728 x 90

الإيتوس والباطوس في الرواية، ادريس بكار

الإيتوس والباطوس في الرواية، ادريس بكار

الإيتوس والباطوس في الرواية.

  إدريس بكار[2] (جامعة ابن طفيل/ القنيطرة مختبر أدب وفنون) المغرب

د. حسن لشكر[1]  : جامعة ابن طفيل/ القنيطرة مختبر أدب وفنون) المغرب                                                                         

تقديم

يرتبط استخدام الكلام بالفاعلية، إذ يسعى الخطاب دائما إلى إقناع الجمهور أو المخاطب لجعله ملتزما بأطروحته، أو لتحريك عواطفه والتأثير عليه عبر تحريك آليات واستراتيجيات تمتح من مقاربة تجددت فاعليتها بتجدد طرق اشتغالها، وتنوع مدارسها ونظرياتها. يتعلق الأمر بالحجاج. هذا المبحث الذي خبا وأفل ردحا من الزمن، بعد أن شكل أود البلاغة ونسغ الخطابة الأرسطية، وارتبط بفاعلية الخطاب في الواقع، ودوره في تشكيل القيم وتنظيم شؤون الحياة الساسية وفض النزاعات القضائية من خلال  الإقناع بواسطة الكلمة واللغة لا من خلال الصراع والعنف. ثم رجع في العصر الحديث من جديد ليشكل مسارا متناميا وفعالا في تحليل الخطاب. وليفرض حضوره بين المقاربات والمناهج  في تحليل الخطاب بمختلف أنواعه وأنماطه. كما تشكلت فيه مدارس ونظريات غربية، ترجمت إلى العربية، وتم تقريبها للقارئ العربي المهتم من خلال تبسيط مفاهيمها، وتلخيص مضامينها، كما جرب البعض تشغيلها في مقاربة مختلف أنواع الخطاب. ومرمى التحليل الحجاجي للخطاب: “المعلن وصف الأداء الخطابي بأكبر قدر مكمن من الدقة، ودراسة الطرائق التي يسعى الخطاب من خلالها إلى بناء إجماع، والمحاججة ضد الخصم، وضمان التأثير في حالة التواصل المعطاة”[3]

وقد اخترنا لهذه المقاربة رواية :” امرأة النسيان” للناقد والروائي المغربي لمحمد برادة، الذي يجسد عبر كتاباته عامة، وعبر روايته هاته أيضا الوعي الحداثي الرافض للنمطية والقواعد الجاهزة عبر اختيار التجريب الذي يقوم على:” رفض هذا الواقع ونقضه، ومن ثم فهي استشراف لنظام قيمي جديد اجتماعيا وثقافيا على السواء”[4]. والتجريب هنا لا يقف عند المفهوم الذي تبلور مع إميل زولا في كتابه الرواية التجريبية والذي يقرب الأدب إلى الأسلوب العلمي وذلك بأن: ” تكون لغة الرواية ثمرة تجربة منبنية على تجميع الملاحظات والحقائق المتصلة بالتجارب العلمية”[5]. بل يتجاوزه إلى اعتبار اللغة مطمحا في الرواية، فالتجريب بهذا المعنى: ” قرين الإبداع، لأنه يتمثل في ابتكار طرائق وأساليب جديدة، في أنماط التعبير الفني المختلفة…”[6]، وابتكار عوالم متخيلة تتميز بالجدة والفرادة، واستعمال تقنيات فنية جديدة.

هل يمكن أن نتحدث عن العرض الذاتي أو الإقناع بالإيتوس في الرواية؟ وكيف تجسدت العواطف والأهواء أو الإقناع بالباطوس في رواية: “امرأة النسيان” بشكل ينسجم مع الدعاوى الصريحة أو المضمرة التي تحملها للقارئ للتأثير عليه؟.

1 ــ الحجاج في السرد

يُعَد الإيتوس  والباطوس عند أرسطو عنصرين من ثلاثة عناصر يمتح الخطاب منها قوته الإقناعية حيث يقول: “والتصديقات التي يقدمها القول على ثلاثة أضرب: الأول يتوقف على أخلاق القائل، والثاني على تصيير السامع في حالة (نفسية ) ما، والثالث على القول نفسه، من حيث هو يثبت أو يبدو أنه يثبت.”[7]  ويشكل الضرب الأول ما يصطلح عليه بالإيتوس، ويرتبط بأخلاق الخطيب، والتي منها يكتسب الخطاب قوته الإقناعية والتأثيرية، فجوابا على السؤال البلاغي الحجاجي التالي : كيف يؤثر الخطيب في الجمهور ؟ يكون الجواب وفقا للتصور الأرسطي: ” إنه يؤثر بمخاطبة عقله ( اللوجوس ) وبتحريك أهوائه ( الباطوس ) وبالخلق الذي يظهر في خطابه ( الإيتوس )”[8]

والحجاج ليس حبيس نصوص بعينها، وإنما يشكل مكونا جوهريا في اللغة عامة، ويحضر في مختلف أنواع الخطاب. وهذا ما يؤكده أعلام الحجاج بمختلف مدارسه في الحجاج البلاغي عند شاييم بيرلمان Chaïm Perelman ، والحجاج اللغوي عند لأزفالد ديكرو Oswald Ducrot. والحجاج الخطابي عند روث أموسي  Ruth Amossy  وباتريك شارودو Patrick Charaudeau ، وما يسمى بالنموذج السردي Paradigme Narrative  الذي طرحه والتر فيشر  Fisher  Walter، الذي اعتبر الإنسان كائنا سرديا، يحكم السرد تفكيره، فبما يختزنه من سرود يطور حياته ويصنع حياته اليومية، حيث: ” الناس يحاولون فهم عالمهم وقيمهم في شكل قصص…وأن القصص ليست انعكاسات لما نؤمن به فحسب، بل إنها تصنع واقعنا الذي نعيشه”[9] فالحجج التي نستعملها  وتعمل فينا، حسب هذا التصور، هي عبارة عن سرود، شعرنا بذلك أم لم نشعر. فما نحمله من سيرورات سردية في الذهن هو من يوجه اعتقاداتنا ويبني سلوكاتنا.

2 ــ استراتيجية الإيتوس في رواية امرأة النسيان.

تساهم استراتيجية الإيتوس في بناء صورة إيجابية عن المؤلف تجعل عمله الإبداعي يتلقى بنوع من الاحتفاء وتفضي بالقارئ إلى تبني الدعاوى التي تحملها الرواية عبر متنها الحكائي أو من خلال العلاقات بين شخصياتها ومنطقها العاملي وعناصرها السردية والحكائية. وفي هذا السياق، نؤكد أن أعمال محمد برادة تمتزج فيها السيرة الذاتية بالتخييل الروائي وتتداخل بشكل جعلت هذا الملمح محط دراسة واهتمام النقاد، وهذا ما نجده في محكيات “مثل صيف لن يتكرر”  حيث يكشف المؤلف عن قدرة خاصة على قراءة زمن يرتبط به في فضاء القاهرة وفي مصر – صيف 1956، أثناء إقامته بها إلى حدود 1960 أو خلال زياراته التالية. وفي ” لعبة النسيان”  يسترجع المسار الذي عاشه في الطفولة وفي مطلع الشباب والأسئلة التي كانت مطروحة آنذاك في ما يسمى بسنوات الرصاص. أما في “امرأة النسيان”، فيقف عند تجربة التناوب الحزبية، ويقدم موقفه باعتباره مناضلا من داخل حزب يساري مشارك في هذه التجربة، ومعها يستحضر شخصية( ف. ب) التي تمثل نموذجا للفتيات المغربيات اللائي هاجرن إلى فرنسا في مطلع ستينيات القرن الماضي وعشن ثورة الطلاب في فرنسا، ودعت إلى تحرير المرأة. وهي الثورة التي شكلت الفكر الحداثي لهؤلاء النساء، كما شكلته عند المؤلف أيضا.

و يشكل حضور السارد الدائم عبر مسار الرواية سمة بارزة، فكل أحداثها تتحرك في حضوره، وكذلك الشخصيات لا تتكلم إلا بوجوده، لذلك يسهل علينا أن نرى فيه نوعا من التطابق بينه وبين المؤلف في سياق روائي لا نكاد نميز فيه بين حدود الواقعي والمرجعي والتخييلي. فهو صوته الذي يعبر به عن مواقفه الحزبية والنضالية وآرائه النقدية ومراجعاته الفكرية والثقافية وفق رؤية فنية وجمالية، تتسم بانطلاقها: ” من التجربة الشخصية، ومن موقع الذات للإطلال على الواقع بعوالمه، وشخوصه، لتبني فضاءها الروائي الخاص.”[10]

لذلك يصح أن نتساءل عن ملامح هذه الذات، وكيف تشكلت على مستوى الخطاب؟ وما هي فاعليتها الحجاجية ؟

يعرض الروائي ذاته في روايته: “امرأة النسيان” من خلال خطابه عرضا ينسجم مع طبيعة هذا الخطاب التخييلي، الذي تكون فيه السيرة الذاتية عامل تحفيز للسرد التخييلي، فإذا كانت هاته الرواية مثلها مثل:( لعبة النسيان) ” تحيل بشكل واضح، وأحيانا مباشر على وقائع في حياة الكاتب عاشها وتأثر بها، تتعلق بالأشخاص والزمن والمكان، فإن طريقة استثمار هذه المكونات السير ذاتية داخل النص، هو الذي نقلها من مستوى التاريخ إلى الإبداع الروائي”[11]. ورغم غياب حدود التمييز بين التاريخ المرجعي والإبداع التخييلي، فبمقدورنا أن نحدد الملامح التي يرسمها الخطاب الروائي للمؤلف، والتي تصدقها الصورة الذاتية له في الإيتوس القبلي.

فمن خلال قراءة الخطاب الروائي تتأسس عند القارئ مجموعة من العناصر التي تشكل في مجموعها إيتوسا خطابيا عن المؤلف، وهي عناصر تمثل في مجموعها الصورة الذاتية للباث والتي يرسخها الخطاب في القارئ، لتشكل رافعة حجاجية مهمة، لا تقل عن الرافعة اللوغوسية في رفع منسوب الإقناع والتأثير. وتتألف هاته الصورة من مجموعة العناصر نجملها فيما يلي:

  • إيتوس المثقف الحداثي: ما فتئ خطاب الرواية يكشف بشكل مباشر عن المؤلف ذي الموسوعية الثقافية، والذي أضحت عوالمها الحداثية جزءا من حياته. فهو المسؤول عن تصديراته لفصولها الخمسة، والتي تضمنت نصوصاً شعرية حداثية ، نذكر منها :

استشهاده بأبيات شعرية لروني شار René Char (1907 – 1988)  وهو  واحد من كبار شعراء فرنسا في القرن العشرين الذي يمتزج إبداعه الشعري مع إيقاعات التحولات التي عرفتها أوربا وفرنسا على وجه خاص قبل الحرب العالمية  وبعدها، يقول فيها:

” أنت متعجل لأن تكتب

كما لو كنت متخلفا عن إيقاع الحياة

إذا كان الأمر كذلك، استعرض مصادرك

عجل، عجل بأن تنقل للآخرين

نصيبك من العجيب والعصيان والإحسان” [12].

وهذا الاستشهاد يكشف عن صورة المثقف الحداثي الذي ينهل من معين الثقافة الغربية الثورية، كما يكشف أيضا عن شخصية المبدع وطريقة تفاعله مع الكتابة ومع نصه الروائي، وفي هذا يقول محمد برادة:” الاستشهاد بروني شار يأتي في سياق معين، إنه يقصد أن علاقة الشاعر والروائي والكاتب بصفة عامة بالكتابة علاقة معقدة، لأنه يمكن أن ينتظر إلى مالا نهاية، وأن الكاتب يبحث دائما عن الشكل الأكمل لكتابة نصه، ولذلك الكتابة احتمالات متعددة، كل نص يمكن أن يكتب في أشكال كثيرة، ولكن المقصود هنا أن الكتابة يجب أن تخرج من العدم إلى الوجود. “عجل” تفيد المغامرة، يجب أن تكتب وأن تغامر لأن الكتابة مهما اكتملت وتوافرت لها الشروط، التي يظن المبدع فهي دائما مهددة بالنسيان ومن تم نحن مطالبون بالكتابة باستمرار، لأن كل نص جديد يضيف إلى ما قبله ويجعل صاحبه يقول ليس هذا هو النص الذي كنت أتطلع لكتابته”[13].

إن هذا التوضيح من المؤلف نفسه، يعطينا شرعية أخذ تصديراته مأخذ جد، بما هي كاشفة عن ملمح من ملامح صورته الذاتية، وهذا ما نجده في التصدير الثاني الذي استشهد فيه ببول كولوديل  Paul Claudel (1868-1955)  وهو أحد أكبر الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين. وهو أيضا كاتب مسرحي مرموق. بدأ حياته متأثرا بالرمزية ثم تخلى عن ذلك بعد اكتشافه لكل من رامبو ولوترايامو إذ يقول:

“حتى عند مجرد تحليق فراشة

تكون السماء بكاملها ضرورية”[14].

وفي التصدير الثالث يستشهد فيه ب: أ. أرطو Antonin Artaud)‏) ( 1896 ـ1948)،  وهو شاعر سريالي وممثل كما أنه ناقد وكاتب ومخرج مسرحي فرنسي. إذ يقول:” أن نضيء الحياة من جهة احتضارها”[15]

وفي التصدير الرابع  يستشهد بأبيات شعرية لجان جونيه:  (Jean Genet)  ( 1986 ــ 1910) الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي، وأخرى لفرنسوا باسلي فرانسوا باسيلي الشاعر والصحفي المصري( 1943 )، هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين. أما التصدير الخامس والأخير فقد استقاه من شعر محمد عفيفي مطر الشاعر والناقد المصري(1935 ــ 2010)، الذي استطاع: ” أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنّى وتردد أطروحاتها، خالقة بذلك “ظلاماً” كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة. “[16].

إننا إذا أمام تصديرات تعكس بشكل واضح ذات المؤلف وصورة عن ثقافته، فهو بين الثقافة الغربية الفرنسية التي خالطها واندمج في إغراءاتها  خلال إعداده لرسالة الدكتوراه، وبعد حصوله عليها سنة 1973، والثقافة التي نسجها إبان دراسته في مصر التي نال فيها على الإجازة في الأدب العربي عام 1960.

ومع هاته التصديرات يورد استشهادات على لسان شخصيته الروائية (ف . ب) من روايته لعبة النسيان، والتي يقول عنها المؤلف:” شخصية (ف . ب) ظلت تنتظر إضافات تبلور أكثر، لأن الحيز الذي شغلته لا يتجاوز أربع أو خمس صفحات، فالعودة إليها كانت تخامرني منذ 1987، ثم إن الموضوع الروائي ينضج على نار هادئة، لكن طيف (ف . ب ) بما تحمله من رموز ودلالات ظل موجودا ومندرجا في السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع المغربي. لما توافرت الشروط عدت إليها ووجدت أن من حق الكاتب أن يستخرج من إحدى شخصيات روايته الأولى ليعيدها إلى الحياة وليعطيها وجودا آخر ولينقلها من الهامش الذي توجد فيه في “لعبة النسيان” إلى المركز في “امرأة النسيان” كشخصية أساسية رفقة الكاتب المفترض”[17].

والاستشهاد بما قالته هاته الشخصية هو نوع من الاعتراف بما سلكته في مسيرتها الفكرية والنضالية والحياتية، وقد يكون نوعا من إكسابها حضورا مرجعيا وتاريخيا قابلا لأن يستشهد على لسانه، دون إرجاع الكلام للمؤلف.

إن هاته الصورة التي تكشف لنا المؤلف كشفا لطيفا ، نلفيها تظهر مع  السارد، الذي أكدنا أنه صوته التي يعبر على لسانه عن مواقفه ورؤاه الإيديولوجية والفكرية والفلسفية. هكذا نجده يتذكر فجأة، وفي غمرة أصداء الأنباء ودفق الأخبار الإذاعية والصحفية الواردة عليه، ما قرأه: ” خلال الليلة الماضية من صفحات أوبرا “سالومي” التي كتبها أوسكار وايلد  Oscar Wilde)) (1854 ــ 1900) المؤلف المسرحي والروائي والشاعر الإنجليزي الإيرلندي الذي احترف الكتابة بمختلف الأساليب خلال ثمانينات القرن التاسع عشر، كما  يبدي معرفته لبعض أسماء فنانين تشكيليين يعدهم مشهورين، إذ سارع إلى ذكر أسمائهم لما رآى في زيارته الأولى ل (ف ب ) مستنسخات لوحاتهم التي كست جدران غرفتها، أمثال: غوغان وماتيس وبيكاسو؛ وحين أراد أن يشبه غربته بين المدعوين في غرفة ڤ‍يلا الحلايبي استدعى فيلم “السطح” للمخرج الإيطالي إيتورسكولا، كان قد شاهده في نهاية الستينات…وهو يستنطق الوجوه في الغرفة تصورها نماذج بشرية:” خارجة للتو من بعض روايات ستاندال وفلوبير ودوستويفسكي”[18]

وفضلا عن هاته الثقافة الحداثية، يعرب السارد المعبر عن صوت المؤلف عن تعاطفه بل افتتانه بشخصية (ف . ب)، التي لا يرى في ما وصلت إليه من عزلة في الواقع خطأ في المنطلقات الفكرية، ونمط الحياة المتحللة عن كل القيم إلا قيم الجري وراء اللذة والمتعة الجسدية، ف : “هذه الشخصية يقول محمد برادة: ” تمثل نموذجا لنوع من النساء المغربيات اللائي وجدن ويوجدن في المجتمع المغربي، البعض قال لي أن هذه الشخصية لا تتطابق مع المجتمع المغربي، هم يجهلون أن هناك فئة من الفتيات اللواتي درسن في الستينيات وعشن 1968 والتحرر النسوي، وعند عودتهن من رحلة الدراسة يحسسن بالغربة وبعدم الانسجام، فهذا مظهر من مظاهر التطور المتعثر في المغرب، فهي ليست خيالية وما كانت تقوله هذه الشخصية ممكن، ويندرج في سياق تحول معين من النساء المغربيات”[19].  فالمشكل، في نظر المؤلف، لا يكمن في القيم التي تحملها هاته المرأة، وإنما في تعثر التطور في المغرب .

إن القيم التي تستميت عليها (ف. ب)، تمعن في نفي الموروث الذي تراه قد شل وجودها وحولها إلى: “إسفنجة تمتص ما يلقى إليها من معلومات وأوامر وتعاليم. الأب. زوجة الأب. العمات. الخالات. عيب. حشومة. البنات ما يخرجوش مع الأولاد…”[20]، وأقبلت تكرع بنهم من الفلسفة الغربية، مما غذى فيها الجرأة على تجريب: “ما يوفره المجتمع الفرنسي الباحث، عبر انتفاضته في ربيع 1968، عن صيغة مغايرة للحياة القائمة ولعلائق الأسرة والأنماط السلوكية ةلبرامج التعليم وتوزيع الثروات…”[21].

وكما جربت هذه القناعة عبر إطلاق زمام جسدها وغامرت به وبروحها بحثا عن مصير أكثر حرية، أرادت أن تنقل قناعاتها عبر الكتابة وراودها طيف رواية اقترنت ملامحها عندها: ” بتشخيص إيتوبيا غير فاضلة، تحكمها أخلاقيات أخرى تجعل من تحقيق الذات، بحرية وطلاقة، هدفا أسمى. إيتوبيا غير فاضلة تكون هي نقيض التقييد والمساومة، والحجر، وتوريث العادات والقيم والمال.”[22]. وعبر شخصية الضاوية الخادمة ستختبر قناعاتها لتعجنها بالتجربة: ” لملامسة العنف الممتزج بالوجود، ولتعلم التعبير عن الرفض وعن التطلعات.”[23] .

وعبر هذا المسار الحالم اللاهث وراء حرية صيغت تفاصيلها ومعالمها في العالم الغربي، عاشت ( ف . ب)، تصدعات وإخفاقات أمام واقع رأته يعدم الطموحات. ورأت أن الكتابة تعطينا، ربما، وهم الانعتاق ولا متنهائية التحقق.”[24] لكنها اكتشفت قدرة الكتابة هاته متأخرة لذلك هي تحكي للسارد الذي يساكنها في فضاءاتها ويشعرها بأنها: “ليست واحدة لا ثاني لها”[25].

إن السارد أو الكاتب المفترض بتعبير محمد برادة يتقاسم مع شخصية ( ف. ب ) نفس المورد الثقافي، كما يتقاسمان نفس التطلعات. وقد أفصح عنها حين سرد لها قصص علاقاته في باريس في بداية السبعينات مع جوزيت الطالبة السويسرية، ومع صوفيا الإيطالية، ثم تذكره لطيف مارتين…وسواء أكانت الأحداث تنهل من واقع المؤلف أو من مخيلته، فهي تكشف عن اشتراكه مع (ف . ب ) في المنظومة الفكرية المنفلتة عن كل رقابة تكبح جماحها واندفاعها لملاحقة الحرية بمفهومها الفلسفي الوجودي، الذي لا يحلل الوجود الإنساني إلا من حيث أنه أساسًا فعلُ حرية، وتوكيدها، وتجسيدها في الواقع.

إن تسريد هاته العناصر في الرواية، في سياق التحليل الحجاجي، لا يمليها فقط السرد الفني، أو ممارسة لحوارية بوليفونية، بل هي جزء من استراتيجيات الروائي في إقناع القارئ والتأثير عليه بالدعوى التي يحملها الروائي في مشروعه الثقافي التغييري: ( التغيير كما يراه الروائي ذي الحمولة السياسية والفكرية والإيديولوجية التي يظهرها بشكل فني مضمر أو صريح )، هذا المشروع الذي يربط بين الفعل والتفكير، ويحول الممارسات الحياتية إلى أسئلة محرجة، ويقتحم عبرها المسكوت عنه، بآلياته الفنية المندمجة مع قناعاته الثقافية والفلسفية والإيديولوجية.

  • إيتوس المناضل المبدئي: يستلهم الروائي أحداث روايته أيضا من الواقع السياسي المغربي، ليضع المنسي في تجربة التناوب أمام القارئ قاصدا حسب قوله:” الإحالة على واقع ممارسة السياسة في المغرب، ومن حق كتابة الذاكرة كما أسميها أو كتابة التخييل الذاتي أن تستعين بعناصر راهنة وعناصر من الماضي، التي قد تكون لها دلالات ظرفية وقد تكون لها دلالات تتعدى سياقاتها وهذا ما قصدته”[26].

وفي سياق هاته التجربة السياسية التي يلتقطها عبر آليات التخييل الذاتي الذي يصعب فيه معرفة الحدود الفاصلة بين المرجعي والإبداعي، بين التاريخي والتخييلي، يبدو موقف الكاتب واضحا وشبه صريح، إنه موقف الرفض لهذا المسار رفضا تفصح عنه، الأسماء والسمات التي منحها لبعض الشخصيات الحزبية مثل: الحلايبي الذي يجسد الانتهازية الذي يتخذ الحزب وسيلة لتحقيق أغراضه، وشخصية ص الذي عرف بالنضال حين كان طالبا، وهرب إلى الخارج فارا من السلطة، ثم عاد ليتسلق في السلم التنظيمي للحزب، ويكتشف تلاعبه في الانتخابات، وشخصية ك الذي يرى أن المناضلين لم يخلقوا ليموتوا في المعارضة، لذلك ربط علاقات مع السلطة مستفيدا منها في تطوير مشاريعه، وشخصية ج ذي النزعة الانتهازية الواضحة. فالجامع بين هاته الشخصيات الحزبية هو الانتهازية، والرغبة في الاستوزار، واستدراك ما فاتهم في المعارضة. ولذلك ما فتئ يعبر بسخرية أدبية عن تبريرات بعضهم لهذه الخطوة. كما أنه يرى في اجتماعات الحزب ولقاءاتهم التي كان يكتفي فيها بالاستماع إلى الأعضاء مجالا لتسخين المتكلمين لحبالهم الصوتية، واجترار الكلام المعاد.

وقد ربط المؤلف صورة المناضل الحزبي بصورة الكاتب المبدع، حيث رأى في اجتماعه الذي حضره صحبة صديقه صالح رفيق الطفولة والنضال، ذي السيرة الطيبة في مساره النضالي، في قصر الحلايبي ما يتيح له التوفر على:” نسيج اجتماعي متشابك، متغلغل في معظم الفئات والطبقات، يفرز أفعالا وردود فعل، وينسل رمزية تؤثر على مجرى الأحداث، ويبلور شخوصا من دم ولحم، تصلح لأن تسوطن أرجاء النصوص الروائية، فتنعش بسلوكاتها الملتبسة وصراعاتها على المواقع، وعواطفها البشرية التي تنوس بين السمو والخسة”[27].

إن النسيان في هذه الرواية عند المؤلف المناضل يعادل التذكر للحقائق لتصحيح المسار، في مقابل نسيان الأوهام والأراجيف ، عبر استحضار تجربة نضالية راهن عليها لتغيير الواقع، لكن أحلامه تهاوت بعد الانعطافة التي أحالت مناضلي الحزب إلى صراع نحو المناصب والمصالح الفردية.

صورة المبدع الناقد : من عناصر التجريب في رواية: ” امرأة النسيان” هو تجاور أسئلة النقد إلى جانب التخييل الروائي، وتجاور التنظير مع الكتابة الإبداعية. هذا التجاور الذي يعطي للرواية خاصية الانفتاح المستمر، ويؤسس لممارسة إبداعية نقدية يعبر من خلالها المؤلف عن حرصه على استقاء مادة رواياته من الواقع والمعيش، دون أن تكون انعكاسا مباشرا له. وإنما عبر صياغته صياغة جديدة،  يتأكد هذا في علاقة السارد ب( ف . ب ) التي تجزم له أنه كتب عنها في لعبة النسيان، بينما يجزم أن ما بين (ف . ب) في الواقع وشخصيته الروائية من تشابه مجرد صدفة. وفي محاولته استجماع ما شهده في اجتماعه مع رفاق الحزب ليكون مادة روايته، وأيضا في ما طبع لقاءه مع شخصية ابن عريش من مساءلة إمكانات الرواية، وحدود علاقتها بالواقع، وغائية الكتابة الأدبية والروائية، يقول محمد برادة: “عاش بن عريش التجربة بوعي وأدى الثمن من شبابه، ومثله الآلاف، ولذلك يجزم بأن الأحوال مستعصية على الإصلاح. كيف أتجاسر أنا على أن أنسج من مغامراته، من مصيبته، من قدره المعتم، رواية تراهن على الأفضل؟ ألن تذكرنا بأن الكلمات لا ترمم شيئا من الشروخ القائمة في كل ركن وداخل كل نفس”[28].

إننا إذن في صلب التصورات النقدية التي يتبناها المؤلف، وينظرلها، إذ يرى أن التجريب في الكتابة الروائية تمرد على الموروث وخلخلة لشكلها القديم عبر ربط علاقات جديدة بين بنياتها وبين الواقع، لأنه : ” ما دامت العلاقة بين اللفظ والشيء لم تعد علاقة إحالية تعادلية بينهما، فإن التعبير غدا مستقلا عن معادلة المادي، وأصبح تأشيرا على غياب أكثر منه تعبيرا عن حضور كلي، وهذا الموقف من اللغة ومن غائية الأدب هو ما شرع الأبواب أمام فورة لا متناهية في مجال التعبير، وابتدع أشكاله بوساطة التجريب”[29].

إن الصورة التي يقدمها الناقد المبدع عن نفسه، صورة الروائي الناقد المنخرط : ” في نطاق تحول روائي عربي وفرنسي، وتشكل وعي أدبي وجمالي جديد، كان عنوانه في فرنسا هو “اللارواية” أو “الرواية الجديدة”، واتخذ له في مصر مفهوم “الحساسية الجديدة” الذي أطلقه إدوار الخراط لوسم تجربة هذا الجيل الجديد من الكتاب”[30] . وقد رسم هذه الصورة عبر تجاوز ما يسميه البعض بنقاء الجنس الأدبي، من خلال تداخل الرواية والسيرة الذاتية، ثم من خلال دمج أسئلة النقد الروائي والأدبي ضمن التخييل الروائي، بشكل يؤكد قابلية الانفتاح والحوارية بين الأجناس والنصوص.

إن الصورة التي يقدمها المؤلف عن نفسه، تكسبه عند القارئ أهلية تفعيل الآليات السردية التي من شأنها إبراز العوالم القيمية والإيديولوجية والفكرية التي يراها في المجتمع المغربي، لكن دون أن تكون محط إجماع، لأن القيم المجتمعية التي تعرضها الرواية بشكل حيادي، عبر تعدد الأصوات، أو بشكل يوحي بقبول الكاتب الافتراضي لها، وتجاوبه معها تصوريا وسلوكيا، ليست محط إجماع. وقد يراها البعض معرقلة للتطور في المجتمع، ولن تزيد إلا من التعثرات والأزمات.

2 ـ الأهواء في رواية: ” امرأة النسيان”:

بزغ الاهتمام بالعواطف في سياق الخطابة الحجاجية اليونانية، وتأرجح النظر إليها بين اعتبارها مضرة للخطاب مقوية للحجاج المغالطي وبين إيلائها الاهتمام الكبير من حيث كونها استراتيجية حجاجية مهمة لا يليق بالمتكلم إغفالها والتبخيس من دورها في الوصول بخطابه إلى أعلى درجات من التأثير، الذي يفضي بالمخاطب إلى الفعل.

ولم تضفر هذه الرافعة الحجاجية باهتمام مجدد البلاغة الأرسطية شاييم بيرلمان، فكما همش هذا الأخير الإيتوس همش أيضا الباطوس وأقصاه من إمبراطوريته الخطابية. وبعد أن استبعدت الأهواء ردحا من الزمن عن الحجاج والبلاغة عادت من جديد لتشكل ملمحا بارزا في التحليل الحجاجي للخطاب نظريات الحجاج الخطابي، بحيث سيفرد لها المقالات وتندمج اندماجا عضويا مع المقومات اللوغوسية في التحليل الحجاجي لجميع أشكال الخطاب المعاصر.

ولعل الهوى الذي يشكل لحمة الرواية، والقاسم المشترك بين السارد ـ المؤلف  و(ف . ب ) و حليمة صديقة (ف . ب) هو الشعور بالاغتراب والإحساس بالإحباط، ومرد ذلك إلى عدم القدرة على الاندماج في المجتمع ذي البنيات التقليدية، فرغم أن ( ف. ب) حاولت بناء حياة جديدة بعد زواجها بالدكتور خليل، والسفر معه إلى المغرب لتستقر معه في الراشدية وسط عائلته الكبيرة، لكن سرعان ما ستحس أنها نشاز وسط أسرته، ومن ثم قررت الافتراق عن زوجها، وتعود إلى باريس، لتبدأ مشاعر السأم والفسولة والنفور من الفضاءات التي عاشت فيها مزهوة متألقة ، بعد أن تفككت الروابط بينها وبين ما حولها.  ستثقل الوحدة أرجاء نفسها إلى حد الإحساس بالحاجة إلى طبيب نفسي. وبعد عودتها إلى المغرب، ورغم تفهم أبيها، انغلقت في ذكرياتها، وانتهى بها المطاف إلى عزلة عن المجتمع في عمارة العائلة بالدار البيضاء، لتموت هناك في أحضان الوحدة القاتلة.

هاته النهاية المأساوية كانت على نقيض ما كانت تشي به حيويتها ومغامراتها في لعبة النسيان. وقد عبرت هذه الشخصية عما رسمه السارد في مسارها السابق، وما أضحت عليه في الواقع الماثل أمامه قائلة:” أنت لم تتوقع، وأنت تتخيلني، أن أغدو هكذا: نقيض تلك التي أسبلت عليها اندفاعات التحدي وشراهة الإقبال على الحياة.”[31]

كان السارد وعبره الكاتب الضمني يعول على رمزية ( ف.ب) الثقافية واختياراتها الحداثية في صناعة نموذج يراه أصلح للمرأة المقبلة على الحياة والمنساقة نحو ما يحررها مما يكبلها من ثقل الماضي، وما تراه يصفد طاقاتها وطموحاتها. لكن ما انتهت إليه من عزلة واغتراب، كفيل أن يثير عند القارئ أيضا أسئلة المشروع الحداثي وتحديات الواقع، أسئلة الطموح والعقبات. لكن عبر آليات التخييل الذاتي. أسئلة يتواشج فيها المرجعي بالمتخيل، بشكل يجعل القارئ في تردد. لكن هذا التردد لا يمنع من أن يثير عنده مشاعر الشفقة، وهي شفقة تفضي إلى تحليل مسار هاته الشخصية السردي الكاشف لحمولتها الثقافية والقيمية والفكرية، الذي قد يراه البعض مسارا نضاليا من أجل الحرية، كما قد يراه البعض جريا وراء السراب، ونوعا من الانسلاخ عن القيم المجتمعية والدينية، وتطبيعا مع معاطب الأزمة ومواطن الخلل في المجتمع.

يمكن أن نعبر بالترسيمة التالية عن الخطاطة الحجاجية الممكنة والتي تجمع تفعيل الآليات الحجاجية الباطوسية واللوغوسية.

المقدمة الأولى : اندفاع ( ف. ب) ، عن وعي، نحو ما تراه يحقق لها السعادة والحرية والانعتاق.

المقدمة الثانية: انتهاء (ف. ب) إلى العزلة والاغتراب والإحساس بالاختلال والتباعد.

النتيجة: وجود تعثر في التطور بسبب تصلب البنية التقليدية.

هاته النتيجة من شأنها أن تثير عند القارئ الشفقة. وهي نتيجة باطوسية محتملة، لها ما بعدها من ضرورة خلخلة البنية التقليدية للمجتمع المغربي، لكي لا تتعرض مثل هاته النماذج إلى هذا المصير المحزن.  ولأنها أيضا نتيجة  تستقى من مقدمات نسبية لا تحظى باتفاق المستمع الكوني، يمكن أن تثير مشاعر أخرى تختلف من قارئ إلى آخر حسب حمولته الفكرية والإيديولوجية. وقد يراها البعض نوعا من النهاية المأساوية لطموحات الحداثة المستنسخة بشكل كامل من واقع غير الواقع المغربي ذي البنيات الثقافية والقيمية المتجذرة في الأفراد رغم ما يعتريهم من انحراف، ونكوص في الممارسة الحياتية. وهذا ما يفسر ما تعرضت له هذه الشخصية من خذلان: ” لو كانت لي أم قوية، مصممة، مجربة مثل سالومي لعلمتني كيف أطالب برأس من خذلني وتركني على عطشي. لا تظنن أنني ألمح للهادي، لا. فعندما قابلته كنت أروم النسيان. لعلي أقصد ذلك الذي قاد خطواتي الأولى على طريق الرفض واستنطاق الجسد لأكتشف ترف الغواية والحب ثم تركني ليعود، مطمئنا، إلى زواج مرتب أعدته العائلة.” [32]

أهو خذلان؟ أم تحكم للقيم المجتمعية التي تجعل المنظور الحداثي للعلاقات بين الرجل والمرأة وللأسرة ينكشف في محك الحياة والسيرورة والمآلات.

وبخصوص السارد / الكاتب الافتراضي، فهو يغالب الوحدة والغربة في واقعه عبر الكتابة، لكن لا تفتأ الغربة وهواجسها تلفه من جديد أمام خيبة أمله في مسار سياسي كان يعول عليه في النضال والتدافع الميداني، وأمام أسئلة الكتابة وحدودها بين معانقة الواقع وتعنته، وأمام تطلعاته الثقافية التغييرية التي تنحت في صخرة ما يعتبره نمطيا وتقليديا وحجرة كأداء يحول دون معانقة الحرية . أما حليمة صديقة ( ف . ب)، فقد عاشت عدة سنوات في باريس، وقد تقاسمت معها حياة المغامرات والنضال والجسد والمعرفة. لتنسج منها شخصية رافضة للقيم المجتمعية وللمواضعات السائدة، متشبعة بالحرية الفردية الغربية. لذلك هي الأخرى، تعيش حالات مفرطة من الاكتئاب والاغتراب، وعدم القدرة على الانسجام والتوافق مع محيطها الأسري والمهني في الكلية.

إن هذا الشعور في الرواية  نوع من الإدانة للواقع الذي لم يتطور في المغرب، وقد عبرعن ذلك المؤلف مباشرة  حين اعتبر غربة (ف . ب) مظهرا من مظاهر التطور المتعثر في المغرب.

وهذا يجعلنا نستنتج أن هذا الهوى الذي ينكشف في الرواية، يجسد صرخة المؤلف، وينبئ عن زفرته التي ترى في المشروع الحداثي يتهاوى أمامه في نهايات مأساوية لشخصياته المجسدة لتطلعاته، أمام واقع مستعص، يحتاج إلى تغيير أعمق، وبنيات ثقافية ومجتمعية متصلبة، تحتاج إلى خلخلة أكبر. لتبقى حوارية الرواية منبعا لإثراء الحوار مع القارئ ذي الحمولة الثقافية المتنوعة التي قد تعترف للروائي محمد برادة بقدرته على تفعيل آليات الحساسية الجديدة في الرواية، وقدرته على إيصال الأصوات المنسية بشكل إبداعي يفتح لهذا القارئ إمكانية الحوار مع ما تحمله مسارات السرد من أسئلة إيديولوجية وقيمية وإبداعية…

خاتمة

   حاول المؤلف عبر آلية الكتابة الروائية في امرأة النسيان، أن يدافع عن مشروعه الإيديولوجي وقناعاته الثقافية والإبداعية، بشكل ينسجم مع طبيعة الخطاب التخييلي ذي الحساسية التجريبية.

من خلال ما سبق يتحدد لنا إيتوس الكاتب المفترض، والذي لا يبتعد عن الكاتب محمد برادة، كما رسمه في خطاب روايته:” امرأة النسيان” في ثلاثية : المثقف الحداثي و المناضل السياسي والناقد والمبدع ذي التوجه التجريبي. وهاته الثلاثية تنسجم مع مجمل الدعاوى التي يسعى إلى الدفاع عنها، فهو في برنامجه السردي عامة، وفي برنامجه الواقعي يدافع عن مجتمع حداثي يحتفل بالحريات كما رسمتها الثورات الغربية، وينخرط فيه المثقف والروائي في إشكاليات السلطة والعنف الاجتماعي، عبر آليات الكتابة التي تستجيب للتحولات، وتتمرد على النمطي والمألوف والتقليدي. و تشكل هذه الثلاثية عناصر كاشفة عن الذات، ورافعة حجاجية تنسجم مع مرامي التسريد وغايات الكتابة.

وأسفرت مقاربتنا المقتضبة للأهواء في “امرأة النسيان” أنها تضمر صرخة المؤلف وزفرته على تطور متعثر في المغرب، يرى مصيرا مأساويا لشخصيات مشروعه الحداثي. لكنها صرخة لا تبلغ آذان كل القراء بنفس النتائج، بل تفتح أسئلة تحتاج إلى حوار مجتمعي يشارك فيه المبدع والمفكر والسياسي… لصناعة نوع من السيرورات السردية الجديدة.

المراجع والمصادرالعربية

 

  • إبراهيم بن منصور التركي، بلاغة الحجاج في دراسات (علم الاتصال) ــ تصور نظري ، مجلة العلوم العربية، ع : 60، رجب1442هــ .
  • أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط 1، 1993.
  • أدوار الخراط، الحساسية الجديدة مقالات في الظاهرة القصصية، دار الآداب بيروت، ط 1، 1993.
  • أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشر، طبعة بغداد، 1980.
  • سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، دار الأمان، الرباط، المغرب، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 ،2012.
  • صلاح فضل، التجريب في الإبداع الروائي، ضمن كتاب الرواية العربية، ممكنات السرد، اعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، ديسمبر 2004 ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2006 .
  • محمد برادة لعبة النسيان، نشر الفنك، الدار البيضاء، 2004.
  • محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د. ط، 2012.
  • محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، نحو مقاربة حجاجية لتحليل الخطابات.

 

المراجع والمصادر الفرنسية:

Ruth Amossy, L’argumentation dans le discours , Armand colin,2006, Paris.

المواقع الإلكترونية:

المتوكل طه، في ذكرى الشاعر محمد عفيفي مطر .. بين اللحم وسلك الكهرباء، 04.07.2022، https://www.wattan.net/ar/news/377057.html

محمد برادة، في حوار مع إيلاف: محمد برادة: الكاتب ليس فردا فقط، بل ذوات مضادة ومعاكسة ، الإثنين 09 سبتمبر   2002،  – https://elaph.com/Web/Archive/1031522018628858600.htm.

 

[1]  ــ أستاذ جامعي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، منسق تكوين الدكتوراه أدب وفنون، مشرف على أطروحة الدكتوراه للطالب إدريس بكار.

[2]  ــ طالب باحث بكلية كلية اللغات والآداب والفنون جامعة ابن طفيل القنيطرة، ضمن تكوين أدب وفنون.

[3] ــ Ruth Amossy, L’argumentation dans le discours , Armand colin,2006, Paris, p : 117.

[4] ــ أدوار الخراط، الحساسية الجديدة مقالات في الظاهرة القصصية، دار الآداب بيروت، ط 1، 1993، ص: 14

[5] ــ محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د. ط، 2012،ص: 48.

[6]  ــ صلاح فضل، التجريب في الإبداع الروائي، ضمن كتاب الرواية العربية، ممكنات السرد، اعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، ديسمبر 2004 ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو 2006 ، ص85.

 ــ أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الرشيد للنشر، طبعة بغداد، 1980، ص:29.[7]

[8] ــ محمد مشبال، في بلاغة الحجاج، نحو مقاربة حجاجية لتحليل الخطابات، ص:177.

 [9] ــ للتوسع في الموضوع يمكن الرجوع لمقال : د. إبراهيم بن منصور التركي، بلاغة الحجاج في دراسات (علم الاتصال) ــ تصور نظري ، مجلة العلوم العربية، ع : 60، رجب1442هــ  من ص : 239 إلى 378.

 ــ  أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط 1، 1993، ص: 56. [10]

[11]  ــ المرجع نفسه، ص: 57.

[12]  ــ محمد برادة لعبة النسيان، نشر الفنك، الدار البيضاء، 2004، ص: 6

[13]  ــ محمد برادة، في حوار مع إيلاف: محمد برادة: الكاتب ليس فردا فقط، بل ذوات مضادة ومعاكسة ، الإثنين 09 سبتمبر   2002،  – https://elaph.com/Web/Archive/1031522018628858600.htm.

[14] ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 24.

[15]  ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 48.

[16]  ــ المتوكل طه، في ذكرى الشاعر محمد عفيفي مطر .. بين اللحم وسلك الكهرباء، 04.07.2022، https://www.wattan.net/ar/news/377057.html

[17]  ــ محمد برادة، في حوار مع إيلاف: محمد برادة: الكاتب ليس فردا فقط، بل ذوات مضادة ومعاكسة ، الإثنين 09 سبتمبر   2002،  – https://elaph.com/Web/Archive/1031522018628858600.htm.

[18]  ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 39.

[19]  ــ محمد برادة، في حوار مع إيلاف

ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص ص: 16 ــ 17.[20]

 ــ المصدر نفسه، ص ص: 18 ــ19. [21]

[22]  ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 19.

[23]  ــ المصدر نفسه، ص: 56.

[24]  ــ المصدر نفسه، ص: 58.

 ــ  المصدر نفسه، ص: 58.[25]

[26]  ــ محمد برادة، في حوار مع إيلاف، المرجع نفسه.

 ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص ص: 37 ـ 38.[27]

[28]  ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 73.

 ــ محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د.ط، 2012 ص: 49. [29]

[30]  ــ سعيد يقطين، قضايا الرواية العربية الجديدة، الوجود والحدود، دار الأمان، الرباط، المغرب، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1 ،2012، ص: 77.

 ــ محمد برادة، امرأة النسيان، ص: 12. [31]

 ــ  المصدر نفسه، ص ص: 14ــ 15.[32]

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات