مقدمة:
نظرًا لما يشهده العصر الحالي من تغيرات متسارعة في كل مجالات الحياة، كالثروة المعلوماتية، والتطورات في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، القفزة الهائلة في نظم الاتصالات والفضائيات؛ وغير ذلك من مظاهر التقدم اللامتناهية، عرفت على غرارها الساحة الثقافية حراكًا فكريًا ملفتًا بالنظر للقرنين الأخيرين، واختلفت التحديات التي تواجه المثقف في هذه الحقبة، سارت على إثرها كثير من دول العالم بخطى حثيثة نحو تأسيس مجتمع المعرفة؛ ولعل أهم التحديات هي العولمة، وبالأخص “العولمة الثقافية” وآلياتها، وتأثيرها على حركة الإبداع.
وبينما يقع العبء الأكبر على المثقف، حيث أصبح دوره رئيسًا ومحوريًا للولوج إلى مجتمع المعرفة والمساعدة على تحقيق التنمية، على جانب آخر يقف المبدع كجندي مغوار ينتظر دوره لدفع عجلة التنمية للأمام.
الإشكالية الرئيسة لهذه الدراسة هي معرفة ماهية الحالة الثقافة للمجتمع العالمي والنظر إلى وضعه الحالي في ضوء تلك التحديات، في محاولة للكشف عن ملامح وسمات المبدع بعد كل ما مرت به الإنسانية من تغيرات، من خلال الأسئلة التالية: ما هي الآليات المتاحة لدمج الثقافة بالإبداع وتحقيق التنمية المنشود؟ وكيف سيتمكن المبدع من جعل معارفه مواكبة للحاضر دون قطع الصلة مع تراث الماضي؟.
ستحاول الباحثة في نهاية البحث معرفة تأثير الفن والأدب على أفكار وسلوكيات الإنسان المعاصر. معتمدة في ذلك على المنهج التحليلي والمنهج النقدي المقارن.
المبحث الأول
تعريف الثقافة والإبداع
المطلب الأول: تعريف الثقافة:-
تعريف روبرت بريسيتدتRobert Biersedt للثقافة: هي ذلك الكل المركب الذي يشمل جميع الأشياء التي نفكر فيها ونعملها، وكل ما نملك بصفتنا أعضاء في المجتمع. والثقافة عند ابن خلدون “هي كل ما قام به الإنسان من جهد وفكر ونشاط ليسد به النقص من طبيعته الأولى وحاجاته في بيئته حتى يعيش عيشة عامرة وزاخرة بالأدوات، والصنائع. أما عن الثقافة بصفة عامة: هي كل ما لدينا من تراث علمي وأدبي وفني يضاف إليه ما نبتكره ونخلقه في هذه المجالات لما فيه تقدم البشرية لما هو أفضل وأسعد[1].
تنبثق وتتطور الهوية الثقافية، كأي كيان، مع المستجدات العصرية، والمحصلة الإيجابية المعرفية للشباب، وهي ليست شيئًا جامدًا لا يقبل الانكماش أو الانتشار، وهي مع الوقت تكتسب حصيلة التجارب والمعاناة، فتتلاشى الإخفاقات، وتقوم بتدعيم الإيجابيات على المستويين الفردي والجمعي، مع الأخذ في الحسبان دومًا أن البيئة المحيطة، وأنواع الصراعات الموجودة داخل الحيز الذي تعيش بداخله، ويتم توجيهها بحسب المصالح الوطنية والقومية[2].
- الثقافة العربية:
يقول عباس محمود العقاد في كتاب: “الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين”: “حقيقة مفاجئة.. أقدم الثقافات الثلاث؛ وهذه الثقافات الثلاث هي: العربية واليونانية والعبرانية. أقدمها في التاريخ هي الثقافة العربية، قبل أن تعرف أمة من هذه الأمم باسمها المشهور في العصور الحديثة. وهذه حقيقة من حقائق التاريخ الثابت الذي لا يحتاج إلى عناء طويل في إثباته، ولكنها على ذلك حقيقة غريبة تقع عند الكثيرين من الأوربيين والشرقيين، بل عند بعض العرب المحدثين، موقع المفاجأة التي لا تزول بغير المراجعة والبحث المستفيض”[3].
المطلب الثاني: تعريف الإبداع:-
أول من قدم تعريف دقيق للإبداع (Creativity) هو جوزيف شومبيتر Schumpeter، حيث عرفه بأنه النتيجة الناجمة عن إنشاء طريقة أو أسلوب جديد في الانتاج، وكذا التغيير في جميع مكونات المنتج أو كيفية تصميمه.” ويعرفه روشكا (Rosca) بأنه:” النشاط أو العملية التي تقود إلى إنتاج يتصف بالجدية والأصالة والقيمة من أجل المجتمع”[4]. بصفة عامة يمكن التمييز بين ثلاثة عناصر تعطي مفهوم واضح للإبداع تتمثل في: (الشخص المبدع، المنتج الإبداعي، العملية الإبداعية)[5].
المطلب الثالث: تعريف التنمية:-
سنولي الأهمية في هذه النقطة للتنمية المستدامة، والتي تعد أكمل أنواع التنمية وأكثرها إفادة للجنس البشري:
يعرف برنامج (الأمم المتحدة للتنمية والبيئية) التنمية المستدامة بأنها:” تنمية تستجيب لإحتياجات الأجيال الراهنة دون المساس بقدرة الأجيال القادمة للاستجابة أو على الوفاء باحتياجاتها أيضًا”.
وتركز فلسفة التنمية المستدامة على حقيقة هامة، مفادها أن الاهتمام بالبيئة جوهر التنمية الاقتصادي، نظرًا لكون الموارد محققة نجاحًا في النمو أو المنافسة، متجاهلة حقوق الأجيال القادمة في البيئة والموارد الطبيعية، وهذا لاشك أنه يهدد بعدم إستمرارية التنمية في المستقبل، فالنجاح الحقيقي هو إن حافظنا على قاعدة الموارد الطبيعية والمحددات البيئة، واستطعنا تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود[6].
المطلب الرابع: صفات المبدع:-
ركز كتاب “غريزة الحضارة” لكاتبه نبيل عبد اللطيف على صفات المبدع، ونقل، رأي الدكتور فؤاد زكريا في كتابه “التفكير العلمي”؛ وكانت الصفات على النحو التالي:
- التحلي بالروح النقدية: حيث أن المبدع عامة، له القدرة على أن يختبر الآراء بذهن ناقد، لا يقبل إلا ما هو مقنع ومبني على أسس عقلية وعلمية سليمة.
- التمسك بمبدأ الحياد: فلا ينحاز مقدمًا لطرف في أي نزاع فكري أو علمي، وهو يطرح تفضيلاته الشخصية والذاتية جانبًا، وينظر إلى جميع الآراء على قدم المساواة.
- التمتع بالنزاهة في عمله وإبداعه: فيطرح جانبًا أي مصالح أو ميول أو اتجاهات شخصية قد تكون لها آثارا سلبية على عمله، ويعالج موضوعه الفكري أو العلمي بتجرد تام، ويلجأ إلى وسيلة وحيدة للإقناع وهي الدلائل والبراهين الموضوعية[7].
هذه كانت أبرز الصفات التي وردت بحسب ما ذكر نبيل عبد اللطيف في كتابه؛ ولكن هل تلك الصفات كافية؟ بعد تفكير وبحث دقيق توصلت الباحثة أن هناك المزيد من الصفات والتي يمكننا القول بأنها أكثر دقة وتركيز على المبدع الساعي للتنمية المجتمعية؛ وجاءت الصفات على النحو التالي:
- العبقرية: الشخص المبدع يجب أن يتحلى بالعبقرية، وهنا سنستند لما يقوله إيمانويل كانط الذي كان يعتقد بصعوبة مواصلة العملية الإبداعية لأن العبقرية والقدرة على مواصلة الإبداع وإنتاج العمل الفني الرائع لا يمكن أن تأتي عن طريق الاجتهاد أو الدراسة فقط.
- التميز بالبصيرة: حيث إن لم يكن المبدع ذا بصيرة نافذة، فإنه لن يكون قادر على ابتكار معارف جديدة، أو تنظيم المعلومات أو توظيف المعرفة بصورة مبتكرة.
- أن يتمتع بالموهبة: هي صفة لا غنى عنها في المبدع، فبلا موهبة سيصبح التنافس، بل التكالب على الفرص الوهمية، ويترتب عليه أن يصبح إغراق العالم بالإنتاج المكرر، هو بطل المشهد التنموي المجتمعي.
- التحلي بالبطولة: وهي من أهم صفات المبدع، أولًا: لأن تحقيق الفكرة الإبداعية تحتاج إلى المغامرة، وتحمل مشاق رحلة البحث والإبداع، وثانيًا: اختيار مصطلح مثلًا كالشجاعة قد تدفعك لأخذ الخطوة الأولى في طريق الإبداع، ولكن البطولة بمعناها الأشمل تدفعك للمثابرة لاستكمال العملية الإبداعية.
- السعي نحو الكمال: بدون الرغبة في السعي نحو الكمال، لن يكون هناك داعي لاتخاذ أول خطوة في طريق الإبداع، وبدون كمال ليس هناك مشروع ابداعي. يقول الفيلسوف الإيطالي لاتشليو فانيني:” إن كان ما حولنا كامل ومثالي فهذا معناه عدم الكمال لأن الأشياء وإذًا كانت كاملة كانت جامدة؛ بالتالي لن يكون هناك تطور؛ السعي نحو الكمال.. هذا هو الكمال”.
المبحث الثاني
تأثير العولمة على ثقافة المبدع
المطلب الأول: العولمة ودورها في تثقيف المبدع:-
تحمل العولمة في طياتها نوعًا من” الغزو الثقافي”، أي من قهر الثقافة الأقوى لثقافة أخرى أضعف منها، كالذي فعله المهاجرون الأوائل إلى القارة الأمريكية بالهنود الحمر؛ تلك الصور للغزو الثقافي كان من الممكن دائمًا أن ننظر إليها نظرات متعددة. ولكن من الممكن دائمًا أن نصف ظاهرة الغزو الثقافي بأنها اعتداء رأسمالي على الهوية الثقافية للأمة المعتدى عليها من أجل استغلالها اقتصاديًا، كما يمكن أن نصفها بأنها غزو دين لدين، أو إحلال ثقافة أمة محل ثقافة أخرى، كما أنه من الممكن أن يوجد المدافعون عن هذا الغزو الثقافي باسم تعظيم الإنتاج ونشر الحضارة.
بهذا نفهم لماذا تقترن العولمة دائمًا بدرجة أو بأخرى من القهر الثقافي. ذلك أن هذا التقدم التكنولوجي، الذي يدفع الإنسان دفعًا إلى مزيد من العولمة، ينطوي بطبيعته على تهديد للهوية الثقافية[8].
السؤال الآن.. هل يعد العلم ثقافة؟
يجيب أنطوني أو’هير على هذا السؤال بالنفي، حيث يؤكد بوضوح تام أن العلم لا يعد ثقافة لأنه يخلو من أي قيمة وفي شرح هذا الأمر، يقول: “يتمثل الجانب الصواب الخاص بإدراك العلوم باعتبارها تخلو من القيم في المادة العلمية والمناهج البحثية المتبعة في العلوم، كما تشمل المناهج البحثية الخاصة بالعلوم ملاحظة وقياس الظاهر من خلال أشخاص أكفاء يقومون بتسجيل الملاحظات بغض النظر عن معتقداتهم، ودوافعهم وخلفياتهم الثقافية والاختبارات الصارمة الخاصة بالنظريات التي تتعارض مع هذه الملاحظات والقياسات والتي يقوم بإجرائها علماء آخرين بغض النظر عن الأيديولوجية أو الخلفية الخاصة بهم[9].
ما يريد أو’هير قوله هنا هو أنه لا يمكن اعتبار العلم ثقافة لأنه يختزل المعرفة ويضع قوانين صارمة ومادية من شأنها الإطاحة بفكرة الثقافة أو الإبداع أو التنمية.
وفي دراسة “ما بعد التقدم” هناك عنصر يكشف بصورة أو أخرى ما هي سبب المشكلة الابداعية :” المشكلة هي أن خيالنا ضيق وذاكرتنا قصيرة. فنحن راضيين جداً وسلبيين في وجه العالم كما يكون. ننظر لكل شيء من منظور الحاضر، كما لو كان الحاضر كل شيء موجود، وكما لو كان الماضي مجرد نسخة مكررة من الحاضر. حيث تظهر الخيالات المحدودة والذاكرات القصيرة لعبة بيد من لهم السلطة اليوم. فقد أصبح التاريخ الهويغي رسمي وأصبحت التقدمية المرضية جزء من عقول المفكرين والمعلمين اللذين يرغبون بشدة في تعزيز أوهام اليوم[10].
وهنا جاء أو’هير برأي يشابه كثيرًا رأي د/ وهبة طلعت أبو العلا، في كتاب بعنوان “الوجود المقلوب” يوضح كيف أننا لعبة في يد من بيدهم السلطة اليوم فيقول:
“لم يعد في الإمكان حدوث أي شيء- باستثناء الظواهر الطبيعية التي لا دخل للإنسان فيها- إلا بمعرفة حراس العالم ( ويقصد بهم أمريكيا) وتدبيرهم المسبق سلفاً. لقد سجنوا كل شيء، سجنوا حتى التاريخ نفسه كف عن حركته الدائرية و أصبح يسير إلى الأمام في تقدم مضطرد لا يعرف التوقف. فالحركة الدائرية للزمن أصبحت مقصورة على الكل باستثناء أمريكيا التي لم تعد تعرف سوى الحركة المستقيمة المضطردة دوماً من تقدم إلى تقدم, والتي لا ولن تتوقف أبداً. فهذه هي النتيجة الحتمية المترتبة على التقدم التكنولوجي الذي تحقق، ويتحقق، وسيظل يتحقق لصالحها إلى الأبد.”[11]
المطلب الثاني: التطور التكنولوجي والتنمية: ثقافة المبدع إلى أين؟!
تناول “جلال أمين” في كتابه “العولمة” فكرة التطور التكنولوجي وتأثيره على الإنسان، وهل حققت له فعلاً الرفاهية والتقدم المنشود؟ أم عادت على الإنسان بالأضرار؟ فيؤكد أنه:
“ليس هناك ما يضمن للإنسان أن يتجنب ابتداع وسائل للإنتاج أو الاستهلاك تتجاوز قدرته البيولوجية أو النفسية على التحمل، فإذا به يذهب في تطوير التكنولوجيا إلى حدود قد تتعارض تعارضاً جسيماً مع الهدف الذي كان يبتغيه ابتداء، وهو تخفيف أعباء الحياة وزيادة قدرته على الاستمتاع بها بل وحتى المحافظة على بقائه. ليس هناك مثلاً ما يحمي الإنسان، وهو في سبيل السعي إلى إطالة وقت فراغه، من أن يبتدع من طرق الإنتاج أو الاستهلاك ما يقصر وقت الفراغ من أن يطيله، وليس هناك ما يحميه، وهو في سبيل السعي إلى تحقيق مزيد من الاطمئنان إلى مستقبله، إلى اختراع ما يجعله أكثر قلقاً وأقل اطمئناناً[12].
المبحث الثالث
معضلة الدارونية: أزمة الإبداع وسبل التنمية.
المطلب الأول: الدارونية وهدم الثقافة:-
إن مفهوم الجينة ومفهوم الثقافة بقيا متعارضين لفترة طويلة من الزمن. فمفهوم الجينة – وهو الأصل الذي أنبنت عليه النظرية الدارونية – يذكر بما هو حتمي أو محدد مسبقًا عند الكائن العضوي، بينما مفهوم الثقافة يستدعي التنوعات والاختلافات في السلوك والمعتقدات والأعراف والعادات الاجتماعية، أي التنوعات التي تعتبر ناتجة عن التعلم والاندماج في المجتمع، والتي تؤدي دورًا كبيرًا في بناء شخصية الفرد المنتمي إلى جماعة معينة. لكن هذا التعارض تضاءل في عصرنا الحاضر، لا سيما بعد أن تطورت البيولوجيا والعلوم الاجتماعية، ما جعل العالم العصبوني neurobiologiste جان بيار شانجي Jean – pierre changeux يقول:” الصراع الإيديولوجي بين الجينة والثقافة أصبح جزء من الماضي”.[13]
- الميميائية وأزمة الإبداع:
النظرية المعروفة بإسم الميمياء Memetics والتي تهدف إلى تفسير الظواهر الثقافية بواسطة آليات التطور. ظهرت هذه النظرية واتسعت إثر نشر عالم البيولوجيا ريتشارد داوكنز Richard Dawkins كتاب ” الجينة الأنانية”، وفقا لقانون الانتخاب. تعتمد المقاربة الميميائية على النظرية التطورية في تفسير الظواهر الثقافية، فهي تستمد من النظرية الداروينية، وتسعى إلى تفسير الثقافة بمصطلحات مستعارة من النظرية الجينيائية.[14]
منذ نشأته، وعلى مدى مراحل تطوره كان مصير الإنسان، وسيظل، محكومًا بمسلسل من الداروينيات، لكل منها شروط بقاء تفرضها عوامل متنوعة، بيولوجية في البداية، لا دخل للإنسان فيها، ثم بيئية، فاجتماعية، لترقى في النهاية إلى عوامل نفسية وثقافية تتوقف – في المقام الأول – على إدارة الإنسان، هذا ما آلت إليه داروينية مجتمع المعرفة، حيث البقاء فيه من نصيب ” الأعقل” ويمضي ليبلغ ذروته، إذ يصبح البقاء فيه من نصيب ” الأبدع”، إن هذه النزعة قد فتحت الباب على مصرعيه أمام ممارسة الإبداع بصورة لم تعهدها البشرية من قبل؛ تلك هي إذا دارونية مجتمع المعرفة التي تفوق في ضراوتها كل ما سبقها؛ إعداد الفرد ذهنيًا ووجدانيًا من ناحية، وإعداد المجتمع بأسره لكي يصبح قادرًا على أن يصنع عقلًا جمعيًا يفوق حصيلة هذه العقول[15].
المطلب الثاني: حل الأزمة الإبداعية.. سبل التنمية:-
يقول جون ديوي في كتاب “الحرية والثقافة”:” إن وجود أخلاقيات للنزاهة العقلية والاستقامة الفكرية، وإرادة إخضاع الهوى للعقل والحقائق اليقينية الموثوق بصحتها، والمشاركة في كل ما يتيسر لنا أن نصل إليه من الحقائق بدلًا من الاستأثار بها واستغلالها في جني مكاسب ومنافع شخصية لأنفسنا وحدنا- إن وجد ذلك كله، ولو بقدر صغير نسبيًا،إنما هو تحد من أشد ضروب التحدي.”[16]
ويقدم ديوي الحل في الفقرة التالية:” إن الرد على هذا التحدي مرتبط بمصير الديمقراطية. فانتشار التعليم بمعنى محو الأمية، وتغلغل نفوذ الطباعة العظيم من حيث نشر الكتب، وذيوع الصحافة اليومية، والمجلات يجعل المسألة ملحة عاجلة بالنسبة للديمقراطية. فالعوامل التي كان ينظر إليها من مائة وخمسين سنة مضت، على أنها سوف تعمل على تأييد قضية الديمقراطية، قد أصبحت الآن هي نفسها التي تمكن لقيام كل رأي زائف، وتعمل على تقويض أسس الديمقراطية من الداخل.”[17]
إن الثقافة الحالية تسمح للعلم أن يهدم القيم المأثورة، ويسيء الظن بقدرته على خلق قيم جديدة، ولهي ثقافة تهدم نفسها بنفسها. فالحرب عرض من أعراض ذلك الانقسام الباطني، بقدر هي سبب من أسبابه.[18]
يقدم نبيل على في كتاب العقل العربي ومجتمع المعرفة حل آخر، فيقول:” سنكتفي هنا بالقول إن إدراكنا لمواضع التداخل بين العقول والتفكير والمعرفة، وطبيعة العلاقات التي تربط بينها، هو شرط لا غنى عنه لبلورة رؤى عربية أصيلة ومبتكرة لكل ما يتعلق بإقامة مجتمع المعرفة العربي، ووضع أيدينا على مناهل جديدة لمواجهة التحديات الجسام التي ينطوي عليها. ويكمن التحدي الرئيسي في عقدة الخوف، التي حالت بيننا وبين ارتياد هذه المناطق الغامضة، وبداية الطريق للتخلص من عقدة الخوف هذه هي في الانتقال من حديث العموميات الذي ساد تناولنا لإشكالية المعرفة، إلى مستويات أدق من التفاصيل والتحديد.”[19]
والحل الثالث لهذه المعضلة هي أنه من أوجب الواجبات على الأمم – إذا أرادت النهوض والسعي على مضمار الحضارة- أن تحتضن المواهب الدفينة في قلوب النشء من أبناءها، وأن تتعهد بالحماية، وأن توفر الحرية اللازمة لنماء تلك البادرات التي غرسها الله في خلقه، وأن لا يألوا أحد جهدًا في تغذية ينابيع العبقرية بالمعرفة الحقة.. وعلى الصفوة من أهل الفكر أن يتبينوا للناس تلك الفريضة التي تخبو وتغيب في أغوار أزمان التخلف والتردي، وتومض وتتلألأ وتفيض بالخير في رحاب الحضارات ومع كل رقي أو تقدم.[20]
كما أنه من أهم هذه الحلول: الاعتراف بأن لا تقبل التهميش، فهي محور المنظومة المجتمعية، ومصدر الاستدامة، ونبع الإبداع الذي لا ينضب، إضافة إلى كون صناعة الثقافة تعد من أهم صناعات مجتمع المعرفة. وتهميش الثقافة هو من أخطر ما توصم به العولمة الحالية، وهو كذلك من أهم الأسباب وراء إخفاق كثير من مشاريع التنمية.
وآخر حل لمشكلة الإبداع: السؤال عن العلاقة بين الفن والحياة الاجتماعية والذي يلوح دائمًا بقوة في كل الآداب التي بلغت مرحلة معينة من التطور A definite stage of development وغالبًا ما يجاب على السؤال بإحدى طرقتين متعارضتين، فالبعض يقول إن الإنسان، والمجتمع لم يصنع من أجل الفنانين وإنما الفنانون كانوا من أجل المجتمع، ووظيفة الفن هي تطوير الوعي الإنساني development of men’s consciousness وتحسين الوضع الاجتماعي Improve the social system بينما يرفض الآخرون بشدة وجهة النظر هذه، وفي رأيهم أن الفن يقصد لذاته ليحولونه إلى ما يعني أي إنجاز لهدف إضافي حتى ولو كان نبيلًا، إنهم يحطون من مرتبة العمل في الفن.[21]
نتائج البحث:-
1) الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين؛ وسبب الإشارة لذلك هو إيضاح مدى مسئولية هذه الثقافة العريقة في تحقيق التنمية والإبداع، وهذا ليس فقط للمجتمع العربي وإنما للعالم أجمع.
2) صفات المبدع على درجة عالية من الأهمية لأن الإبداع لا يحدث إلا بوجود الشخص المبدع، وعليه جاءت أهمية التركيز على صفاته؛ التي ركز الدكتور فؤاد زكريا على العقلية منها، مثل النقد والحيادية، وركزنا على العامة، مثل الموهبة والبطولة والسعي نحو الكمال؛ وباجتماع كل الصفات يتكون لدينا الإنسان المبدع القادر على تكوين كل ما هو جديد.
3) المشكلات والتحديات التي تواجه الثقافة والإبداع والتنمية على حد سواء؛ تتلخص في ثلاث أساسية ( العولمة وتأثيرها السلبي على الثقافة- العلم بمنهجة الاختزالي الحتمي- الدارونية وتوارث الثقافة والتقيد بجين أو ميم).
4) وجود أخلاقيات للنزاهة العقلية والاستقامة الفكرية، وإرادة إخضاع الهوى للعقل والحقائق اليقينية الموثوق بصحتها، إنما هو تحد من أشد ضروب التحدي، والرد عليه مرتبط بمصير الديمقراطية.
5) إن إدراكنا لمواضع التداخل بين العقول والتفكير والمعرفة، وطبيعة العلاقات التي تربط بينها، هو شرط لا غنى عنه لبلورة رؤى عربية أصيلة ومبتكرة لكل ما يتعلق بإقامة مجتمع المعرفة العربي.
6) من أوجب الواجبات على الأمم أن تحتضن المواهب الدفينة في قلوب النشء من أبناءها، وأن تتعهد بالحماية، وأن توفر الحرية اللازمة لنماء تلك البادرات التي غرسها الله في خلقه.
7) الثقافة لا تقبل التهميش، فهي محور المنظومة المجتمعية، ومصدر الاستدامة، ونبع الإبداع الذي لا ينضب، إضافة إلى كون صناعة الثقافة تعد من أهم صناعات مجتمع المعرفة. وتهميش الثقافة هو من أخطر ما توصم به العولمة الحالية.
8) المجتمع لم يصنع من أجل الفنانين وإنما الفنانون كانوا من أجل المجتمع، ووظيفة الفن هي تطوير الوعي الإنساني وتحسين الوضع الاجتماعي.
قائمة المراجع:
- جلال أمين، العولمة، دار الشروق، القاهرة، 2009.
- جون ديوي، الحرية والثقافة، ترجمة: أمين مرسي قنديل، سلسلة الفكر، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010.
- رشا مكي، ما بعد التقدم، تقديم: محمد أحمد السيد، دار يسطرون، القاهرة، 2017.
- رشا مكي، التعددية الثقافية (تحديات الانفصالية وسبل الاندماج)، مجلة ميريت الثقافية، ع 2، نوفمبر 2019.
- رمضان الصباغ، جماليات الفن (الإطار الأخلاقي والاجتماعي)، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2003.
- عباس محمود العقاد، الثقافة العربية أسبق من الثقافة اليونان والعبريين، دار القلم، مكتبة النهضة المصرية.
- مكي هشام، الإبداع المعرفي ودوره في تحقيق التنمية المستدامة في الاتحاد الأوروبي، بوابة الباحث، أبريل 2013.
- منى أحمد عبود، الميمياء (نظرية تطورية في تفسير الثقافة)، دار بيسان، بيروت، 2008.
- نبيل عبد اللطيف، غريزة الحضارة، دار ليليت، الإسكندرية، 2014.
- نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة (مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
- وهبة طلعت أبو العلا، الوجود المقلوب (رؤية فلسفية معاصرة)، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1997.
1- رشا مكي، التعددية الثقافية (تحديات الانفصالية وسبل الاندماج)، مجلة ميريت الثقافية، ع 2، نوفمبر 2019، ص 162
[3] – عباس محمود العقاد، الثقافة العربية أسبق من الثقافة اليونان والعبريين، دار القلم، مكتبة النهضة المصرية، ص 5
[4] – مكي هشام، الإبداع المعرفي ودوره في تحقيق التنمية المستدامة في الاتحاد الأوروبي، بوابة الباحث، أبريل 2013، ص3
[5] – نفسه
[6] مكي هشام، الإبداع المعرفي ودوره في تحقيق التنمية المستدامة في الاتحاد الأوروبي، بوابة الباحث، أبريل 2013، ص 5
[7] – نبيل عبد اللطيف، غريزة الحضارة، دار ليليت، الإسكندرية، 2014، ص 83، 84
[8] – أنظر، العولمة، جلال أمين، دار الشروق، القاهرة، 2008، ص 48، 49
[9] – رشا مكي، ما بعد التقدم، تقديم: محمد أحمد السيد، دار يسطرون، القاهرة، 2017، ص 60
[10] – رشا مكي، ما بعد التقدم، تقديم: محمد أحمد السيد، دار يسطرون، القاهرة، 2017، ص 145
[11] – وهبة طلعت أبو العلا، الوجود المقلوب (رؤية فلسفية معاصرة)، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1997، ص 191، 192
[12] – جلال أمين، العولمة، دار الشروق، القاهرة، 2009، ص 51
[13] – منى أحمد عبود، الميمياء ( نظرية تطورية في تفسير الثقافة)، دار بيسان، بيروت، 2008، ص 10
[14] – أنظر، نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة ( مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص 14، 15
[15] – جون ديوي، الحرية والثقافة، ترجمة: أمين مرسي قنديل، سلسلة الفكر، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010، ص 147
[16] – نفسه، ص 147
[17] – نفسه، ص 153
[18] – نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة ( مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص 64
[19] – نبيل عبد اللطيف، غريزة الحضارة، دار ليليت، الإسكندرية، 2014، ص88
[20] – نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة ( مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص 37
[21] – رمضان الصباغ، جماليات الفن (الإطار الأخلاقي والاجتماعي)، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2003، ص 177
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *