728 x 90

مفاهيم لسانية: اللغة، الخطاب، النص، د: عبدالله شكربة

مفاهيم لسانية: اللغة، الخطاب، النص

تقديم:

يتناول هذا المقال ثلاثة مفاهيم أساسية هي : اللغة، والخطاب، والنص. وقد حرصنا على اتباع منهجية واضحة في تقديم هذه المفاهيم، منهجية تقوم على تقديم كل مفهوم على حدة سواء في الدراسات العربية أو الغربية.

شغلت اللغة حيزا مكانيا وزمانيا ومجاليا علميا منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خاصة مع صدور كتاب اللغوي السويسري فريناند دي سوسير الموسوم ب”محاضرات في اللسانيات العامة ” الذي شكل حدثا لغويا كبيرا من خلال طرحه لمجموعة من القضايا المرتبطة باللغة وعلاقاتها مع مفاهيم مختلفة كالفكر.

وإذا كان مفهوم النص قد وجدت له آثار قديمة في الدراسات العربية ذلك أنه ارتبط بالنص الشرعي ” القران والسنة” ، فإن مفهوم الخطاب قد ظهر حديثا بتصور مخالفة لدلالة المفهوم في الثقافة العربية التي ربطته بالكلام، غير أن المفهوم ما لبث أن تطور مع علماء التفسير وعلم الأصول، و الفرق الكلامية كالأشاعرة والمعتزلة.

نركز في مقالنا هذا على العلاقة القائمة بين مفهوم النص والخطاب، هل هي علاقة ترادفية، أم استقلالية، أم هي توزيع للأدوار بين النص والخطاب، حيث يقترن هذا الأخير بالكلام الشفهي بينما النص يرتبط بالمكتوب.

إننا في هذه المحاولة البسيطة التي نسعى من خلالها الى دراسة هذه المفاهيم، دراسة عامة تستنبط الأهم والمفيد في تقديم هذه المفاهيم، دراسة تعطي لمحة مختصرة ومفيدة عن هذه المفاهيم الغنية والجدلية.

 

1 :  اللغة

 تحمل اللغة معاني كثيرة، كالقول الباطل واللسن والنطق، جاء في لسان العرب” ولغا في القول يلغو ولغي بالكسر، يلغى ملغاة أخطأ وقال باطلا (…) واللغة اللسن وحدها أنها أصوات يعبر بها كل أقوام عن أغراضهم (…) و اللغوا النطق يقال هذه اللغة التي يلغون بها أي ينطقون بها”[1].

ووردت أيضا في القران الكريم بمعاني كثيرة مثل الكلام الزائف الذي لا فائدة فيه كقوله تعالى في سورة الفرقان الاية 72 ” والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما  وعدم العقاب في الحلف بعد الكفارة” لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ[3]، كما وردت اللفظة ومشتقاتها في الحديث الشريف والشعر الجاهلي بنفس المعاني.

أما لسانيا فقد اهتم بتحديد تعريفها مجموعة من الدارسين، كرومان جاكبسون الذي يقول:     ” اللغة هي التنظيم الأساسي لإقامة الاتصال… وعندما نتحدث عن اللغة كأداة اتصال يجب أن نتذكر أن علينا أن نضيف إلى مهمتها الأولى – التي هي الاتصال بين الأفراد متخطية المسافات- مهمة لا تقل أهمية عن الأولى يمكن تسميتها الاتصال الداخلي(Intraprsonnelle)[4].

وعلى منوال جاكبسون اعتبر أندري مارتيني ” اللغة الإنسانية الطبيعية هي أداة اتصال ، بواسطتها تحلل التجربة الإنسانية إلى وحدات ذات مضمون معنوي وتعبير صوتي تسمى مونام(Monéme) (ويكون لكل مجموعة بشرية تحليل مختلف عما تقره المجموعات الأخرى).هذا التعبير الصوتي يتجزأ بدوره إلى وحدات مميزة ومتعاقبة لا نهاية لها تسمى فونام. وتختلف نتائج العلائق في ما بينها باختلاف اللغات أيضا”[5].

أما اللغوي فرديناند دي سوسير فقد ميز بين اللغة واللسان والكلام؛ فاللغة هي تلك الملكة الفطرية التي يمتلكها كل إنسان؛ إنها قدرات فطرية خلقت معنا تمنحنا القدرة على تعلم وتشكيل اللغة، بينما اللسان قدرات لغوية مكتسبة وخاصة بمجتمع ما، أما الكلام فهو ذلك التجسيد الفيزيائي للغة من خلال جهازنا النطقي، يقول عن هذا الأمر” ويمكن الاعتراض على مبدأ التصنيف هذا بأن ممارسة اللغة تقوم على ملكة فطرية وهبتها لنا الطبيعة، بينما اللسان حاصلا عن طريق الاكتساب والتواطؤ، فيكون اللسان بذلك لغريزة طبيعية”[6].

1 .2  اللغة والفكر:

في هذه الفقرة نركز على علاقة اللغة بالفكر، ونستقصي آراء اللسانيين وغيرهم حول هذه العلاقة وطبيعتها، ومن ثمة نتساءل هل اللغة مجرد وعاء للفكر؟ هل تسبق الفكر؟ أم  أن الفكر سابق على اللغة؟ وهل العلاقة بينهما هي علاقة تلازم؟ أم علاقة تبعية؟ أم هما وجهان لعملة واحدة؟.

يرى ميرلوبونتي “أن هناك ارتباطا جدليا بين اللغة والفكر، ولا يمكن اعتبارهما في أي حال من الأحوال موضوعين منفصلين،لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا”[7].

بينما جوليا كرستيفا اعتبرت اللغة “هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود”[8]. وعليه فإن جوليا تجعل العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تبعية، حيث لا يظهر الفكر ويخرج إلى الوجود إلا عبر اللغة، فهي وسيلته الوحيدة. بل هناك من يساوي بين اللغة والفكر كآرثر كيستلر الذي يقول” إن التفكير ليس سوى الحركات اللاشعورية للأحبال الصوتية. وإنه نوع من الهمس غير المسموع الذي يدور بين المرء ونفسه”[9].

وإذا كانت جوليا كرستيفا تعتبر اللغة خادمة للفكر عبر إظهاره للوجود والتعبير عنه، ففرناندو دو سوسير  يعتبر العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تكامل وترابط، إذ شبه علاقة اللغة بالفكر بالورقة وظهرها، يقول ” إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه من دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة فصل الصوت عن الفكر أو فصل الفكر عن الصوت”[10].

ويرى فيكوتشكي أن العلاقة بين اللغة والفكر غير ثابتة، تخضع للتغيرات التي يفرضه  عليها التطور الإنساني يقول في هذا الصدد” إن أعظم وأهم حقيقة كشفت عنها الدراسة التكوينية المتعلقة بالفكر واللغة هي أن العلاقة بينهما يطرأ عليها كثير من التغيرات. إلا أن تقدم الفكر وتطور الكلام ليس متوازيين،لأن منحنى نموهما قد يتقاطعان، وقد يرتدان عن التقاطع، ثم إنهما قد يستقيمان وقد يسير أحدهما بجانب الآخر، ويحدث لهما أن يندمجا مدة من الزمان.”[11]

وعلى كل حال فالعلاقة بين اللغة والفكر علاقة جدلية، لكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن اللغة والفكر متلازمان، فحيث كانت اللغة كان الفكر، ولابد للفكر من اللغة.

لم يكتف الباحثون فقط بدراسة وإثبات الصلة القائمة بين اللغة والفكر، بل ناقشوا أيضا رتبة اللغة والفكر. هل اللغة سابقة للفكر؟ أم الفكر ينتج قبل  اللغة وهي مجرد تعبير عنه؟

يرى سيد جمعة يوسف في هذا السياق أن الباحثين في هذا الأمر اختلفوا، وبناء على هذا الاختلاف ظهرت ثلاثة اتجاهات فرعية هي :

  • يرى أصحاب الاتجاه الأول” تغليب جانب التفكير في تأثيره على اللغة. من أبرز رواد  هذا الاتجاه حسب سيد جمعة برونو(brunot) الذي يرى أن التفكير سابق على اللغة التي ينحصر دورها في التعبير عنه بالذات، حيث يناسب كل حدث فكري حدثا لغويا”[12]. ومعنى هذا أن طريقة تفكير الإنسان تحدد أسلوب لغته، فطريقة تفكير مجتمع ما تحدد أسلوب تراكيبه اللغوية، وهذا ما أشار إليه كورزبسكي(korzybsky) ويستدل على رأيه هذا بالمقارنة بين التفكير عند العرب والفرنسيين وطريقة التفكير عند الانجليزيين، حيث يغلب على تفكير العرب والفرنسيين “الطابع الاستدلالي”(déductive) لذلك تتبع الصفة الموصوف في لغتيهما، بينما التفكير عند الانجليز تفكير استقرائي (inductive) فتأتي الصفة قبل الموصوف”[13].

 

  • أما أصحاب الاتجاه الثاني فعلى نقيض الاتجاه الأول يرون أن اللغة أكثر تأثيرا في التفكير، بل هي المشكلة للأفكار. ودليل ذلك ما توصل إليه وورف (Whorf) من خلال عمله في شركة تأمين الحريق، حيث تبين له أن الكلمات هي العلة في اشتعال الحرائق، فعندما يقرأ الناس كلمة فارغ يظنون أن صهاريج البترول فارغة من كل شيء حتى الأبخرة، لذلك يلقون بسجائرهم.

خلص أصحاب هذا الاتجاه إلى “أن اللغة هي التي تجعل مجتمعا ما يتصرف ويفكر بالطريقة التي يتصرف ويفكر بها. وأن المجتمع لا يرى العالم إلا من خلال لغته”[14].

  • أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه جمع بين رأي الاتجاه الأول ورأي الاتجاه الثاني، وهو بهذا اتجاه توفيقي، حيث يرى أن العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة متبادلة، فكل منهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه” فنحن لا نستطيع أن نتكلم بما لا نقدر أن نفكر فيه، ولا نستطيع أن نفكر بعيدا عن قدرتنا اللغوية”[15].

2 . الخطاب:

يعتبر مفهوم الخطاب(discour) من المفاهيم التي لها امتدادات وتداخلات مع مختلف العلوم اللغوية والأدبية، كالشعرية والنقد الأدبي والأسلوبية واللسانيات، كما أنه من المفاهيم التي تمت دراستها وتتبعها عبر تطوره التاريخي، خاصة في التراث العربي، الذي عرف المفهوم تطورا مع مرور الزمن، حيث ارتبط المفهوم بعلم الأصول والتفسير أولا، ثم حمل دلالات فلسفية مع ظهور الفرق الكلامية كالأشاعرة والمعتزلة ثانيا.

في هذه الفقرة سنهتم بمفهوم الخطاب، ونتتبعه في الدراسات العربية الحديثة والقديمة، ثم نتحدث عن المفهوم في الدراسات الغربية.

أ .الخطاب في الدراسات العربية:

يرتبط الخطاب في المعاجم العربية ارتباطا وثيقا بالكلام “فالخطاب  والمخاطبة مراجعة الكلام وقد خاطبه بالكلام مخاطبة و خطابا وهما يتخاطبان ، والخطبة مصدر الخطيب ، وخطب الخاطب على المنبر ، واختطب يخطب خطابة ، واسم الكلام الخطبة […] وذهب أبو إسحاق إلى أن الخطبة عند العرب الكلام المنثور المسجع ، ونحوه ، وفي التهذيب : الخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر”[16].

وفي القران الكريم ورد المصطلح بصيغتين، الأولى فعلية والثانية مصدرية، يقول تعالى “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما[17]” وفي سورة هود” ولا تخاطبني في الذين ظلموا”[18].  وفي آية أخرى ” ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون” (المؤمنون 27).

أما الصيغة المصدرية فقد وردت أيضا في ثلاث آيات يقول تعالى “فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب[19]   وفي الآية 20 من نفس السورة نجد “وشددنا ملكه واتيناه الحكمة وفصل الخطاب” وفي سورة النبأ الآية 37 قال تعالى” رب السموات والأرض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا”.

تتفق معظم التفاسير التي تعرضت لمصطلح الخطاب سواء بصيغته الفعلية أو المصدرية في ربطها  مصطلح الخطاب بالكلام، يقول الزمخشري في تفسيره “فصل الخطاب” ” فمعنى فصل الخطاب : البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه(…) والفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والصواب والخاطئ”[20]. فالزمخشري هنا يربط الخطاب بالكلام، وهو بهذا لا يبتعد عن المعنى اللغوي كما سبق ذكره مع ابن منظور، كما أن الخطاب عنده يقتضي بالضرورة وجود مخاطب ومخاطب، وخطاب، وهذا الخطاب ينبغي أن يكون واضحا حتى يتبينه المخاطب ويستوعبه، بشكل جلي لا لبس فيه.

إن الخطاب بهذا المعنى يشترك ويتقاطع مع العملية التواصلية التي تقتضي مرسلا ومرسلا إليه ورسالة، بالإضافة إلى العناصر الثلاثة الأخرى المكونة لعناصر العملية التواصلية.

و لا يختلف ابن عربي في تعريفه “فصل الخطاب” إلا بربطه بأحكام الشريعة، حيث يقول: “وفصل الخطاب الفصاحة المبينة للأحكام، أي الحكمة العملية والنظرية والشريعة، وفصل الخطاب هو المفصول المبين من الكلام المتعلق بالأحكام”[21].

يتبين أن مفهوم الخطاب في المعاجم اللغوية وعلم التفسير لا يختلفان بل يتفقان في ربطهما مفهوم الخطاب بالكلام.

وعموما فقد عرف مفهوم الخطاب تطورا نسبيا مع مرور الزمن، ودخول الفرق الكلامية و علماء المنطق وغيرهم على الخط، فالإمام الغزالي تجاوز الخطاب باعتباره الكلام المبين، واشترط في السامع(المتلقي) شروطا لابد منها وهي” بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور: بالمتكلم، وبأن ما سمعه من كلامه، وبمراده من كلامه، فهذه ثلاثة أمور لابد وأن تكون معلومة”[22].

وفي ما يخص الدراسات العربية الحديثة فقد عرف مفهوم الخطاب وضعا خاصا، يلخص هذا الوضع قولة عبدالله إبراهيم حيث قال” وهنا بدأت فيما يخص هذا المفهوم (الخطاب) تداخل الأنساق الثقافية الحاملة له، بما يحول ذلك التداخل إلى نوع من الإقصاء والاستبعاد للشبكة الدلالية الأصلية التي كانت تمثل مفهوم المصطلح، واستبدلت بشبكة دلالية تنتمي إلى نسق ثقافي مختلف، وجرى ترحيل أو استبعاد للمحتوى الذي نشأ في تضاعيف ثقافة لها شرطها التاريخي، وحل محله محتوى آخر له خصائصه الدلالية التي تكونت في ظرف ثقافي آخر”[23].

إن الإشارة التي تحدث عنها عبدالله إبراهيم بخصوص مفهوم الخطاب تتمثل في استخلاص الدارسين العرب ماهية المفهوم من الثقافة الغربية، عبر الترجمة والمثاقفة، ويبدو من خلال التعريف أن الرجل يرفض هذا الوضع، فترحيل السياق الذي نشأ فيه المفهوم يعتبره إقصاء واستبعادا له، ثم إن النسق الثقافي الذي نشأ فيه الخطاب في الغرب له خصائصه الدلالية المختلفة تماما عن نسقنا الثقافي.

وعلى هذا الأساس نجد مفهوم الخطاب في الدراسات العربية الحديثة يتأثر عبر الترجمة  والمثاقفة بالدراسات الغربية، حيث لا نجد فرقا كبيرا بين الدراستين.

فهذا أحمد المتوكل يعرف الخطاب منطلقا من النظريات اللسانية الحديثة، كاللسانيات التوليدية التحويلية التي عرفت الخطاب عبر تمييزه عن الجملة، حيث يقول” أما الخطاب فقد ميز عن الجملة في هذا النمط من النظريات (اللسانيات التوليدية) باعتباره يتسم بسمتين: تعديه للجملة من حيث حجمه وملابسته لخصائص غير لغوية دلالية وتداولية وسياقية”[24].

أما نظرية النحو الوظيفي فقد ميزها أمران:

أولا، يندر، بل ينعدم استعمال مصطلح”النص” سواء قصد به سلسلة صورية من الجمل أم عني به متوالية جملية مرتبطة بظروف إنتاجها.

ثانيا، يقارب المنتج اللغوي كما هو متوقع في كل نظرية مؤسسة تواصليا تعتمد “القدرة التواصلية” (لا “القدرة اللغوية الصرف”  فقط) في علاقته بسياق إنتاجه (أو تأويله)أيا كان حجمه(جملة أو سلسلة جملية)[25]. ومع تطور النظرية انتقل الدرس اللساني “من الجملة إلى الخطاب باعتبار الخطاب سلسلة من الجمل المتناسقة تحكمها ضوابط ظروف إنتاجها”[26].

بعد هذه المنطلقات التي حصرت المفهوم في الحجم كما فعلت اللسانيات التوليدية، أو ربطه بالثنائية:جملة/خطاب مع نظرية النحو الوظيفي يقترح المتوكل تعريفا آخر للخطاب قال فيه:

يعد خطابا كل ملفوظ/مكتوب يشكل وحدة تواصلية قائمة الذات”

يفاد من التعريف ثلاثة أمور:

أولا، تحييد الثنائية التقابلية جملة/خطاب حيث أصبح الخطاب شاملا للجملة.

ثانيا،اعتماد التواصلية معيارا للخطابية.

ثالثا، إقصاء معيار الحجم من تحديد الخطاب حيث أصبح من الممكن أن يعد خطابا نص كامل أو جملة أو مركب أو ما أسميناه في مكان آخر( المتوكل 2003) “شبه الجملة”[27].

ب .الخطاب في الدراسات الغربية:

مما لا شك فيه أن مصطلح الخطاب في الدراسات الغربية داولته مجموعة من العلوم المختلفة، المرتبطة بأنماطه حيث “وضعت للخطاب الأدبي نظرية سيميائية ونظرية شعرية، وللخطاب السردي نظرية سردية(أو سرديات) كما وضعت للخطاب الحجاجي نظرية حجاجية”[28]. ونتيجة لذلك فقد عرف المفهوم اختلافا وتعددا في تعريفه تبعا لاختلاف العلوم والنظريات التي تطرقت إليه، وهي اختلافات لها قيمتها وأهميتها في مجالاتها، لكن ما يؤخذ عليها حسب المتوكل”أنها اهتمت أساسا بخصائص نمط خطابي بعينه وأغفلت ما يقوم بين الأنماط الخطابية على اختلافها من قواسم مشتركة تسم الخطاب الطبيعي بوجه عام”[29].

يعرف جون ديبوا وآخرين الخطاب بما يلي:

“- هو الكلام الموضوع في الاستعمال أو اللغة المضطلعة من طرف الفاعل المتكلم وهو ﺑﻬذا

المفهوم ( مرادف: الكلام )

  • الخطاب وحدة مساوية أو أعلى من الجملة ، وهو مكون من سلسلة مشكلة رسالة لها بداية وﻧﻬاية ( مرادف : للملفوظ ) .
  • الخطاب يعني كل الملفوظات الأعلى من الجملة “[30].

من خلال التعريف نلاحظ أن جون يربط مفهوم الخطاب بالجانب الشكلي من خلال حجمه الذي يفوق الجملة أو يعادلها، و بالجانب الوظيفي عبر اللغة. كما أنه يربط الخطاب بالكلام، وهو بهذا لا يخرج عما قدمه العرب.

يتجاوز إميل بنفينست التعاريف السابقة ويوسع المفهوم كثيرا، ليصبح الخطاب يملك قدرات إقناعية تهدف إلى التأثير في المتلقي بأي طريقة يقول في هذا الصدد” ” يجب أن يفهم الخطاب بأوسع معانيه على أنه كل ملفوظ يفترض متكلما ومستمعا وفي نية الأول التأثير على الآخر بأية طريقة”[31]. ورغم توسيع اميل بنفينست للخطاب، ومنحه قدرة تأثيرية،إلا أنه يربطه باللغة المنطوقة (متكلم/مستمع) وبهذا يكون الخطاب هو استعمال اللغة المنطوقة دون المكتوبة.

إن هذا التعريف يشير إلى  التمييز الحاصل بين النص والخطاب، حيث يربطون الخطاب باللغة المنطوقة بينما النص باللغة المكتوبة. فما المقصود بالنص؟ وما الفرق بينه وبين الخطاب؟ وما القواسم المشتركة بينهما؟

3 . النص:

إذا كان مفهوم الخطاب في الدراسات العربية عرف تقدما وتطورا مع مرور الزمن، كما تداخلت علوم مختلفة ساهمت في تطوره كعلم الأصول والتفسير والمنطق والفرق الكلامية، فإن  مفهوم النص أيضا تطرقت إليه هذه العلوم، لكن بمعاني مختلفة تماما عن مفهوم النص في الدراسات الحديثة سواء العربية أو الغربية، ففي لسان العرب، يتخذ النص معاني كثيرة منها الظهور والرفع ، و”منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها(…)وكذلك النص في السير إنما هو أقصى ما تقدر عليه الدابة( …) ونص الشيء واستوي واستقام (…) نص القران ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام”[32]. ويرتبط المفهوم عند الفقهاء وعلماء التفسير بالنصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة.

ومن الناحية الاصطلاحية سواء في الدراسات العربية الحديثة أو الغربية فإن المفهوم يعرف تعدد التعاريف واختلافها، وهذا ما يوضحه جان ماري سشايفر، حيث يرى أن البعض حدده باعتباره الخطاب المكتوب، بل العمل الأدبي، وبعضها الآخر يرى فيه مرادفا للخطاب. وأخيرا فإن بعضها يعطيه توسعا سيميائيا منتقلا فيتكلم عن نص فيلمي، وعن نص موسيقي”[33].

قريب من هذا المعنى الذي ذكره جان ماري تطالعنا بعض المعاجم بالتعريف التالي” حد النص يمكن ألا يشير إلى ما هو مكتوب فقط، بل يعني كل مدونة مستعملة من اللساني”[34]. يوسع التعريف التالي من مفهوم النص حيث يشمل المكتوب والمنطوق. ومعنى هذا أن النص والخطاب يستعملان بنفس الدلالة، وهذا ما تؤكده موسوعة اللغويات العالمية،حيث تعتبرهما وحدة لغوية تتجاوز الجملة”[35].

 و في نفس السياق يعود جان ماري بعد  تقديمه للوجهات المختلفة التي عرفت النص، فيعرفه بناء على التداولية النصية فيقول”وبالاتفاق المنتشر في التداولية النصية، فإننا سنحدد النص هنا بوصفه”سلسلة لسانية محكية أو مكتوبة تشكل وحدة تواصلية “ولا يهم أن يكون المقصود هو متتالية من الجمل أو من جملة وحيدة، أو من جزء من الجملة”[36].

يستفاد من هذا التعريف ثلاثة أمور أساسية:

أولها أن النص لم يعد مقتصرا على المكتوب بل شمل مع جان حتى المحكي، وهو بهذا يتقاطع مع مفهوم الخطاب الذي يقتصر عند العديد من الدارسين على الكلام المنطوق.

ثانيها أن النص يرتبط بالعملية التواصلية ارتباطا وثيقا، حيث يشكل النص وحدة تواصلية.

ثالثها أن النص غير مرتبط بالحجم، فقد يكون متتالية من الجمل،أو جملة،أو جزء من الجملة.

ويبني روبرت دي بوجراند تعريفه للنص بناء على مقارنته مع الجملة، حيث يعتبر النص يؤدي إلى  عمل إجرائي بينما الجمل ينتفي فيها العمل، ولذلك لا يعول عليها في تقديم شيء في المواقف الإنسانية، يقول في هذا الصدد”  ولا يمكن النظر إلى النص بزعم أنه مجرد صورة مكونة من الوحدات الصرفية (morphemes)  أو الرموز.إن النص تجل لعمل (action) إنساني ينوي به شخص أن ينتج نصا ويوجه السامعين به إلى أن يبنوا علاقات من أنواع مختلفة. وهكذا يبدو هذا التوجيه مسببا لأعمال إجرائية…والنصوص تراقب المواقف وتوجهها وتغيرها كذلك. وليست الجملة عملا، ولهذا كانت ذات أثر محدود في المواقف الإنسانية،لأنها تستعمل لتعريف الناس كيفية بناء العلاقات النحوية فحسب”[37]. وهكذا فإن كل تجل أدى إلى عمل إجرائي فهو نص، ومن ثمة فإن علامات المرور باعتبارها رمز يؤدي إلى عمل إجرائي يضبط العلاقة بين المارة ويحددها نصا أيضا. وقد أكد هذا الأمر في فقرة أخرى حين قال ” لهذا يمكن لإنشاء النص أن يوصف بأنه تفعيل  (Axtualization) وهذه  السمة من سمات الورود(…) هي المعيار الجوهري للتعرف على النص بهذا الوصف ويتبع ذلك أن النص ليس مجرد منزلة مختلفة عن الجملة(…) وقد يكون النص أكثر من كلمة واحدة، وقد يتألف من عناصر ليس لها ما للجملة من الشروط (مثلا:علامات الطرق والإعلان والبرقيات ونحوها)[38].

ما يستفاد من هذا التعريف أن الحجم الذي اعتبره الكثيرون معيارا لتعريف النص قد حذفه روبرت من خلال رفضه أن يكون النص منزلة مختلفة عن الجملة، كما أن المفهوم عنده لا يقتصر على الدليل اللغوي فقط (سواء كان منطوقا أو مكتوبا) بل يتجاوزه إلى الصور والإشهار وعلامات المرور. وعليه فإن الإجرائية والتفعيل هما عاملان حاسمان في تحديد ماهية النص، وبهذا يكون روبرت قد تجاوز معظم التعاريف السابقة وساهم في توسيع مفهوم النص.

4  الفرق بين النص والخطاب: 

قبل البدء في الحديث عن الفرق بين النص والخطاب ينبغي التنبيه، أن المفهومين يتداخلان إلى حد التطابق والترادف في ما بينهما، مما يجعل التمييز بينهما أمرا صعبا، فهناك من استعملهما بدلالة واحدة، وجعل حدهما مرتبط بالحجم الذي يفوق الجملة، وهناك من ميز بينهما على أساس النطق والكتابة، فجعل الخطاب كل كلام منطوق، بينما حصر النص في الكلام المكتوب، وهناك من جعل الخطاب جزء من النص.

يميز روبرت دي بوجراند بين النص والخطاب، بناء على الاتصالية التي يتميز بها الأول والشمولية التي يختص بها الثاني، فالصفة ” المميزة للنص هي استعماله في الاتصال، وأن الخطاب مجموعة من النصوص ذات العلاقات المشتركة (…) وإذا كان عالم النص هو الموازي المعرفي للمعلومات المنقولة والمنشطة بعد الاقتران في الذاكرة من خلال استعمال النص فإن عالم الخطاب هو جملة أحداث الخطاب ذات العلاقات المشتركة في جماعة لغوية أو مجتمع ما “[39]. ويضيف موضحا طبيعة العلاقة المشتركة بين النصوص التي تشكل الخطاب بتعريفه له ب ” مجموعة النصوص التي يربط بينها مجال معرفي واحد”[40].

يرتبط مفهوم النص إذا عند روبرت بقصده الاتصال، بينما يتشكل الخطاب من مجموعة نصوص مرتبطة بمجال معرفي معين، والملاحظ في هذا التمييز أنه تجاوز النظرة الضيقة التي ميزت بين المفهومين بناء على النطق والكتابة، ومعنى هذا أن النص والخطاب كلاهما قد يكون مكتوبا أو منطوقا.

وبناء عليه فإن النص والخطاب ( جان ماري وروبرت) يلتقيان في النطق والكتابة، فكلاهما يمكن أن يكون منطوقا أو مكتوبا، كما أن الحجم ليس حدا لتعريفهما، بل القدرة التواصلية (المتوكل،جان ماري) أو الاتصالية (روبرت) أو الاجرائية (روبرت دي بوجراند) هي التي تحدد مفهوم الخطاب والنص.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] لسان العرب،المجلد 8 دار صادر مادة لغا

[2]  سورة الفرقان،الآية 72

[3]  سورة البقرة الآية 225

[4]  نقلا عن د.جان جبران كرم، مدخل إلى لغة الإعلان، ص:11

[5]  المرجع السابق:ص:12

[6]  فرديناند دو سوسير، محاضرات في اللسانيات العامة، ترجمة عبدالقادر قنيني، مراجعة أحمد حبيبي، افريقيا الشرق، 1987 ، ص: 18

[7] علي ناصر كنانة، اللغة وعلائقياتها،ص:80

[8]  المرجع السابق:ص:80

[9] Koestler. A ;act of creation ;London ;pan books ;1966.p :609

[10]  اللغة وعلائقياتها،ص:80

[11]  ليف فيكوتسكي،(2013) الفكر واللغة النظرية الثقافية التاريخية،تر،  عبد القادر قنيني، ص:83

[12]  سيد جمعة يوسف، تحرير سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، س،عالم المعرفة ع،145 ، ص:150

[13]  المرجع السابق:ص:150

[14]  نفسه،ص:152

 [15] نفسه،ص:153

[16]  لسان العرب، المجلد1  دار صادر بيروت مادة “خطب”

[17] الفرقان الآية 63

[18]  هود الآية 37

[19] سورة ص الآية 23

[20]  الزمخشري،(1999)الكشاف،ط.1  ص:80 -81

[21] ابن عربي،(1978)تفسير القران الكريم، تحقيق مصطفى غالب، مجلد 2 ،ط 2 ، ص:349

[22]  الغزالي،(1997)المستصفي من علم الأصول،ج1 ،ط1 1997 ص:229

[23]  عبدالله إبراهيم،(1999)الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة،ط1 ، ص:102 -103

[24]  أحمد المتوكل،(2010)الخطاب وخصائص اللغة العربية دراسة في الوظيفة والبنية والنمط،ط.1 ، ص:21 -22

[25]  المرجع السابق، ص:23

[26] المرجع السابق، ص:23

[27] المرجع السابق، ص:24

[28] المرجع السابق، ص:27

[29]  المرجع السابق،ص:27

[30]jean Dubois et autres .dictionnaire de l’linguistique , 1973 , libraire la rousse‐paris, p156

[31] Emile Benveniste : problèmes de linguistique générale, Edition gallimard ,1966 ,p 241-242

 

[32] لسان العرب،مجلد7 ،مادة نص

[33]  جان ماري سشايفر،(2004)النص،ضمن كتاب العلامتية والنص،إعداد وترجمة منذر عياشي ط.1 . ،ص:119

[34] Jeorges Mounin 1974: dictionnaire de la linguistique, quadrige .P.V.F édition  .p333

 

[35] William Bright, 1992 International Encyclopedia of Linguistics, V1, Oxford, University C8. Press-New York, Oxford, , P356

 

[36]  العلامتية والنص،ص:119

[37] روبرت دي بوجراند، (1998) النص والخطاب والإجراء ،ترجمة تمام حسان،ط.1 ص:92

[38]  المرجع السابق،ص:97

([39] ) المرجع السابق، ص:6.

[40]  المرجع السابق، ن ، ص.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات