مقدمة:
منذ العصر الإسلامي الأول، ظل “سؤال التفوق” محور انشغالات الصحابة، بهدف إيجاد الصورة المثلى لما ينبغي أن يكون عليه المرء في دينه ودنياه، وذلك ما نلمسه في طبيعة التساؤلات الصادرة عنهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من قبيل قول عقبة بن عامر: «يا رسول الله؛ ما النجاة؟»، وقول معاذ: «يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار»، وكسؤالهم عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل، وذلك لأن المسلم دائم التشوف إلى الأسمى والأعلى والأرفع في الدنيا والآخرة، وفي القرآن الكريم والسنة المشرفة؛ ألفاظ لها دلالتها في هذا السياق، مثل “خير” و”أفضل” و”أحسن” وأمثالها. وهكذا نجد في نصوص القرآن والسنة، وفي الأخلاق الخاصة والعامة؛ ما يدل على أن مطلب الإبداع والكمال والإحسان مما يُحرص عليه ويُعمل من أجله في هذه الأمة التي أكمل الله دينها، وأتم عليها نعمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
ومما يلفت الانتباه، أننا عندما نتدارس تراجم العلماء المسلمين النابغين في المشرق والمغرب، تستوقفنا ألفاظ أخرى كثيرة ترمز إلى تطلب هذا المقام؛ ومنها مثلا: «أول من له التبريز في كذا، الإبداع، الإتقان، الاجتهاد، الإخلاص، الاختراع، المهارة، البراعة، الحذق، من أعاجيب الدنيا، لا مثيل له، لم يسبق إلى كذا، النباهة، الذكاء، الفطانة، المؤيد بالله، ذو الباع الطويل، الباقعة، ذو الهمة، العاقل، فريد العصر، نادرة الزمان، الفهّامة، الدرّاكة، لا يشق له غبار، لم يُعرف كذا لغيره، النابغة”.. إلى غير ذلك من العبارات الدالة على تميز المسلمين في الحضارة الإنسانية.
فما المقصود بالتفوق في هذا البحث؟ وماهي أصول صناعة التفوق في الحضارة الإسلامية؟ وكيف رسم الإسلام طريق التفوق ومهد سبيله وحدد معالمه؟
تلك أهم القضايا والإشكالات التي سيناقشها الباحث في هذه الدراسة، وذلك من خلال المحاور الآتية:
أولا: مفاهيم أساسية في البحث:
- مفهوم التفوق
- مفهوم العجز
ج – مفهوم الصناعة
ثانيا: مبادئ الصناعة في الحضارة الإسلامية 1- الاستمداد من الوحي 2- اكتساب الملكة 3- التدرج 4- قيمة كل امرئ ما يحسنه 5- الاهتمام بما ينبني عليه عمل 6- تقديم الأصول على الفروع 7- وضع قانون ذهاب الصنائع.
ثالثا: منهج الحضارة الإسلامية في صناعة التفوق:1- ضرب الأمثال 2- احترام السنن 3- الإيجابية 4- وضوح الهدف 5- التشنيع على من ترك أسباب التفوق مع قدرته على ذلك 6- إعلان الحرب على الكسل 7- الحث على المسارعة والتنافس في الخيرات 8- ترتيب التفوق في الآخرة على التفوق في الدنيا 9- تشجيع المتفوقين واحتضانهم 10- الحث على الأخذ بأسباب التفوق 11- إزاحة عوائق التفوق أو خفضها.
رابعا: خاتمة وتوصيات
يستعمل لفظ “التفوق” للدلالة على السبق والتقدم، تقول: فلان يفوق قومه، أي يعلوهم، ويفوق سطحا: أي يعلوه، وجارية فائقة: فاقت في الجمال، وفاق الرجل صاحبه: علاه وغلبه وفضله، وفاق الرجل أصحابه يفوقهم: أي علاهم بالشرف، والشيء الفائق: الجيد الخالص في نوع[1].
وعليه، يكون المراد بالتفوق في اصطلاح هذا البحث، ليس مجرد النجاح فحسب بل السبق فيه، على نحو ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[2]، وقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[3].
العجز ضد التفوق، ويراد به الضعف والقصور، وأصله التأخر عن الشيء، وحصوله عند عجز الأمر، أي مؤخره، وصار في التعارف اسما للقصور عن فعل الشيء، وهو نقيض القدرة والحزم[4]، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾[5]، وفي الحديث: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس»[6].
تدور معاني الصناعة في المعاجم العربية، حول إخراج الشيء وإجادته وإحسانه، تقول: صَنعه يصنعه صُنعا، فهو مصنوعٌ، وصُنعٌ: عمله، والصنع: إجادة الفعل، ولذلك يقال للحاذق المُجيد: صنَعٌ، وللحاذقة المجيدة صَناع، وامرأة صَناع اليد: أي حاذقة ماهرة بعمل اليدين، وفرس صَنيع: أُحسن القيام عليه، واصطنعه لنفسه، فهو صنيعته: إذا اصطنعه وخرَّجه، والصناعة: حرفة الصانع، والاصطناع: المبالغة في إصلاح الشيء، وقوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾[7]، ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾[8]: إشارة إلى نحو ما قال بعض الحكماء: “إن الله تعالى إذا أحب عبدا تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.”[9]
واعتباري التفوق صناعة، يفيد أنه ضرب من الحرف، له قواعده، وفنونه، ومهاراته، تماما، كمن يشتغل بالحدادة، أو الحياكة، أو النجارة، يلزمه إحكام مبادئها ومهاراتها.
أقول هذا، وفي خلدي أن كثيرا من الناس سيسألون معترضين: كيف تصف التفوق بما ذكرت، وإنما الصناعة مهارة يدوية، وذلك أمر لا تخطئه التجربة.. فلتبحث لهذه العبارة عن نعوت أخرى.. ولهم عذرهم في ذلك، إذ الفطام عن المألوف مأنوف، غير أنني وجدت نصيرا من بعض أهل العلم، يستعملون هذا الوصف في غير المحسوسات؛ فلابن جني كتاب سماه “سر صناعة الإعراب” في النحو واللغة، ولأبي هلال العسكري “كتاب الصناعتين” في الشعر والنثر، وقسَّم ابن خلدون الصناعة- كما سيأتي- إلى ما يختص بالمعاش، وما يختص بالأفكار[10].
قبل عرض الصناعة الإسلامية للتفوق، لا بأس أن أشير إلى أهم مبادئ الصناعة عموما، وهي كالآتي:
1-أصول الصناعات مستمدة من الوحي
وتستوي في ذلك الصناعات البدنية، والصناعات الفكرية، وسبب ذلك قصور علم الإنسان، وكمال علم الله، “والناقص محتاج إلى الكامل، فلا يخلو: إما أن يكون قد أخذ ذلك واحد عن واحد بلا نهاية، وذلك إيجاب ما لا نهاية له، وهو محال، وإما أن ينتهي الى واحد من البشر علمه الله الصناعات، إما بسماع من الملأ الأعلى، أو بإلهام أو منام، وهذا هو الوحي..”[11].
الملكة كما عرفها الشريف الجرجاني هي: “صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية، وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة، وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا”[12].
فالملكة بناء على هذا التعريف، هي صفةٌ راسخةٌ في النفس، واستعدادٌ عقليُّ للقيام بالأَعمالٍ بحذقٍ ومهارة، وحصافة، وحنكة، ونضج، وإبداع، وذكاء، ودقة، وجودة، وإتقان، ومن هنا تحدث الناس عن الملَكة العَدَدِية، والملكة اللغوية، والملكة الموسيقية، والملكة الشعرية، والملكة الطبيعية، والملكة الفنية، وملكة الحفظ، وملكة الخطابة، وغيرها، لذا قال ابن خلدون: “اعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري؛ وبكونه عملياً هو جسماني محسوس(…)، والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته، وعلى نسبة الأصل تكون الملكة، ونقلُ المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم، فالملكة الحاصلة عن الخبر، وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته”[13].
ومعنى هذا أن الملكة حالة مستمرة راسخة في نفس الإنسان، وتنبني على أفعال مكررة إلى أن تتحول إلى عادة وخلق وصناعة، وبقدر الإحسان في التعلم يكون التمكن من الملكات واكتساب الصناعات، كما أنه بقدر النظر في العلوم ومذاكرتها ومدارستها، والمداومة على البحث فيها، يرسخ الحذق فيها ويعلو الكعب في الإحاطة بها.
الصناعة الواحدة بعضها طريق إلى بعض، ويترتب تالي أجزائها عن سابقه ترتبا تكامليا؛ من البساطة إلى التعقيد، ومن الوحدة إلى التركيب، “ولا يزال الفكر يُخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل، ولا يحصل ذلك دفعة، وإنما يحصل في أزمان وأجيال، إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة، لا سيما في الأمور الصناعية، فلا بد له إذن من زمان، و لهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع، خرجت من القوة إلى الفعل “[14].
وهي من الحكم البليغة التي خلدتها كتب الأمثال، وتناقلتها الأجيال عن الإمام علي كرم الله وجهه، والمراد بها: أنَّ قيمةَ المرء ومنزلتَه بأمرين، بهما تستقيم حياةُ الفرد، وبمراعاتهما تسمو الأمَّةُ نحو التفوق النجاح:
أحدهما: أنْ يعمَل الإنسان بجدٍّ وإخلاص، فيما يُحسنه ويُتْقنه من عِلْمٍ وعَملٍ.
والثاني: أن لا يخوضَ ويَعمل ويتكلَّم في غير ما يُحسنه ويُتْقنه.
فقيمةُ كلِّ واحد، فيما يُجيدُه ويُتْقنه من عِلْمٍ وعَملٍ، فإذا أخلَّ بما يُحْسنه، أو عمل بغير ما يجيده، أو خاض في غير مجاله: ذهبت قيمته، ونزلت مكانته، وصار موضعا للذم والتهمة والطعن في مروءته وعرضه.
ويتعلق بهذا، أن قيمة الصناعة ترتبط بمدى مطلوبيتها، وما تجلبه من منافع، وبقدر نفاقها، بقدر إقبال الناس على الاشتغال بها؛ وذلك لأن الإنسان “لا يسمح بعمله أن يقع مجاناً لأنه كسبه ومنه معاشه، إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه، فلا يصرفه إلا فيما له قيمة في مَصره ليعود عليه بالنفع، وإن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه إليها النفاق؛ كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تَنفُق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد الناس في المدينة لتعلُّم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم، وإذا لم تكن الصناعة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجه قصد إلى تعلمها، فاختصت بالترك وفقدت للإهمال، ولهذا يقال عن علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يحسن”، بمعنى أن صناعته هي قيمته؛ أي قيمة عمله الذي هو معاشه”[15].
5ـ حصول الملكة في أكثر من صناعة عزيز
وذلك بأن العمر لا يتسع لتحصيل جميع الصناعات، والموفق من أحاط بصناعته حتى صار من أهل الذكر فيها، ومَن رام الإحاطة بجميع الصناعات ضاع وأضاع؛ “فقلَّ أن تجد صاحب صناعة يُحكمها ثم يُحكم من بعدها أخرى، ويكون فيهما معاً على رتبة واحدة من الإجادة، حتى إن أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة، ومن حصل منهم على ملكة علم من العلوم وأجادها في الغاية، فقلَّ أن يجيد ملكة علم آخر على نسبته، بل يكون مقصراً فيه إن طلبه إلا في الأقل النادر من الأحوال”[16].
وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن العظيم بقوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[17].
تخضع الصنائع في وجودها وانقراضها لحال العمران وأهله؛ قوة وضعفا، ترفا وتخلفا؛ وذلك لأن “الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها، وإذا ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاض عمرانه وقلة ساكنه؛ تناقص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم؛ فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف؛ لأن صاحبها حينئذ لا يصح له بها معاشه فيفر إلى غيرها، أو يموت ولا يكون خلف منه، فيذهب رسم تلك الصنائع جملة”[18].
تلك أهم مبادئ الصناعة كما قررها الأقدمون، أوردتها عن قصد، لجامع ما بين الصناعتين-المادية والفكرية- من مبادئ الاكتساب، وعوامل الذهاب، وقد عرض القرآن لذلك على نحو بديع، من خلال منهج متكامل، يأخذ بعين الاعتبار تنوع مدارك الإنسان، واختلاف نوازعه، بين النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء.
ثالثا: منهج الحضارة الإسلامية في صناعة التفوق
لما كان التفوق ملكة تحتاج إلى تربية ومهارة، فقد اختار التشريع الإسلامي في صناعته مداخل متنوعة، تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الطبائع والنفوس، وتباين القدرات والملكات، ويمكن اختصار أهم عناصر هذا المنهج في النقط الآتية:
من مقاصد ضرب الأمثال: كشف المعاني المستورة، وإظهار الحقائق الخفية، بتصوير المعاني بصورة الأشخاص، وحقيقتُه “إخراج الأغمض إلى الأظهر (…)، والأمثالُ مقادير الأفعال، والمتمثل كالصانع الذي يقدر صناعته، كالخياط يُقَدِّر الثوب على قامة المخيط، ثم يَفريه، ثم يقطع، وكل شيء له قالب ومقدار، وقالب الكلام ومقداره الأمثال “[19].
وقد كان نصيب “المتفوق” و”العاجز” من الأمثال، على قدر أهمية الظاهرة في حياة الإنسان، ومن أوضح ما ورد في ذلك قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[20].
فقد أحضر القرآن المعنيين “الكل” و”الآمر بالعدل” في وعي الناس على سبيل التقابل، ثم نفى الاستواء بينهما بأسلوب الاستفهام الإنكاري، ليترك للعقل الواعي عملية الموازنة، حيث ستكون النتيجة انتـفاء التساوي، ورجحان كفة “الآمر بالعدل”، لأن العاقل لا يرضى أن يكون “كلا” عاجزا، أينما يوجَّه لا يأتي بخير.
وما باقي المتقابلات في القرآن، سوى مظاهر وتمثلات لـ “الكل” و”الآمر بالعدل”:
فـ “المؤمن” متفوق، لأنه وظف مداركه في معرفة الله وعبادته، و”الكافر” كل، لأنه عجز عن فتح قلبه لنور الله.
و”المنتصر” متفوق، لأنه اكتشف سنن الله في صناعة النصر، و”المهزوم” كل، لأنه عطل عقله عن فهم ذلك.
و”الطائع” متفوق، لأنه تغلب على نفسه وشهواته، و”العاصي” كل، لأنه عجز عن هزم الشيطان وحزبه.
وهكذا، يمكن رد كل المتقابلات في القرآن إلى ثنائية “الكل” و”الآمر بالعدل”.
2- احترام السنن
المقصود بالسنن: القانون العام، والطريقة المتبعة في معاملة الله للبشر، من حيث خضوعهم لأحكامها، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة [21]، وتتميز بأمرين:
أ-الثبات والعموم والاطراد، كما ورد في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[22].
ب-التكامل وعدم التعارض.
ومن هنا كان كسب الإنسان وموقعه في الدنيا والآخرة رهينا بعلاقته بسنن الله في الكون، وقد عرض القرآن للموقفين في عدة مواضع، فذكر الذين يؤثرون مائدة من السماء دون تعب، كحال الحواريين مع نبيهم عيسى عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)﴾[23]، وذكر بالمقابل، الذين يحترمون السنن ويسخرونها لصالح أمتهم، كحال ذي القرنين؛ الذي ذكر الله نبأه في قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)﴾[24].
3- الإيجابية
ومن أروع ما يذكر في ذلك، قصة الهدهد مع نبي الله سليمان، إذ تُبين كيف جاء الهدهد من سبأ بنبإ يقين، دون تكليف سابق من قائده، فكانت تلك المبادرة سببا في دخول أمة كاملة في الإسلام، قال تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)﴾[25].
وفي سيرة السلف ما يؤكد هذا المعنى، فقد أشار سلمان الفارسي على رسول الله بحفر الخندق، وأشار الحباب بن المنذر بالتعريش في بدر على الماء، وخطط أبو بصير لحرب عصابات بعيدا عن صلح الحديبية، وفي معركة القادسية: نفرت خيل المسلمين من فيلة الفرس، فعمد رجل إلى صناعة فيل من طين، وأنّس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها، فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين[26].
4- وضوح الهدف
فما أصدق قول من قال:
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف
ومـــــــــا أبالـــــــــي بـه حتــــــى أحــــــــــــاذره فخشية المــــوت عـــندي أبـــــرد الطرف
وقد كان السلف يعرفون أهدافهم وما يريدون، ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي؛ الذي يحكي قصته مع رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).
5- التشنيع على من ترك أسباب التفوق مع قدرته على ذلك
من ذلك حديث القرآن عن رجل بني إسرائيل-بلعم بن باعوراء- الذي أوتي من علم الكتب، واسم الله الأعظم، ما يسمو به إلى منزلة الصديقين الأبرار، ولكنه، بدل الارتقاء بها، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وكان أمره فرطا[27].
قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[28] .
وتلك صورة لحال بني إسرائيل، مذ كانوا، وحتى يبعثون، فقد أوتوا التوراة، وعرفوا ما جاءهم من الحق، لكنهم كفروا، وانسلخوا من الدين كما تنسلخ الحية من جلدها، ولذلك جاء التشنيع عليهم في آيات أخرى كثيرة، منها قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾[29]، وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[30].
فالمؤمن عزيز بدينه، عزيز بانتمائه، لا يرضى لنفسه الهوان وقد كرمه الله ورفع شأنه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، لذلك عاتب الله سبحانه طائفة من أهل الإيمان المتثاقلين عن الجهاد؛ بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[31]. بل جعل الكسل صفة من صفات المنافقين: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾[32]، ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾[33].
ولخطورة الكسل والعجز، كان صلى الله عليه وسلم يكثر من التعوذ منهما، كما في حديث أنس بن مالك، أنه كان يسمعه يكثر من قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضَلَع الدين وغلبة الرجال»[34].
ومن الطريف في هذا الباب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب العطاس ويكره التثاؤب، وهي إشارة لطيفة إلى علاقة البواعث الجسدية للتفوق والكسل، بمقاصدهما المعنوية والفكرية والاجتماعية، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العُطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطَس أحدكم وحمد الله، كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليردَّه ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان»[35].
وذلك لأن العطاس حركة عصبية تحث الخلايا على اليقظة والنشاط[36]، أما التثاؤب فهو مقدمة الاسترخاء والخمول.
ومن هنا كان العطاس نعمة تستحق الحمد من العاطس والتشميت من السامع، بينما التثاؤب أضحوكة الشيطان يَحسن رده قدر الإمكان.
وفي الدعوة إلى رد التثاؤب إعجاز نبوي بديع، إذ لا يزال سرُّ انتقال عدواه إلى جلساء المتثائب لغزا يحير العقول!
7- الحث على المسارعة في الخيرات
من دعائم صناعة التفوق في الحضارة الإسلامية، دعوة الناس إلى التنافس في الخيرات، والمسارعة إليها، وقد بلغت النصوص في ذلك مبلغ التواتر، مما يفيد أن صناعة التفوق ليست أمرا عرضيا في الإسلام، وإنما هي مقصد أصيل من أهم مقاصده، ومن النصوص الدالة على ذلك، قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[37]، وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[38]، وقوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾[39]، وقوله: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾[40].
كما ندب المؤمنين إلى ترديد دعاء عباد الرحمان: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[41].
فلم يقل: “واجعلنا من المتقين”، وإن كانت التقوى درجة محمودة، وعليها مدار الإيمان والعمل، وذلك لأنه أراد تربية المؤمنين على التفوق وعلو الهمة، وطلب الإمامة في الدين، حتى يكونوا على خطى أبيهم إبراهيم عليه السلام، وفي مقام دعائه: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[42].
وقد سمع الله دعاء أبي الأنبياء عليه السلام، فجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم في الخير والصلاح، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[43].
كما كان صلى الله عليه وسلم لا يدع موقفا، إلا نفخ روح التنافس في رُوع صحابته، حتى يستنهض الهمم، ويبدد عوامل الكسل، من ذلك أنه سألهم يوما: «من أصبح منكم اليوم صائما؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟»، قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضا؟»، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»[44].
8- ترتيب التفوق في الآخرة على التفوق في الدنيا
فالجزاء من جنس العمل، ولكل درجات مما عملوا، وفي الحديث: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها »[45].
ولا يزال الرجل يعلو في الجنة، أو يسفل ويتأخر وإن دخلها، بقدر تفوقه أو كسله في الدنيا، قال عليه السلام: «احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لايزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها»[46].
جُبِلت النفوس على حب المدح والثناء، وبغض الذم والهجاء، ولذلك نظر القرآن بعين الإكبار للأعمال الصالحة، ودأب على تقدير أهلها، ونعتهم بأحسن الصفات، حتى تهفو نفوسهم للزيادة، والارتقاء في مدارج الكمال، كما ذم- بالقدر نفسه – العمل السيئ وأهله، حتى يأنف المسيء، ويربأ بنفسه عما يجلب اللائمة والإنكار.
وقد استلهم المسلمون هذا الأسلوب القرآني البديع، فحَرصُوا على مدح المتفوقين، وتشجيع ذوي الهمم العالية، وإعانة الناس على البر والتقوى، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يروي قصته مع أهل بدر بقوله: كان عمر رضي الله عنه يأذن لأهل بدر، ويأذن لي معهم، فقال بعضهم: أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا من هو مثله؟ فقال: فإنه ممن قد علمتم. فأذن لهم يوما وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[47]، فقالوا: أمر الله عز وجل نبيه إذا فتح الله عليه أن يستغفر، وأن يتوب إليه، فقال لي: ما تقول يا ابن عباس؟ فقلت: ليس كذلك، ولكنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بحضور أجله، فقال: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ -فتح مكة، ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ -أي: فعند ذلك علامة موتك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[48]، فقال لهم: كيف تلوموني عليه بعدما ترونه؟
ومن طرائف الإمام أحمد بن حنبل، أنه لما ابتُلِي بفتنة خلق القرآن، كان من أسباب ثباته على الحق أهل المطامير، ولص طرار!
والقصة يرويها ابنه عبد الله، قال: كنت كثيرا أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم … فقلت: يا أبت، من أبو الهيثم؟ فقال: لما أُخرجت للسياط، ومُدَّت يداي للعاقبين، إذا أنا بشاب يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت لا، قال: أنا أبو الهيثم العَيَّار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُرِبت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمان لأجل الدين. قال: فضربت ثمانية عشر سوطا بدل ما ضُرب ثمانية عشر ألفا، وخرج الخادم، فقال: عفا عنه أمير المؤمنين.
وكتب إليه أهل المطامير: إن رجعت عن مقالتك ارتددنا عن الإسلام![49]
وكان من أسرار نبوغ الإمام الشافعي في الفقه، كلمات صدرت من حاجب، ومن بدوي، كما ذكره ابن الجوزي، عن حسين الكرابيسي قال: سمعت الشافعي يقول: كنت امرءا أكتب الشعر، وآتي البوادي فأسمع منهم، وقدمت مكة وخرجت وأنا أتمثَّل بشعر للبيد وأضرب، وحشى قدمي بالسوط فضربني رجل من ورائي من الحجبة، فقال: رجل من قريش، ثم ابن المطلب، رضي من دينه ودنياه أن يكون معلما، ما الشعر؟ الشعر إذا استحكمت فيه قعدت معلما، تفقه يُعلِك الله. قال: فنفعني الله بكلام ذلك الحجبي، ورجعت إلى مكة وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم كنت أجالس مسلم بن خالد الزنجي، ثم قدمت على مالك فكتبت موطأه، فقلت له: يا أبا عبد الله أقرأ عليك؟ فقال يا ابن أخي، تأتي برجل يقرؤه علي وتسمع فقلت: أقرأ عليك، فتسمع إلى كلامي، فقال اِقرأ، فلما سمع قرأت عليه حتى بلغت كتاب السير، قال لي: اطوه يا ابن أخي، تفقه تعلُ[50].
10- الحث على الأخذ بأسباب التفوق
دعا الإسلام إلى احترام السنن الكونية والاجتماعية، باعتبارها قانونا مطردا لا يتغير: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[51]، وذكَّر القرآن في هذا السياق، بأن كل من استجمع أسباب التفوق، نال حظه منه، دون استثناء أو محاباة لدين أو جنس أو نسب، وحين هُزِم المسلمون في غزوة حنين؛ قيل لهم: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾[52].
ولذلك طُلب من المسلمين إعداد القوة اللازمة لإرهاب العدو وإخافته، وعدم الركون إلى صفتهم الدينية أو قربهم من رسول الله، فإن ذلك لا يغني عن الأسباب شيئا، كما لم يغن مَن قبلهم من أهل الكتاب؛ حين قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾، حيث أجابهم سبحانه بقوله: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾[53].
فقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[54].
ولما بَشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: «وعدني ربي أن يَدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي»، قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهم اجعله منهم».
حينئذ سأله رجل آخر، فقطع عليه سبل التواكل؛ بقوله: «سبق بها عكاشة»، حتى يسد باب الاتكال على مجرد الدعاء دون تأكيده بالعمل والاجتهاد، ولو لم يفعل ذلك لقال كل الصحابة بمثل قول عكاشة طمعا في دعوة رسول الله. لكن الله كتب أن كل من سار على الدرب وصل، “فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم، فالمعين قادر، تَعَرَّض لمن أعطاهم، وسل، فمولاك مولاهم، رُبَّ كنز وقع به فقير، ورُب فضل فاز به صغير، عَلِم الخضر ما خفي عن موسى، وكُشف لسليمان ما غطي عن داود”[55].
11- إزاحة عوائق التفوق، أو خفضها
أكثر ما يوقف الناس عن تحقيق النجاح، ما يجدونه في الواقع من عقبات، وما يتصورونه من أوهام، وقد اعتبر القرآن ذلك صناعة شيطانية، يخوف بها ضعيفي الإيمان ومرضى القلوب، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[56]، وقال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[57].
ولذلك عرض القرآن قصة موسى مع بني إسرائيل، حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة-التي كتب الله لهم- فكانت منهم فئتان: إحداهما، وهي الكثرة الكاثرة، اعتذرت عن ذلك بدعوى استحالة مواجهة “قوم جبارين”، والأخرى، وهي الفئة القليلة، تجاوزت عقدة الخوف، واختارت- مستعينة بالله- الدخول على العدو، والحمل عليه في عقر داره، فكان ما كان مما قصه القرآن في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[58].
لذا قال ابن الجوزي رحمه الله: “من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء”[59].
خـــــــاتمة وتوصيات:
لم تعد مسألة “التفوق” في الحضارة الإسلامية مجرد توصيات تتردد في ثنايا النصوص، بل أضحت صناعة لها مبادئها ومنهجها، ومَنْ تتبع موارد هذا المعنى في القرآن والسنة وتصرفات السلف، حصل لديه يقين بريادة الإسلام في هذا المجال.
وقد يكون هذا أحد المعاني المركزية للتفقه والإنذار؛ الواردين في آية النفير العلمي: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[60].
غير أن مقصد “الحذر” في الآية، لا يتأتى بفقه العبادات والمعاملات فحسب، إذ لا يحقق ذلك سوى “مقام الاقتصاد”، وهو الحد الأدنى المطلوب في الفرد والأمة، وإنما يتأتى ببلوغ مقام “السابق بالخيرات” أي “إمامة الفرد” لتحقيق فرض الكفاية، “وإمامة الأمة” لتحقيق الخيرية والشهادة.
وفي هذا السياق، يمكن رفع التوصيات الآتية:
1- إدراج نماذج المتفوقين في الحضارة الإسلامية في المناهج الدراسية.
2- احتضان المتفوقين في مختلف المجالات، وتشجيعهم ماديا ومعنويا.
3- إبراز النماذج الحقيقية للتفوق بدل النماذج الوهمية، في الإعلام، والسينما، ووسائل التواصل الاجتماعي.
4- إعادة النظر في معايير اختيار المتفوقين من التلاميذ والباحثين والعلماء جهويا ووطنيا ودوليا، بحيث لا يُبرز القائمون على هذه التكريمات والجوائز سوى أصحاب التخصصات العلمية، على حساب المتفوقين في العلوم الدينية والإنسانية.
5- تشجيع الطلبة الباحثين على جمع ودراسة قواعد التفوق ومناهجه وأساليبه ومجالاته ومقوماته ورجالاته في القرآن والسنة وكتب التراث الإسلامي.
[1]– ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر،2005م،11/240، والراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، دمشق: دار القلم، 1997م، ص 648-649.
[2]– التوبة:101.
[3]– الحديد: 10
[4]– ابن منظور، لسان العرب، مرجع سابق،10/ 42، والراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مرجع سابق، ص 547.
[5]– المائدة: 33
[6]– رواه مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، ح: 6786.
[7]– طه: 39.
[8]– طه: 39.
[9]– ابن منظور، لسان العرب، مرجع سابق، 8/291، والراغب، المفردات، مرجع سابق، ص493.
[10]– ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت: دار الفكر، 1988م، ص 502.
[11]– الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، القاهرة: دار السلام،2007 م، ص272.
[12]– معجم التعريفات، لعلي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، تحقيق محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، القاهرة، د.ت، ص193.
[13]– مقدمة ابن خلدون، ص501.
[14]– مقدمة ابن خلدون، ص501-502.
[15]– مقدمة ابن خلدون، ص505.
[16]– مقدمة ابن خلدون، ص508.
[17]– التوبة:122.
[18]– مقدمة ابن خلدون، ص506
[19]– الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، بيروت: دار الفكر،2001م،1/330.
[20]– النحل:76.
[21]– انظر عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1993م، ص13-14.
[22]– فاطر:43-44.
[23]– المائدة:112-113.
[24]– التوبة:83-85.
[25]– النمل:20-24.
[26]– تفسير القرطبي، 2/324.
[27]– ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء، تفسير القرآن العظيم، القاهرة: مكتبة الصفا،3/298.
[28]– الأعراف:175- 176.
[29]– البقرة:61.
[30]– الجمعة:5.
[31]– التوبة:38.
[32]– التوبة:54.
[33]– التوبة:93.
[34]– رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل،ح:6369.
[35]– رواه البخاري، كتاب الأدب، باب إذا تثاءب فليضع يده على فيه، ح:6226.
[36]– ذكر بعض أهل العلم أن سرعة خروج الجراثيم من الأنف أثناء العطاس، قد تصل إلى 150 كلم في الثانية. فسبحان الخالق الحكيم!
[37]– البقرة:148.
[38]– آل عمران:133.
[39]– المطففين:26.
[40]– آل عمران:114.
[41]– الفرقان:74.
[42]– البقرة:123.
[43]– الأنبياء:72.
[44]– رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ح: 6202.
[45]– رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصححه الألباني.
[46]– رواه أحمد وأبو داود، والحاكم، وحسنه الألباني.
[47]– النصر:1-2.
[48]– النصر:3.
[49]– ابن الجوزي، صفة الصفوة، تحقيق الشيخ خالد طرطوسي، بيروت: دار الكتب العلمية، 2012م، ص 436.
[50]– المصدر السابق، ص391.
[51]– فاطر:34-44.
[52]– آل عمران:165.
[53]– المائدة:18.
[54]– الأنفال:60.
[55]– ابن الجوزي، المدهش، بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت، ص428.
[56]– آل عمران: 175.
[57]– آل عمران:173.
[58]– المائدة:20-24.
[59]– ابن الجوزي، صيد الخاطر، ط/ 2003 م، دار ابن حزم، بيروت، ص 10.
[60]– التوبة:123.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *