مع تراجع المرينيين وامتناعهم عن مواصلة تقديمهم الدعم لعموم الأشراف، وخاصة في الفترة التي حكم فيها السلطان أبا سعيد الثالث (1398_1420)، إلا أنه اعتبر ابتعادهم العضوي المباشر عن السلطة المرينية، هو العامل الأساس في استثنائهم من الدعم المادي والمعنوي الذي استفاد منه معظم الأشراف في هذه الفترة.
فحسب العديد من المصادر، وكذلك الدراسات التي اهتمت بظروف ونشأة الدولة السعدية، نجد أن الأشراف السّعديين انتقلوا من ينبع الحجاز إلى واد درعة الأوسط بجنوب المغرب، ما بين زاكورة وتامكروت، في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم هاجر البعض منهم إلى الشمال، في منتصف القرن الخامس عشر، واستقر بقرية صغيرة تدعى تيدسي؛ تقع بجنوب غرب تارودانت على مقربة من الولي الصالح أبي عبد الله بن المبارك الذي نشر بالسوس عقائد الجزولية؛ ومن ذلك الحين ابتدأ الدور الديني للسعديين”.[16] بمعنى أن الأدوار الحقيقية للسعديين لم تبدأ في الظهور إلا مع منتصف القرن الخامس عشر، وهو المعطى الذي نستنتج منه حداثة تواجد هذه الفئة من الأشراف على أرض المغرب، مقارنة مع الأدارسة وبقية فروع الأشراف؛ وقد نجزم أن عدم تلقيهم للدعم المريني ليس استثناء لهم، بل كان سببه المباشر هو الوجود غير المؤثر لهم إلا في أواخر فترة حكم الدولة المرينية، والتي تزامنت فعلا مع تراجع هذه الأخيرة نفسها عن تقديم دعمها لعموم الأشراف، وهو ما يؤكده محمد القبلي نفسه استنادا إلى ما أورده الحسن الوزان في معرض حديثه عن الأمداح النبوية،[17] بقوله: “ويبدو أن السلطان أبا سعيد الثالث (800_823/1398_1420) قد شمّر على ساعد الجد منذ مطلع عهده للاطلاع بمهمة تعديل سياسة أجداده إزاء الأشراف، فبدأ بإزالة مراسيم الاحتفال بعيد المولد النبوي على الصعيد الرسمي”.[18]
استفاد الشرفاء السعديين من حداثة وجودهم على أرض درعة، ولم يكن بالإمكان تحجيمهم ولا تهميشهم من طرف السلطة، أو نفور العامة منهم، اعتبارا لهذا المعطى فقط، وبالتالي اعتبارهم عندما قررت القبائل السوسية، والزاوية الجزولية التحالف معهم؛ “بعيدون كل البعد عن شبهات التعامل مع الحكم”.[19]
وحتى افتراض أن ابتعاد السعديين عن الحكام وعن بقية الأشراف في الفترة المرينية، قد حكم عليهم بالعزلة المادية والمعنوية، مما سمح برواج الرواية القائلة بأنهم ليسوا من سلالة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هم من سلالة مرضعته حليمة السعدية،[20] يعتبر ربطا لا منطقيا لقضية مختلف حولها وهي انتساب السعديين لآل البيت النبوي؛ باستنتاج غير مرتكز على أسس تأريخية مضبوطة.
خلاصة القول أن الأشراف السعديين، كان لتحالفهم التاريخي الاستراتيجي الذي قاموا به مع الزاوية الجزولية، ذات الحضور المجتمعي المكثف في هذه الفترة، دورا مهما في إبراز مرتكز النسب الشريف، في ظل “الاعتراف الذي حظوا به كشرفاء عندما تبوأوا السلطة”.[21] وقد كان لهذا المعطى دور حاسم في التمكين للسعديين بين سكان القبائل السوسية، ولم يكن هذا ليحصل دون دعم مباشر من المؤسسة الصوفية، وشيوخ الزاوية الجزولية، اعتبارا للتقدير الذي كان يحظى به هؤلاء لدى مجمل مكونات المجتمع المغربي في منطقة السوس. وبالتالي نفترض أن مرتكز النسب الشريف كان حاسما في بناء المشروعية الاجتماعية والسياسية للدولة السعدية منذ البداية، بحيث يعود له الفضل أكثر من غيره من المرتكزات، لكونه “مثل نقطة الانطلاق وميزة اختيارهم لإمارة الجهاد”.[22]
ثالثا: الشرعية الجهادية
بعض الدراسات اعتبرت أن مساهمة مرتكز الشرف في تدعيم قوة السعديين وقيام دولتهم، كانت مساهمة متواضعة، مقارنة بقدراتهم الحربية والوحدوية، التي عرفوا بها كصحراويين في نجاح مشروع الدولة،[23] والتي يمكن إجمالها في مرتكز الجهاد، على اعتبار أن دور السعديين كان واضحا منذ البداية على مستوى الأداء الحربي الجهادي.
نفترض بدورنا أن عامل الجهاد كان عنصرا حاسما ارتكزت عليه الدولة السعدية في بناء مشروعيتها، لكنه جاء تاليا بعد عنصر النسب الشريف، وليس سابقا عنه؛ في نظرنا الطرح الذي تقدمت به هذه الدراسات يعتبر نسبيا من وجهتين:
الأولى؛ أن المبادرة التي قامت بها القبائل السوسية في التوجه نحو الشريف محمد بن عبد الرحمان، لم يكن دافعها دراية هذه القبائل المسبقة بقدرته، وأبنائه، الحربية الجهادية، أو عزيمتهم المعروفة والمتواترة في توحيد الجهود، فهذه المزايا –إن وجدت- لم تكن ظاهرة أو معلومة لدى عموم الناس، وإنما جاءت بعد التحالف الثلاثي الذي أبرم بين القبائل السوسية، و”محمد بن عبد الرحمان” أحد أشراف “تاكمادارت” ببلاد درعة؛ بتوجيه من عبد الله المبارك، أحد شيوخ الزاوية الجزولية: “فلو بعثتم إليه وبايعتموه كان أنسب لكم وأليق بمقصودكم”،[24] فكان أساس هذه المبادرة الصلاح، والنسب المنتهي إلى آل البيت النبوي.
والثانية؛ إن كان هذا الطرح صحيحا، فلم يكن من المفروض أن يعرف ترويج السعديين لنسبهم الشريف، كل اللغط الذي رافقه، والرفض الذي قوبل به أثناء أو بعد تأسيس الدولة السعدية، فالمعلوم أنه يكن هناك إجماع حول انتهاء نسبهم لآل البيت النبوي،[25] لو لم يكن لهذا المعطى قوة رمزية كبرى تجعله حاسما في بناء وتأسيس مشروعية الحكم في هذه الفترة التاريخية، لدرجة أن يحاول الوطاسيون بدورهم ولو بشكل متأخر انتحال هذا النسب، ومحاولتهم تدارك النقص المفترض في أعين العامة من ناحية النسب الشريف القرشي أمام منافسيهم السعديين”.[26]
إن مرتكز الجهاد جاء معضدا لمرتكز النسب الشريف، مضافا إليه؛ شكلا معا عنصرين أساسيين في بناء مشروعية الدولة السعدية. فالجهاد كان دوما عاملا أساسيا منذ المرابطين والموحدين، والدولة المرينية وإن افتقدت –حسب بعض الدراسات- لهذا المرتكز، بحيث لم يكن لهم أي مشروع قائم على الإصلاح الديني وعلى الجهاد كوسيلة لتحقيقه،[27] فإنها حاولت أن تستمد هذه الشرعية بكل الوسائل، تارة بوضع أنفسهم تحت قيادة الحفصيين ذوي الأصول الموحدية كمرحلة أولى، أو بالتمسح بها مباشرة عبر حمل مشعل الجهاد المرابطي والموحدي في الأندلس من جديد فيما بعد.[28]
إن التغيرات الاستراتيجية على الساحة الاقليمية في عهد الوطاسيين، فرضت عليهم أن يسلكوا مسلك الجهاد، ليس بحثا عن مشروعية افتقدها بنو عمومتهم المرينيين على الأغلب، وإنما فرضه واقع الاحتلال المتزايد للأراضي المغربية في هذه الفترة التاريخية، وتشرذم القوى المتحكمة في المجال السياسي المغربي، وبالتالي حاول الوطاسيون في أول الأمر الظهور بمظهر المدافع عن سلامة البلاد ووحدتها، وهو الأمر نفسه الذي حصل مع مختلف الوحدات السياسية الحاكمة في مختلف أرجاء البلاد بشكل متزامن، خاصة تلك التي قامت في المناطق الشمالية، وكان الفشل مصحوبا بخيبة الظن المجتمعي؛ ملازما وقاسما مشتركا بينهم جميعا، -الاستثناء هنا نسبي بالنسبة لأسرة آل راشد بشفشاون والمناطق المحاذية-، حيث أن كلا من هذه الوحدات السياسية -أو معظمها على الأقل- كان غرضه الأساس هو استغلال ظروف الجهاد لتركيز نفوذه الداخلي، بمعنى أن اهتمامهم كان ينحصر في النظر إلى المصالح الخاصة قبل أي اعتبار آخر.[29]
هذا التنافس الذي حصل بين قوات الوحدات السياسية المختلفة، كانت له نتائج معاكسة لمرامي الجهاد الشرعية والعرفية المجتمعية، بحيث أدى في الكثير من الأحيان إلى التقرب من المحتل ومهادنته والتعامل معه، وهو الأمر نفسه الذي انتهجته حتى السلطة المركزية المتجلية في الدولة الوطاسية، رغم المحاولة المتأخرة التي أطلقها السلطان الوطاسي محمد البرتغالي (1505-1526)، من خلال الدعوة العامة للجهاد سنة 1512م، والتي تكللت بعدة انتصارات مهمة، لاسيما في مراكش والمعمورة سنتي 1515 و 1516م.
الأوضاع المتأزمة المكثفة والمتتالية، أدخلت المجتمع المغربي في دائرة من فقدان الأمل والحسرة الجماعية لما آلت إليه أوضاع البلاد وأحوال العباد، هذا الواقع المزري الذي أصبح يعيشه المغاربة جعلهم يتشوفون إلى قيادة جديدة تحمل مشعل الجهاد ضد الاحتلال الإيبيري، وإذا أخذنا بعين الاعتبار السياقات التي أنتجها تغلغل فكر الزوايا بالمغرب في هذه الفترة التاريخية، وخاصة بالجنوب حيث الزاوية الجزولية، فإن سقف انتظارات المغاربة ارتفع بوجود ذهنية جماعية تؤمن بما رسخه مؤسسها “محمد بن سليمان الجزولي” في أذهان الناس من أفكار ذات أبعاد دينية وصبغة سياسية، كانت في الأصل متواجدة ومنتشرة منذ عقود، فقام بتحويلها إلى عقيدة متماسكة، لتستثمرها الزاوية فيما بعد لتجييش مخيال الناس ومشاعرهم وكسب موالاتهم.[30]
الجهاد باعتباره مفهوم له بعده المقدس في الذهنية الجماعية للمسلمين، تفرضه العقيدة الإسلامية للدفاع عن البلاد والعباد، وأخذا بعين الاعتبار ما كان يعرفه المغرب من احتلال فرضته ظروف المستجدات الإقليمية، وعجز السلطة المركزية عن توحيد الجهود ومجابهة الأطماع الأجنبية؛ كان له دوره الكبير في التفاف القبائل المغربية على الدعوة السعدية الناشئة، لخوض المعركة من أجل التوحيد السياسي للبلاد الموزعة آنئذ بين زعامات جهوية مستقلة، ثم كبح جماح الأطماع الإيبيرية، من خلال محاولة استرجاع الأراضي والمدن المحتلة، اعتبارا للخطط العدوانية الإيبيرية المتواصلة ضد الأمة المغربية، ومقدساتها الدينية، في تهديد خطير لوحدة البلاد وسيادتها السياسية، بحيث تم بسط النفوذ البرتغالي على مينائي آسفي وأزمور، في عهد الملك “عمنوائيل الأول”؛ الذي اعتلى العرش سنة 1491م، بواسطة الاتفاقيات التي أبرمها مع مشايخ القبائل في هاتين المنطقتين، مستغلين ضعف الحكم الوطاسي، وعانى المغاربة خاصة في منطقة آسفي من تدخل النفوذ الأجنبي، حيث “أذاقهم البرتغاليون ألوانا من العذاب، وأهانوا المعابد الدينية، فنقضوا بعضها حجرا على حجر، بينما جعلوا المسجد الكبير محلا للقاذورات، وعبثوا بالمحارم، واستباحوا التجارة في الأحرام فباعوا أهلها جهارا، وسفكوا الدماء، ونهبوا الأموال، وهدموا الدور”.[31] وبعد سيطرتهم الكاملة على مدينتي آسفي وأزمور، وكذلك ماسة وموكادور ومازاكان، تطلعوا للسيطرة على مدينة مراكش، لكن حملتهم باءت بالفشل، كما باءت بالفشل أيضا حملتهم لاحتلال موقع المعمورة المنفذ البحري لمدينة فاس في نفس السنة.
يظهر أن البرتغاليون كانت لهم خططا أخرى لاحتلال كل السواحل المغربية على المحيط الأطلسي؛ نستنتج هذا المعطى التاريخي اعتبارا لمجموعة من الحقائق التاريخية المتزامنة إذاك؛ فمن جهة ضعف السلطة القائمة في المغرب، ونقصد الدولة الوطّاسية، وعجزها عن أي رد فعل حقيقي تجاه الوجود البرتغالي، ثم طموح الدولة البرتغالية في احتلال المزيد من الثغور المغربية، وهو طموح مدفوع -من جهة أولى- بحمية صليبية،[32] أشرفت عليها الكنيسة الكاثوليكية، ثم من جهة ثانية إدراك البرتغاليين لأهمية تواجدهم على السواحل المغربية، منذ السنوات الأولى للكشوف الجغرافية، بحيث عمدوا منذ ذلك الحين (1447م)، إلى ربط شيوخ القبائل المجاورة لمدينة أكادير باتفاقيات، نظرا لما لمينائها من أهمية استراتيجية، حيث انطلاقا من أوائل القرن السادس عشر، استطاع المغامر “جواو لوبيز سيكيرا (Joao Lopes Sequira)” عقد اتفاقيات تُخوّل له وضع يديه على مناطق من الساحل المغربي على المحيط الأطلسي، وحلّت الحكومة البرتغالية فيما بعد محلّه بعد أن تنازل لها عن جميع حقوقه سنة 1513م، وأصبحت المنطقة تحت إشرافها المباشر”.[33]
هذه المعطيات التاريخية –وغيرها يضيق المجال لتتبعها بالتفصيل- عن تمدد الوجود البرتغالي في المغرب على عهد الدولة الوطاسية، وما أفرزه من ردود أفعال مجتمعية غاضبة، وعاجزة في نفس الوقت، كانت سببا قويا في التفاف القبائل المغربية؛ خاصة في منطقة السوس، حول القوة الناشئة المتمثلة في الأسرة السعدية، ثم “الدعم الذي استفاد منه السعديون، منذ البداية، من بني معقل وخاصة الشبانات، وذوي منصور”[34] حيث اعتبرت بعض الدراسات الجدية أن “تضامن السوس ودرعة وتافيلالت، عند بداية الدولة السعدية يعود إلى المساندة الإثنية لعرب المعقل، إذ نهض هؤلاء جميعا بعدها بحماس كبير لجهاد البرتغاليين.. يرغبهم في ذلك صلحاء الزاوية الجزولية”.[35]
يجد الباحث في الاستنتاجات التي تقدمت بها العديد من الدراسات التي اشتغلت على موضوع البدايات الأولى لنشأة الدولة لسعدية، الكثير من المجهودات الحقيقية التي حاولت ربط بواعث الجهاد في هذه الفترة التاريخية لدى أطياف المجتمع المغربي بما رسخته وثبتته أفكار الزاوية الجزولية في أذهان الناس، التي كانت نتيجته هبة جماعية تلبية لنداء الجهاد المقدس المفروض شرعة قرآنية ومنهاجا نبويا، منذ البدايات الأولى للإسلام، وعندما نتمعن في هذه الدراسات والأبحاث التي ربطت هذا العنصر الحقيقي الذي ارتكزت عليه الأسرة السعدية في بناء الأسس الأولى للدولة بانتشار أفكار مؤسسة الزاوية، ودورها في التفاف القبائل المغربية على الدعوة السعدية الناشئة، نجدها في نفس الوقت تؤكد وإن بدرجات متفاوتة؛ على أن الدافع الرئيسي لهذا الالتفاف المجتمعي، كان في نسبة كبيرة منه يرجع إلى الانهزامية غير المسبوقة التي كان يرزأ تحت كَلكَلها المغاربة، وعلى مستويات متعددة، نفسية اجتماعية سياسية اقتصادية وثقافية، وينتظرون أي محاولة حقيقية للدعوة إلى الجهاد حتى يلبوا النداء؛ كان فعلا هناك امتثال واستلهام لروحانية وعمق فريضة الجهاد من السابقين على عهد الدعوة الأولى للإسلام، وتأسّ حقيقي بهم، لكن الوضع غير الوضع، والواقع غير الواقع، فالدعوة الأولى كان منطلقها ذاتي، مشبع بحماس الدعوة إلى الدين الجديد، في حين أن دعوة الجهاد على عهد السنوات الأولى للدولة السعدية كانت تحت طائلة الاضطرار والإرغام الموضوعي، الذي لم يكن مصدره إلا هذا الواقع الانهزامي الجماعي.
بمعنى آخر كان الجهاد على عهد دعوة الإسلام الأولى هجوميا، عكس الفترة المدروسة الذي كان ذا نزعة دفاعية اعتبارا للاحتلال الأجنبي الذي كان يرزأ تحت وطأته المغرب، بل حتى على عهد الأسر التي حكمت المغرب قبل الوطاسيين، لم يكن الجهاد ليفقد نزعته الهجومية، ولم يكن في الغالب مرتكزا رئيسيا في بناء مشروعية الدولة الأولى، سواء مع المرابطين أو الموحدين على الخصوص، قد يأتي في التالي من الأحداث طارئا لتعزيزها في صبغته الهجومية دائما، لكنه في الفترة السعدية كان المستجد الرئيسي منذ البداية، “والعامل المهم الذي تدخل هو عامل تحرير الثغور من النصارى، يعني من الاحتلال الأجنبي المهدد للدين والدولة وللمواطنين على السواء”.[36] وإن كان الاستلهام بارزا لقيم ومثالية عهد الإسلام الأول، التي حاول الشرفاء السعديون تقمصها، والظهور بمظهر الوارثين الشرعيين للدعوة المحمدية الأولى.
كانت استجابة المغاربة لنداء الجهاد تحت راية موحدة يقودها السعديون الأشراف، مدعمين بشيوخ الزاوية الجزولية، ذات الحضور الرمزي العميق في المجتمع، ثم القبائل المتحالفة معهم، تحصيل حاصل؛ شكل قوة دافعة في اتجاه إقامة الدولة السعدية، وهو ما جعل الجهاد كشعار ديني وسياسي، يتحول إلى مرتكز أساسي، ينضاف إلى مرتكز النسب الشريف، في بناء أسس المشروعية، التي سعى الشرفاء السّعديين جاهدين منذ البداية للحصول عليها، قصد تبرير أحقّيتهم في الحكم، لا سيما بعد أن أظهرت كل القوى السياسية، سواء المركزية، أو تلك الموزعة عبر المجال المغربي، عجزها التام أو الجزئي؛ سواء في التصدي للأطماع الأجنبية المتزايدة، أو على مستوى إقرار الأمن والاستقرار.
رابعا: الضريبة الشرعية
ذكرنا في المحورين السابقين على “أن الجهاد والنسب الشريف، كانا بمثابة الدعامتين الأساسيتين اللتين مكنتا الشرفاء السعديين من اكتساب المشروعية الاجتماعية، بفعل التأييد الكبير من الزوايا والقبائل السوسية”،[37] الأمر الذي تؤكده مجمل كتب الحوليات، التي تطرقت وتناولت بالدراسة بداية نشأة دولة الأشراف السعديين، على اعتبار –كما تم تبيانه- أن النسب الشريف مؤثر ضمني ورئيسي، في انصياع المجتمع القبلي، بتحريض من الزوايا ذات التأثير المباشر في احتضان الدولة الناشئة؛ ومرتكز الجهاد كان له بعده المجتمعي الذي يمليه المعتقد الديني، المُؤطَّر بدوره من طرف الزوايا، من حيث أن الجهاد -من جهة أولى- له مركزيته في النصوص الدينية والتشريع الاسلامي، ومن جهة ثانية؛ أن واقع الاحتلال الذي كان يرزأ تحت وطأته المغرب في هذه الفترة التاريخية، يجعل منه سياسة ذات نتائج كبيرة على مستوى التعبئة المجتمعية في نصرة الأسرة السعدية.
وليكتمل دور الزاوية في التحفيز المجتمعي وصياغة المشروعية، فلم يكن من المرجح أبدا أن يوجد من يرفض أداء الزكوات والأعشار والمعونات، في ظل هذه الحماسة الدينية، لا سيما أنها بدورها تلبس لبوس الواجب، والفريضة الدينية المشروعة، وبالتالي كانت الاستجابة تلقائية، لما طلب الشرفاء من “أغنى أنصارهم أن يؤدوا إليهم الزكاة التي هي حق الله، حتى يتمكنوا من الوسائل الكفيلة بالقيام بالجهاد ضد المسيحيين، لأنهم لم يكونوا يؤدون آنذاك أي شيء، وكان أول من دفع إليهم الزكاة أهل درعة وتارودانت”.[38]
هذه المعطيات المتكاثفة، كان لها الدور الحاسم في تحول السعديين من قادة يتزعمون حركات جهادية تؤطرها الزوايا، وتدعمها الاندفاعات الشعبية، إلى قادة سياسيين يرأسون دولة لها مؤسسات سياسية وإدارية منظمة.[39]
يقول الحسن الوزان: “فلما استلم الشريف أموالا باهظة لاستئجار هذا الجند واكتسب الخبرة اللازمة للبلاد، أعلن الدعوة لنفسه واستقل بالحكم”.[40] ويؤكد “مارمول كاربخال” هذا المعطى بقوله: “على إثر هذا النصر الذي كتب للشرفاء (بعد معركة أبي عقبة) هبَّ سكان المنطقة لمبايعتهم، ودفعوا إليهم المعونة والزكاة”.[41]
بالتأمل في هذه الهَبَّة التي ذكرها “مارمول”، تتَّضح دوافعها؛ فهي هَبَّة للمبايعة ودفع المال، وحتما ليست إجبارية، بمعنى أنها لم تكن –وهذا ما هو ظاهر على الأقل من خلال المصادر- بفعل الإكراه والجبر، ولم يكن وراءها تنظيم إداري أو جباة يجمعونها من السكان، بل هو عمل –هَبَّة- تطوعي إرادي، دافعه الواجب (أداء الزكاة) والاعتراف بالفضل (بذل المعونة).
فإذا تبين أن الزكاة ومن منطلق عقدي، هي واجب يقوم به الأغنياء، تقتطع من أموالهم وتقدم إلى المستحقين لها، بحيث أنه من “المعلوم أن الزكاة هي أخذ نسبة معلومة ممن كان لديه النصاب في الأموال الظاهرة كالزرع والثمار والمواشي، ومن الأموال الباطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة”.[42] ويعتبر وقت الجهاد استثناء قد يلغى بموجبه حق هؤلاء المذكورين في الآية القرآنية: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾.[43] وتصبح الدولة مستأثرة بالزكاة لتَحمُّل نفقات الجهاد، يقدمها السكان طواعية كما يفعلون دائما، التزاما بتعاليم الإسلام.
فما هي الدوافع التي تجعل المجتمع المغربي في هذه الفترة الصعبة، يقدم على بذل المعونة بتلقائية وإرادة خالصة، لأسرة معينة وضعت فقط أهدافا قد تبدو نسبة تحقيقها متدنية، في ظل واقع سياسي اقتصادي اجتماعي مهزوم؟
السؤال تزداد مشروعيته إذا علمنا أن هذه المعونة هي الأصل الظرفي لضريبة النائبة التي سيتم تعميمها فيما بعد، بل يعتبر الإفراني أن أول نائبة فرضت كانت في فترة أحمد الأعرج، “فلما اجتمع عنده البيض، أمرهم أن يأتي كل من أتى ببيضة بدرهم ففعلوا فاجتمع عنده مال وافر فأصلح به شأنه وقوى به جيشه وهذه أول نايبة فرضت في دولة الأشراف”.[44]
إن الضريبة بوصفها أحد أبرز الأسس الاقتصادية للدول عبر العصور، شكلت الأرضية الأساسية التي أولاها السعديون اهتماما زائدا منذ انطلاق حركتهم ضد الاحتلال الإيبيري، وبدء عملياتهم العسكرية ضد الوطاسيين؛ ليس فقط على مستوى النوعية والقيمة، أو حتى السياسة المتبعة في الجبي؛ بل أيضا وبتركيز أكبر على مستوى الأهداف المتوخاة من ورائها، التي كانت تختلف من سلطان إلى آخر منذ قيام الدولة إلى آخر أيامها، يتحكم فيها مدى حاجة الدولة الملحة إلى المصادر المالية، أو استغنائها النسبي بفعل الازدهار والتوسع الذي عرفته الدولة، كما حدث في فترة أحمد المنصور بإلغائه لضريبة النائبة. كما يتحكم فيها مدى قوة أو ضعف مؤشر المشروعية المستمدة من الفئات المجتمعية، وعلى رأسها رجال الزاوية وأتباعهم.
من المهم جدا إعادة التأكيد في هذا الإطار على أن السياسة الجبائية في بداية قيام الدولة السعدية كانت تفتل بقوة في نفس حبل مرتكزي النسب الشريف والجهاد، من حيث التأثير في الذهنية الجماعية للمغاربة، وهي ذهنية جعلتها الأزمات الاجتماعية، والحضور الرمزي للزاوية في التفاصيل الدقيقة للمجتمع؛ متعطشة لكل ما له علاقة ببدايات الإسلام المثالية. ولهذا فالاقتصار في البداية على الضرائب الشرعية وحدها، متمثلة في الزكوات والأعشار والخراج، أنتج في المخيال الجماعي للمجتمع إبان هذه الفترة تصورا يرى أن الشرفاء السعديين يمثلون الإسلام الحقيقي ببعده التوارثي، وبالتالي فهم الأحق بقيادة المجتمع.
تركيز الأسرة السعدية في البداية على الزكوات والأعشار والخراج، كان له بعده المهم في ترسيخ الصورة التي أريد لها أن تؤكد أسس المشروعية ذات الاستمداد الديني، المرتكز على مثالية الدعوة الإسلامية في شكلها الأول، “مبدئيا فالجميع عليه أن يلتزم بأداء الزكاة والأعشار داخل النظام الجبائي الإسلامي للدولة، باعتبارهما طهارة وتزكية لمال المسلم كائنا من كان، قويا أو ضعيفا، شريفا أو مشروفا حاملا لظهائر الإعفاء، أو مقدما لخدمة عسكرية، امتثالا لمنظومة التشريع الإسلامي، وانضباطا لأحد أركان الإسلام الأساسية، التي لا يكتمل إسلام أحد دون أدائها إن اكتمل النصاب الواجب لأدائها”.[45] في المقابل فضريبة الخراج كانت تطرح إشكاليات على مستوى التنزيل والتطبيق، لاعتبارات أخرى مختلفة عن الأسس الشرعية لتي قامت عليها، ذات خصوصيات مغربية صرفة، الأمر الذي يفسر جزئيا الارتباك الذي طبع القرارات بشأنها، حتى أن “الأولياء عمدوا إلى معارضة فرض الخراج على الجبال، ودخلوا لاحقا في صراع مع الأسرة الحاكمة”.[46]
اعتبار الإفراني أن أول نائبة فرضت في دولة الأشراف كانت هي المعونة التي هبّ السكان إلى دفعها إلى الأشراف بعد معركة أبي عقبة؛ هو اعتراف مجتمعي مسبق في حقيقة الأمر بأحقيتهم بتقلد الحكم، دافعه النصر الذي كتب لهم بعد هذه المعركة، وهو الأمر الذي سيتكرر في كل مرة سيكون النصر حليف للأسرة السعدية، أخذا بعين الاعتبار الحاجة الملحة بشكل خاص إلى النفقات العسكرية، والموانع الأخلاقية التي تقف عائقا أمام فرض أي ضريبة خارج ما هو شرعي؛ الأمر الذي سيفرض في نظرنا محاولة محمد الشيخ تطوير ضريبة الخراج، وتحويلها إلى ضريبة النائبة، مع حرصه على الحفاظ على الأسس الشرعية الموجبة لاستمرارية المشروعية الاجتماعية للدولة لسعدية.
إن قضية الخراج بصفة عامة، تفتح أبوابا مشرعة بشكل كامل للمزيد من البحث والتمحيص التاريخيين، و تطرح أسئلة حقيقية حول الموضوع، سواء فيما يخص مفردة الخراج وتعريفها اللغوي والاصطلاحي، أو على مستوى عمقها الإبيستيمي الإيستوغرافي؛ ليس فقط على مستوى نظام هذه الضريبة في الإسلام ذات التأصيل الفقهي الواضح والمؤكد، بل تشمل حتى ضريبة “النايبة” المبتدعة في الفترة السعدية باعتبارها ضريبة غير مسنودة شرعيا في نظر المجتمع المغربي بكل فئاته، وإن كانت ذات أبعاد تأصيلية عضوية مرتبطة بضريبة الخراج.
ما بين الخراج وضريبة النائبة من تقاطعات على مستوى التأصيل المفاهيمي، يمكن اعتباره أصل الاختلاف بين شيوخ الزوايا والأولياء من جهة، وبين الدولة السعدية من جهة أخرى، على اعتبار أن ضريبة النائبة هي امتداد، أو تطور طبيعي لضريبة الخراج، ذات التأصيل الفقهي الشرعي الواضح، اختلاف يستمد أصوله من الإشكالات التي يطرحها على مستوى سيرورة الأحداث التاريخية منذ الفتح الإسلامي إلى حدود قيام الدولة السعدية، مع ما صاحبها من تغيرات ديمغرافية مجالية اجتماعية. على افتراض أن هذه التحولات التي حصلت كانت لها نتائج مباشرة على السياسة الجبائية المتبعة منذ فترة الموحدين.
بالنظر إلى سياق ومسار هذا التحوّل في العلاقة؛ وحتى مع انحيازنا إلى ما ذهب إليه بعض الباحثين، ممّن تناولوا هذا الموضوع بالدراسة، من أن محمد الشيخ كان هدفه الأساس من تعميم الضريبة أوسع من غرض الحصول على موارد مالية إضافية، بل يتجاوزه إلى تحقيق امتلاك ما كانت تستأثر به الزاوية وشيوخها، وهو السلطة الدينية الممهدة للمشروعية الاجتماعية، وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا بانتزاعها ممن يمتلكها ويستأثر بها؛ فرغم صوابية هذا الطرح وأهميته، ورغم ما يمكن أن يقال من أن تعميم تحصيل الجبايات ليشمل الزوايا والمشايخ والفقهاء، هو قرار شجاع من “محمد الشيخ”، كانت له نتائج إيجابية من جهة أولى على بيت المال، ومن جهة ثانية قد يعتبر محاولة جدية “لتثبيت سلطة الدولة عبر سحب بساط مشروعية اجتماعية طالما استأثرت بها الزوايا”.[47] فإن هذا القرار كانت له نتائج عكسية غير مباشرة على مستوى تثبيت مشروعية الحكم السعدي نفسه، فالأمر من زاوية نظر تاريخية، كان له تأثير مزدوج على الأحداث فيما بعد، فإن كانت نتائج هذا القرار ذات تأثير سلبي على المدى القصير على الزوايا على مستوى تقليص مواردهم الاقتصادية، وتضرر مداخيلهم المادية، فإنه على المستوى المتوسط والبعيد، ستكون له نتائج كارثية على مستوى مشروعية الحكم السعدي منذ هذه الفترة إلى زوال الدولة السعدية، فما كانت تتمتع به الزوايا من شعبية مجتمعية مستمدة من السلطة الأخلاقية الدينية المعاشية، كانت دافعا قويا لإعلان الخروج عن الطاعة، وهو الفعل الذي بإمكانه حرمان الدولة السعدية من إعادة مشروعية اجتماعية في منأى عن مؤسسة الزاوية، لا سيما أن العنف الذي قابل به محمد الشيخ الرفض المجتمعي لتعميم ضريبة النائبة، أنتج عنفا مضادا شاب معظم الردود الاجتماعية بقيادة رمزية وميدانية لشيوخ الزوايا.
إن محاولة الاستقلال هذه -إن صح التعبير – الذي باشرته السلطة السعدية عن مؤسسة الزاوية، هو في حقيقة الأمر انسلاخ كلّي من أي التزام أخلاقي سابق مع الشيوخ والأولياء، انسلاخ قد نعتبر دوافعه مرتبطة بمحاولة محمد الشيخ التحرر من التزامات طالما قيدت سلطته، وحاجته إلى إطلاق حريته في اتخاذ القرارات المناسبة للوزن والقوة التي أصبحت عليها الدولة في عهده، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بالتشبث بهذه الالتزامات، التي اتُّخذت في مرحلة كانت فيها الحركة السعدية تبحث عن توازنات وتحالفات مرحلية كانت في حاجة ماسة إليها في البداية؛ وعلى رأس هذه الالتزامات طبعا، الضرائب الشرعية، التي يعتبر الاقتصار عليها في وقت توسعت فيه الجبهات المفتوحة؛ سواء العسكرية منها أو المدنية، الموجبة للإنفاق الموسع؛ وبالتالي فمحمد الشيخ من خلال تنويعه للضرائب وتعميمه لها، كان يرجو تحقيق هدفين: الأول هو التحرر من سلطة الزوايا، والثاني زيادة مداخيل بيت المال؛ وكانت النتيجة التخلّي التام عن مرتكز الضريبة الشرعية، أحد العناصر الثلاثة التي استندت عليها الدولة السعدية في بناء مشروعيتها السياسية والاجتماعية، مقابل تشبثها الشديد بمرتكز النسب الشريف، الذي يعتبر مقوما مبدئيا في الاختيار الأول لها من طرف الزاوية الجزولية والقبائل السوسية لمباشرة مهام الجهاد والتوحيد.
خاتمة
إذا كانت العصبية القبلية عنصرا غير حاسم في بناء مشروعية الحكم لدى الدولة السعدية، ولا يمكن الجزم بشكل كبير في إمكانية مساهمتها في الأسس التي اعتمدت عليها الأسرة السعدية في التأسيس لدولتها الناشئة، فإن المرتكزات التي استندت عليها كانت في مجملها ذات أساس ديني، قد يتم إدراجها بشكل أو بآخر ضمن الصبغة الدينية المحددة لقوة العصبية، فالنسب الشريف والجهاد والضريبة الشرعية، كانت محددات دينية أساسية في بناء مشروعية اجتماعية حقيقية، تم الاحتفاظ بمرتكز النسب الشريف، والتخلي بشكل تدريجي عن مرتكز الجهاد، ثم الحسم النهائي في قرار التخلي عن الاقتصار على الضرائب الشرعية في عهد محمد الشيخ.
مرتكزي النسب الشريف والجهاد بقدر ما كان لهما من أهمية في بناء المشروعية، فلم يكن لهما أي دور في نقضها، بخلاف مرتكز الضريبة الشرعية، الذي كان له دور مفترض في نقض مشروعية الحكم السعدي بشكل تدريجي غير مباشر؛ من خلال التأثير السلبي الذي أحدثته السياسات الجبائية طيلة فترة حكم السعديين على مختلف أطياف المجتمع المغربي، والتي يمكن اعتبارها من أهم الأسباب الحقيقية للثورات الاجتماعية التي حصلت منذ عهد محمد الشيخ حتى المراحل الأخيرة من عمر الدولة، فالإجحاف الجبائي كان هو التيمة المشتركة لسياسات مختلف السلاطين السعديين، وكان الانصياع القبلي مرتبط فقط بمدى إحكام هذا السلطان أو ذاك، لقبضته الأمنية على الناس، فإن حدث فراغ سياسي مبعثه الصراع على الحكم، كانت القبائل على أهبة الاستعداد، ليس مناصرة لهذا الثائر، أو ذاك الدعي، وإنما هي فرصة فقط؛ يجدونها سانحة للانعتاق من حبال سياسة جبائية ظالمة، يأملون من وراء مساندة أحد الخارجين على السلطان، تغييرا لها قبل أي هدف آخر، حتى وإن أظهروا غير ذلك، مما حتّم على الدولة السعدية نهج سياسة العنف المتشدد إزاء هذه الثورات، والذي كان سببا جوهريا في جعلها غير قادرة على إعادة إنتاج مشروعيتها الاجتماعية.
قائمة البيبليوغرافيا
- القرآن الكريم
- المصادر
- ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، الجزء الأول، تحقيق وتخريج عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 1425ه/2004م.
- الإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، سنن الترمذي (الجامع الكبير)، تحقيق ودراسة مركز البحوث وتقنية المعلومات، دار التأصيل، الطبعة الأولى، 1435 ه/2014م.
- طوريس دييكودي، تاريخ الشرفاء، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1989 .
- الفشتالي، أبي فارس عبد العزيز، مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا، تحقيق عبد الكريم كريم، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، الرباط.
- كاربخال مارمول، إفريقيا، ج3، ترجمة محمد حجي، محمد زنيبر، محمد الاخضر، أحمد توفيق، أحمد بن جلون، دار نشر المعرفة، الرباط، 1409 ه/1989/م.
- المؤلف المجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمادرتية، تحقيق عبد الرحيم بنحادة، دار تنمل للطباعة والنشر، مراكش، الطبعة الأولى، 1994.
- الناصري، أبو العباس أحمد بن خالد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1418ه/1997م، ج 4.
- الوزان الحسن، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ج1.
- اليفراني محمد الصغير، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تصحيح هوداس، مكتبة الطالب، الرباط، الطبعة الثانية، 1988.
- المراجع
- التازي عبد الهادي، الوسيط في التاريخ الدولي للمغرب، دار نشر المعرفة، الرباط، 2001، ج.2
- التوفيق أحمد، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (انولتان1850-1912)، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط، ط 3، 2011.
- العروي عبد الله، مجمل تاريخ المغرب، ج3، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2018.
- الكانوني محمد بن عبد الله الكانوني، آسفي وما إليه قديما وحديثا، نقلا عن شوقي، عطا الله الجمل، المغرب الكبير في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1977.
- بوطالب، وآخرون، تاريخ المغرب، ترجمة الغرايب، محمد وعبد العزيز بلفايدة ومحمد العرجوني، الطبعة الأولى، مطابع الرباط نت، الرباط، 2018.
- بياض، الطيب، المخزن والضريبة والاستعمار ضريبة الترتيب 1880-1915، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011.
- زريوح زين العابدين، علاقة العامة بالمخزن خلال العصر السعدي (1510-1659م)، منشورات دار الأمان، الرباط، 2019.
- شوقي عطا الله الجمل، المغرب العربي الكبير في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 1، 1977.
- ضريف محمد، مؤسسة الزوايا بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الأولى 1992.
- عبد اللطيف أكنوش، تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية في المغرب، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1980.
- غلّاب عبد الكريم، قراءة جديدة في تاريخ المغرب العربي، ج 2، دار الغرب الإسلامي، ط 1، بيروت، 2005.
- كريم عبد الكريم، المغرب في عهد الدولة السعدية، منشورات جمعية المؤرخين المغاربة، الرباط، 2006، ط، 3 .
- محمد القبلي، مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبفال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987.
- مزين محمد، فاس وباديتها، ج2، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى 1406/1983.
- ملين محمد نبيل، السلطان الشريف الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، ترجمة عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2013.
- روابط إلكترونية
- الادريسي لفقيه ، “الجباية والمشروعية السياسية للدولة: التجربة السعدية نموذجا”، (نسخة الكترونية) (استرجعت بتاريخ 10 غشت 2021). https://www.aljabriabed.net/n44_06idrissi.htm
- المصادر والمراجع باللغات الأجنبية
- Diégo de Torrés, Relation de l’origine et Succés des chérifs, Paris, 1636.
- Jacques Berque, Ulamas, fondateurs Insurgés du Maghreb XVIIè siècle, Paris, Sindbad, 1982
[1] – ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، ج1، تحقيق وتخريج عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط1، 1425ه-2004م، ص. 314.
[2] – ملين محمد نبيل، السلطان الشريف الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، ترجمة عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2013، ص، 22.
[3]-Jacques Berque, Ulamas, fondateurs Insurgés du Maghreb XVIIè siècle, Paris, Sindbad, 1982 , pp. 38.
[4] – محمد القبلي، مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط، دار توبفال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1987، صص. -103102.
[5] Jacques Berque, Ulamas, fondateurs Insurgés du Maghreb XVIIè siècle, pp. 38.
[6]– العروي عبد الله، مجمل تاريخ المغرب، ج3، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2018، صص. 457-458.
[7] – ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، ج1، تحقيق وتخريج عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط1، 1425ه-2004م، ص. 310.
[8] – أخرجه الترمذي في الجامع الكبير (سنن الترمذي)، 3116، الصفحة أو الرقم، 213/6.
[9] – بمعنى المتلبسين، أي المدَّعين.
[10] – ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، مرجع سابق، ص. 319.
[11]– العروي، مجمل تاريخ المغرب، ج، 3، ص. 457.
[12]– المرجع السابق، ج، 3، ص. 458.
[13]– نفسه.
[14] – محمد القبلي، مرجع سابق، ص، 124.
[15]– محمد القبلي، مرجع سابق، ص، 126.
[16]– بوطالب، وآخرون، تاريخ المغرب، ترجمة الغرايب، محمد، وعبد العزيز بلفايدة ومحمد العرجوني، ط، 1، مطابع الرباط نت، الرباط، 2018، ص. 273.
[17]– الوزان الحسن، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ج1، ص 216.
[18]– محمد القبلي، مرجع سابق، ص، 105.
[19]– ضريف محمد، مؤسسة الزوايا بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الأولى 1992، ص. 27.
[20]– يرجى مطالعة هامش الصفحة 126 من كتاب “مراجعات حول المجتمع والثقافة بالمغرب الوسيط” لمحمد القبلي.
[21]– بوطالب، وآخرون، المرجع السابق، ص. 273.
[22]– زريوح زين العابدين، علاقة العامة بالمخزن خلال العصر السعدي (1510–1659م)، منشورات دار الأمان، الرباط، 2019، ص. 161.
[23]– عبد اللطيف أكنوش، تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية في المغرب، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1980، ص. 99.
[24]– محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تصحيح هوداس، مكتبة الطالب، الرباط، الطبعة الثانية، 1888، ص. 12.
[25]– اختلف في نسب محمد بن عبد الرحمان القائم بأمر الله السعدي، فمن المؤرخين من يقول أن نسبه ينتهي إلى محمد النفس الزكية، وأن أسلافه قدموا من الينبوع واستقروا بدرعة، ومنهم من رجح انتهاء نسبه إلى ادريس بن ادريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، وبالتالي فهو يعتبر من الأدارسة، ومنهم من يجعل شرفه من حهة الأم فقط، وهي رقية بنت النبي عليه الصلاة والسلام ومن سلالة عثمان بن عفان، كالنسابة التهامي بن رحمون العلمي، صاحب “شذور الذهب في خير نسب” ومنهم من نفى عنهم انتهاء نسبهم إلى آل البيت بالمرة، وأنهم من بني سعد بن بكر بن هوازن، وينتهي إلى حليمة السعدية ظئر النبي، وبها سموا بالسعديين.
(للمزيد من الإحاطة بهذا الموضوع يرجى الرجوع إلى كتاب “التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير” الجزء الثالث، لعبد الكريم الفيلالي)، الصفحات من 292 إلى 298.
[26]– التازي عبد الهادي، الوسيط في التاريخ الدولي للمغرب، دار نشر المعرفة، الرباط، 2001، ج2، ص. 292-293.
[27]– ملين محمد نبيل، السلطان الشريف الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، صص 09-10.
[28]– نفسه، ص 10,
[29]– كريم عبد الكريم، المغرب في عهد الدولة السعدية، منشورات جمعية المؤرخين المغاربة، الرباط، 2006، ط، 3 ص، 33.
[30] ملين محمد نبيل، السلطان الشريف الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، ص. 21.
[31]– الكانوني محمد بن عبد الله الكانوني، آسفي وما إليه قديما وحديثا، نقلا عن شوقي، عطا الله الجمل، المغرب الكبير في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1977، ص. 53.
[32]– طوريس دييكودي، تاريخ الشرفاء، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1989، ص، 12.
[33]– شوقي عطا الله الجمل، المغرب العربي الكبير في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 1، 1977، صص. 55-56.
[34]– بوطالب، وآخرون، المرجع السابق، ص. 274.
[35] المرجع نفسه.
[36] – غلّاب عبد الكريم، قراءة جديدة في تاريخ المغرب العربي، ج 2، دار الغرب الإسلامي، ط 1، بيروت، 2005، ص. 295.
[37]– مزين محمد، فاس وباديتها، ج2، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الطبعة الأولى 1406/1983، ص. 209.
[38]– طوريس دييكودي، تاريخ الشرفاء، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1989، ص. 31.
[39]– الادريسي لفقيه ، “الجباية والمشروعية السياسية للدولة: التجربة السعدية نموذجا”، https://www.aljabriabed.net/n44_06idrissi.htm (نسخة الكترونية) (استرجعت بتاريخ 17 ماي 2024).
[40]– الوزان الحسن، وصف افريقيا، ج1، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ص119.
[41]– كاربخال مارمول، إفريقيا، ج3، ترجمة محمد حجي، محمد زنيبر، محمد الاخضر، أحمد توفيق، أحمد بن جلون، دار نشر المعرفة، الرباط، 1409/1989/م، ص459.
[42]– التوفيق أحمد، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (انولتان1850–1912)، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الرباط، ط 3، 2011، ص. 501.
[43]– سورة التوبة الآية 60
[44]– محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، ص، 40.
[45] بياض، الطيب، المخزن والضريبة والاستعمار ضريبة الترتيب 1880–1915، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011، ص. 164.
[46] بوطالب، وآخرون، المرجع السابق، ص. 275.
[47]– الادريسي، مرجع سابق.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *