مؤسسات التمويل الأصغر
بين الدور الاجتماعي والهاجس الربحي
عبد المنعم الانصاري
أمام ضغط الأزمات والانعكاسات الاقتصادية من جهة، والضغط الديموغرافي الرهيب من جهة أخرى، فقد ولدت كل هذه التحولات اختلالات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وفرضت تحديات جديدة خاصة بالنسبة للمجتمعات النامية التي تعاني شعوبها بطالة قياسية تزيد من حدة تأَزم وضعيتها الاجتماعية في ظل بطء وتيرة النمو وشح مصادر الإيرادات.
ولغرض كسب هذه التحديات سعت مختلف دول العالم الثالث التي تعاني من مشاكل اقتصادية إلى تبني مجموعة من الإجراءات والآليات التي تمكنها من التموقع في المكان الصحيح من حركة التنمية، من خلال تبني بعض الآليات التي كانت تعول عليها في استثمار الطاقات الكامنة، غير أن هذا الوضع لم يتحسن كثيرا، وهذه السياسات لم تصمد طويلا أمام عواصف الأزمات المالية الاقتصادية التي مست سوق الشغل وعملت على زعزعته وقلب توازنه، والنتيجة الأبرز والأخطر كانت على المستوى الاجتماعي، حيث أن البطالة مازالت في ارتفاع يصعب التحكم فيه.
من هنا يبرز دور دعم الأنشطة الاقتصادية لما لها من دور إيجابي في محاربة الفقر والبطالة، وتوفير فرص العمل بما يسهم في إنشاء أو زيادة دخل الفئات الفقيرة والهشة، مما يساهم في تحقيق التنمية الشاملة والمستديمة، ليس فقط في الدول النامية أو الآخذة في النمو فحسب، ولكن أيضا في الدول المتقدمة على حد سواء.
ومن ضمن النماذج المبتكرة لمواجهة ظاهرة الفقر والحد من البطالة ودعم الأنشطة الاقتصادية الشبابية فكرة بنك الفقراء، والذى أسسه البروفسير محمد يونس بنجلادش سنة 1983م، تحت اسم جرامين بنك Grameen Bank، وتعنى بالبنغالية بنك القرية، ليكون بذلك أول بنك في العالم يقوم بتوفير رؤوس الأموال للفقراء في صورة قروض بدون أية ضمانات مالية، ليقوموا بتأسيس مشاريعهم الخاصة المدرة للدخل[1].
ولقد عرفت هذه التجربة انتشارا سريعا في العديد من بلدان العالم الثالث[2]، وتطورت في شكل جمعيات ومؤسسات عرفت بمؤسسات التمويل الاصغر، تقدم خدمات مالية مثل التوفير، الإقراض، التامين وتحويل الأموال. كما أبانت هذه الخدمات في مواقع عديدة عن مساهمتها في إدماج الشباب مجتمعيا ومهنيا، عبر دعم مشاريعه وأنشطته السوسيو-اقتصادية.
إن مؤسسات التمويل الأصغر هي في الأصل مؤسسات غير هادفة للربح أساسها العمل الاجتماعي والتنموي، ولكنها في سبيل توسيع قاعدة حصولها على الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة الاقتصادية للشباب، وتحقيق استدامة واستقلال مالي، والتوسع، وندرة الحصول على المنح والهبات، فهي مجبره على تحقيق أرباح من الفوائد التي تفرضها على عملائها، وهنا تكمن الصعوبة في كيفية الموائمة بين الأداء الاجتماعي باعتبار العديد منها تعمل في إطار جمعيات تنتمي إلى النسيج الجمعوي، وبين الأداء المالي للمؤسسة عبر تحديد نسب فوائد معقولة لا ترهق كاهل الشباب.
الدور الاجتماعي لمؤسسات التمويل الأصغر
عرف التوجه نحو المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر تناميا بفعل أهميتها ودورها من جهة في استهداف الفقراء وتوسيع الفرص أمام الشرائح الأكثر حاجة للتمويل لاسيما فقراء المناطق الريفي، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر وآثاره في مجتمعات ظلت تعاني من هذه المشكلة، ومن جهة أخرى اعتبارها وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية مـن خـلال الإدمـاج المـالي للسـاكنة المسـتبعدة مـن النظـام المـالي التقليـدي.
ولتمويل هذه المشروعات الصغيرة، عرف التمويل الأصغر ” Micro Finance” كتمويل يسعى إلى تقديم وتوفير الخدمات المالية للفقراء القادرين على بلورة وتنظيم مشروعات مدرة للدخل.
ويعرف التمويل الأصغر بأنه التسليف والادخار وتقديم الخدمات المالية الأخرى مثل التحويلات، التأمين، قروض الاستهلاك، قروض الزواج، المساعدات الفنية، بطاقات الائتمان، خدمات الدفع ..
كما يعرف على أنه مجموعة الخدمات المقترحة أو المقدمة للأفراد الذين ليس لهم القدرة على الحصول على تلك الخدمات من المؤسسات المالية التقليدية.
وما يُلاحظ على برامج التمويل الأصغر أنها تركز على عنصرين أساسيين هما:
- ضرورة تقديم مجموعة متنوعة من الخدمات المالية وليس خدمات الإقراض فقط.
- تقديم تلك الخدمات المالية المتنوعة إلى شريحة الفقراء القادرين على بلورة المشروعات المدرة للدخل.
بالنسبة لمؤسسة التمويل الأصغر فهي مؤسسة رسمية عملها الرئيسي هو تقديم خدمات مالية للفقراء. وتشمل مجموعة المؤسسات التي تقدم خدمة واحدة أو أكثر من خدمات التمويل الأصغر طائفة واسعة من المنظمات غير الحكومية، وشركات التمويل التجاري يشار إليها أحيانا باسم الشركات المالية غير المصرفية، والتعاونيات المالية بمختلف أنواعها، وبنوك الادخار، والبنوك الريفية، والبنوك الزراعية والإنمائية والبريدية المملوكة للدولة، والبنوك التجارية، وطائفة واسعة من صناديق الإقراض التي تساندها الدولة[3].
ويعتبر إعلان هيئة الأمم المتحدة سنة 2005 السنة الدولية للتمويل الأصغر بمثابة الاعتراف الدولي بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه برامج التمويل الأصغر المنفذة من قبل الجهات المؤسساتية المختلفة، سواءً من حيث أهمية الخدمات المالية المتاحة للجميع في إطار بناء أنظمة مالية مفتوحة للجميع، أو من حيث أهمية المشروعات الصغيرة والبالغة الصغر المحدثة في ظل هذه البرامج ودورها في توفير فرض العمل ورفع مستويات المعيشة في إطار التنمية المستدامة المتكاملة.
وقد تم إثبات أن القروض متناهية الصغر تعتبر أداة فعالة لمواجهة الفقر. فهي تساعد أولئك غير القادرين على دخول النظام المالي الرسمي على اقتراض مبالغ صغيرة من الأموال يحتاجونها لبدء أو لتطوير أعمالهم الصغيرة.
إن التمويل متناهي الصغر يعتبر أداة تطوير اقتصادي فعالة، صفتها الرئيسية أنها تجمع بين الأعمال المصرفية والأهداف الاجتماعية. وأن الصورة التقليدية لهذا القطاع كانت، ولأسباب تاريخية تحديدا، اقرب إلى المساعدة منها إلى النشاط التجاري: فكثيرا من مؤسسات التمويل متناهي الصغر كانت مؤسسات غير ربحية منفصلة عن النظام المالي الأوسع. فانه في التسعينات فقط، عندما بدأ المجتمع الدولي يرى أهمية التركيز على المؤسسة واستمراريتها، بدأ هذا الوضع بالتغير. وعندها بدأ الجدل بين الأسلوب المؤسسي والأسلوب الاجتماعي يزداد أهمية[4].
وفي إطار الأسلوب الاجتماعي، يحتاج الفقراء إلى مجموعة متنوعة من الخدمات المالية وليس القروض فقط. فهم مثل غيرهم يحتاجون إلى عدد من الخدمات المالية الملائمة، والمرنة وذات التكلفة المعقولة. فإنهم يحتاجون إلى خدمات التوفير، التامين وتحويل الأموال وليس فقط إلى القروض وذلك وفقا للظروف، وبذلك ينتقلون من هاجس تحقيق القوت اليومي إلى التخطيط المستقبلي لتلبية أفضل للحاجيات من التغذية، والسكن، والصحة، والتعليم.
ولتقوية الدور الاجتماعي لمؤسسات التمويل الأصغر، على الحكومات الوطنية أن تضع السياسات التي تحفز خدمات التمويل الأصغر للفقراء، في الوقت نفسه الذي تحمي فيه الحكومات هذه المؤسسات من الإفلاس.
أما على المستوى المؤسساتي، فيجب على الحكومات أن تحافظ على التوازن المالي لهذه المؤسسات المالية، وأن تتجنب الارتفاع في أسعار الفوائد، وان تمتنع عن الإخلال بالأسواق عن طريق القروض المدعومة غير القابلة للوفاء أو البقاء.
كما يجب أن تقلل الحكومات من الفساد وتحسن بيئة الأعمال الصغيرة بما في ذلك تسهيل الوصول إلى الأسواق والبنى التحتية. وفي بعض الأحيان، عندما لا تتوفر مصادر التمويل الأخرى، يمكن أن يتم تقديم التمويل الحكومي لمؤسسات التمويل متناهي الصغر المستقلة والقوية.
هذا ومن الضروري لمؤسسات التمويل الأصغر أن تعمل على التوفيق بين أداء مهمتها الاجتماعية علي الوجه التام وتطبيق مبادئها الاقتصادية، من خلال تقديم خدمات مالية وغير مالية تفتل في تنفيذ أهداف الحماية الاجتماعية للفئات الفقيرة، كما تسعى إلى تحقيق بلورة أنشطة توافق أهداف التنمية الاقتصادية.
الهاجس الربحي والتداعيات السلبية لمؤسسات التمويل الأصغر
يقتضي المنطق التجاري المالي أن يقصى الفقراء من الحصول على القروض البنكية لانعدام الضمانات المالية اللازمة، ولدجمهم بالسوق البنكية يتطلب الأمر تطبيق معدلات فائدة جد عالية لتعويض انخفاض المبالغ المقترضة وضمان متوسط الربح، لذلك يعد فرض معدلات فائدة فاحشة شرط أساسي لتدخل المؤسسات المالية بسوق السلفات الصغرية.
كما يذكر بعض الاقتصاديين أن القروض في إطار التمويل الأصغر تورط المستهلك في خدمة الدين، مما يؤثر على الاستهلاك، وبالتالي على الطلب الداخلي، مشيرا إلى أن الواقع ما زال يؤكد وجود حالات متضررة، وأن نسبة من المستفيدين يعلنون الإفلاس[5].
لذلك هناك من يرى أن التمويل الاصغر أداة لتكريس التفاوتات الاجتماعية وإغناء الرأسمال الكبير المالك للرأسمال المالي. فبواسطة هذا الرأسمال المالي المستثمر في التمويل الأصغر تستطيع الأقلية الغنية زيادة ثروتها عرب ترحيل أموال الفقراء إلى حساباتها الخاصة[6].
ويعزز هذا الطرح تعارض منطق الربح الذي تشتغل وفقه مؤسسات التمويل الأصغر مع منطق محاربة الفقر الذي قام عليه إنشاء هذه المؤسسات، حيث إن تطبيق معدلات فائدة فاحشة الذي يشكل ثمنا باهضا لربط ملايين الفقراء بالأسواق المالية وبالبنوك تحديدا لا يؤدي في كل البلدان سوى إلى تكريس الفقر.
وتسعى كثير من مؤسسات التمويل الأصغر إلى استغلال حاجة المدين الماسة للمال من أجل فرض معدلات فائدة مرتفعة، خاصة في ظل وضع صحي أو اجتماعي صعب يجعل من المدين قبول قروض ولو بشروط مجحفة حين عملية التعاقد مع مؤسسات التمويل الأصغر.
كما تستغل العديد من مؤسسات التمويل الأصغر ضعف إدراك المدين أو نقص تجربته، حيث يعمد الزبون إلى المصادقة على عقود نمطية مكتوبة بالفرنسية، أو في الغالب تتعذر قراءتها بيسر، لأنها مكتوبة بخط صغير خضع لنسخ رديء متوالي، بحيث يصعب التعرف أحيانا على الشروط والالتزامات التي تتضمنها. وهو ما يمكن اعتبار أن العقود التي يتعذر التعرف بوضوح على الشروط والالتزامات التي تنص عليها هو نوع من التحايل أو الكتمان الذي تلجأ إليه مؤسسات التمويل الأصغر لممارسة التدليس.
إن نظام التمويل الأصغر يدعي القضاء على الفقر بتقديم مبالغ مالية بشكل لا يستهدف الربح، لكن الواقع يؤكد هيمنة منطق الربح الذي تسعى إليه مؤسسات التمويل الأصغر، من خلال الرفع من نسب الفائدة، الأمر الذي يستدعي بدائل أخرى من قبيل اعتماد تمويلات تشاركية صغرى، وتشجيع القطاع التضامني والتعاوني ودعم عقود المضاربة المبنية على الإنتاج لا الإقراض، بالإضافة إلى إنشاء نظام اقتراض عمومي بدون فائدة يوجه للفقراء يكون الهدف منه مساعدتهم على بلورة مشاريع معاشية.
[1] ولـقـد أدى ظهور هذا البنك إلى دحض الاعتقاد السائد في أوساط المصارف القائل بأنه ” لا يمكن إقراض الفقراء لأنهم لن يسددوا “.
[2] هناك أكثر من 205 مليون شخص في العالم ممّن تشملهم حاليا القروض الصغرى (الكتاب الأبيض للقروض الصغرى بالمغرب)
[3] دليل التنظيم والإشراف للتمويل الأصغر، المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء/البنك الدولي.2012، ص:6.
[4] ماركو إليا، التمويل المتناهي الصغر، نصوص وحالات دراسية، ترجمة فادي قطان، جامعة طورينو، إيطاليا، 2006 ص:15
[5] نوفل الناصري، موقع الجزيرة نت بتاريخ 15/11/2018
[6] تقرير جمعية أطاك، القروض الصغرى فقراء يمولون أغنياء”، https://attacmaroc.org/
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *