728 x 90

من تنمية الثقافة إلى ثقافة التنمية

من تنمية الثقافة إلى ثقافة التنمية

سماح بودانس

إن موجة التقدم والتطور التي يشهدها العالم الغربي في الوقت الراهن،  جعلت العالم العربي يولي وجهه شطر التنمية، قصد الاستمتاع  بركوب هذه الموجة، محاولا بذلك خلع لباس التخلف وارتداء ثوب التقدم الذي ترتديه المجتمعات المتقدمة، هذا الثوب الذي حيك خصيصا لتلك الدول وفق مقاسات ثقافية وتاريخية واجتماعية معينة، لا يمكن أن تتناسب قط مع مجتمع لا يملك نفس المقاسات.

صحيح أن المجتمعات الغربية  قد عانت من أمراض تتشابه أعراضها في الظاهر مع الأمراض التي تعاني منها المجتمعات العربية، لكن هذا لا يعني أخذ الوصفات التنموية – التي أعدتها تلك الدول لمعالجة أمراضها- وتجريبها لعلاج داء التخلف الذي تعاني منه الدول النامية، لأنها غالبا أو بالأحرى دائما ما تتسبب في انتشار المرض واستفحاله. فبدلا من استيراد الحلول والوصفات الجاهزة، والتي من شأنها التعجيل بتعطيل مكابح الأمة، وجب على المجتمع العربي ابتكار وصفة علاجية خاصة، يستقي مكوناتها من ما يمكله من خصائص ثقافية تتمثل في: المقومات التاريخية والقيم الأخلاقية، والمرتكزات الجمالية، والموارد الاقتصادية. وصفة تمكنه من استئصال الثقافة الاستعمارية وما خلفته من أفكار استثمارية.

إن كانت ثقافة مجتمع معين هي ذلك التفاعل الحاصل بين عوالمه الثلاث: الأشخاص، الأشياء، الأفكار[1]، فإن أية محاولة لاستقطاب او استعارة خصوصيات أحد هذه العوالم من مجتمع آخر،  سيؤدي لا محالة إلى ظهور ثقافة هجينة لا تشبهه لا في المظهر ولا في الجوهر.

 

فارتقاء  المجتمع العربي في سلم التنمية لا ولن يتحقق الا بالتبرؤ من لغة التقليد والترديد، والسعي لتعلم لغة الخلق والسبق. هذه اللغة التي لا يمكن تعلم قواعدها وضبط مفاهيمها،  وامتلاك مفاتيحها،  في ظل الثقافة الهجينة التي وجدت  نتيجة الاستهلاك اللاواعي للثقافة الغربية من قبل العقول العربية،  هذا الاستهلاك الذي لم يراعي خصائص العقل العربي مما تسبب في  طمس ملامح هويته الثقافية[2].

  • مشكلة البحث:

إن التنمية  التي يسعى إليها المجتمع العربي، لا يمكن أن تتحقق في ظل  الفوضى الثقافية التي يعاني منها، فتحقيق التنمية بستلزم القيام بدراسة مرضية بغية تحديد نوعية الامراض التي اصابت المجتمع، وأخرى علاجية تمكن من اكتشاف الوصفات العلاجية المناسبة لها، لكن قبل ذلك  يجب التنقيب والبحث عن الجذور الثقافية العربية الأصيلة.

وهذا يعني الزامية تحديد الثقافة العربية الخام، والعمل على تنميتها وتطويرها بشكل يتلاءم ويلائم خصائصها التاريخية والاجتماعية والأخلاقية (الدينية)، والجمالية.

فالتنمية الثقافية من شأنها خلق آلية فعالة للنمو يصطلح عليها ب “الثقافة التنموية”. وبناء عليه فإن الإشكال الرئيسي الذي يروم هذا البحث تحريره هو:

كيف  ننتقل من تنمية الثقافة إلى التنمية بالثقافة؟

إن الإجابة عن هذا الإشكال تدفعنا للوقوف على عدة اشكالات نجملها في:

  • ما المقصود بكل من الثقافة والتنمية؟ وما طبيعة العلاقة بينهما ؟
  • ما السبيل لتحديد الثقافة الأم للمجتمع العربي في ظل ما يسمى بثقافة العالم؟
  • كيف نخضع الثقافة لآلة التنمية؟ وكيف نجعل الثقافة سلما لبلوغ التنمية؟
  • هدف البحث وأهميته:

إن الهدف الذي يرمي إليه هذا البحث، يتمثل في الوقوف على التدابير العلمية والعملية التي تمكن من تحديد الثقافة العربية الخام، وكذا الآليات التي من شأنها تنمية هذه الثقافة في ضوء خصائصها، ثم السبل التي تمكن من تحريك هذه الثقافة والتحرك بها نحو التنمية.

أولا : مفهوم التنمية والثقافة، وطبيعة العلاقة بينهما:

مما لا شك فيه أن مفهومي الثقافة والتنمية من أكثر المفاهيم تعقيدا وأشدها صعوبة، نظرا لكونها مفاهيم منبثقة من الواقع ومتصلة به، تتغير بتغيره وتتجدد بتجدده، فمن غير الممكن صياغة تعريف جامع مانع لمفهومي الثقافة والتنمية، في ظل ما تتميز به أبعادهما الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والإنسانية والاقتصادية، من تنوع وتوسع، ولعل هذا ما يفسر تعدد وكثرة التعاريف المصاغة لكل من الثقافة والتنمية.

  • مفهوم التنمية:

شكل مفهوم التنمية محور الاهتمامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في جل أقطار العالم، خاصة الدول العربية التي تبنت قضية التنمية ، لتصبح بذلك الشغل الشاغل للبرامج السياسية والخطابات الإعلامية، ممثلة بذلك العنصر الأبرز والأهم في مقومات (النهضة) التي يحلم بها المفكرون، ويعمل على تحقيقها السياسيون، وينتظر عوائدها المواطنون[3]. ليصبح هاجس تأسيس البنية التنموية في منظور المجتمعات العربية مفتاح علاء الدين الذي سيمكنهم من الخروج من متاهات التخلف والإحباط والانحطاط، إلى عالم التقدم والتطور والازدهار. فظهر على إثر هذا الاهتمام بمفهوم التنمية، مصطلح جديد وهو (الدول النامية) بدل (الدول المتخلفة)، “ولعل مما ساعد على انتشار مصطلح “البلاد النامية” الأكثر تهذيبا اشتغال عدد من علماء تلك البلاد أنفسهم بقضايا التنمية في بلادهم، ومشاركتهم بشكل ملحوظ في المؤتمرات ونشاط البحث الدولي حول هذه الموضوعات مما مكنهم من أن يرسخوا تلك التسمية الجديدة”[4].

فما المقصود بالتنمية ؟

تعرضت التنمية عبر التاريخ لعملية تنموية شاملة على صعيد المفهوم، فبعد أن كان مفهوم التنمية يكتسي طابعا اقتصاديا محضا، اكتسب أبعادا اجتماعية وإنسانية وثقافية، هذه الأبعاد التي ساهمت بشكل كبير في تعدد وتنوع  التعريفات المتعلقة بمفهوم التنمية. لذلك فهذه الورقة ستتبنى مفهوم التنمية الذي اصطلحت عليه هيئة الأمم المتحدة عام 1956 : ” التنمية هي العملية التي بمقتضاها يتم توجيه الجهود لكل من الأهالي والحكومة لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المحلية لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمة والإسهام في تقدمها بأقصى ما يمكن[5]. ففي هذا التعريف إشارة إلى أن التنمية تقوم أساسا على منهج  عملي يوجه أفراد المجتمع، نحو سلوك معين يضمن لهم نوعا من العيش الكريم، على جميع المستويات: التعليم، الصحة، العمل…

  • مفهوم الثقافة:

عند تحديدنا لتعريف مفهوم الثقافة، نجد أنفسنا أمام زوبعة من التعاريف، الضيقة منها والمتسعة، المادية منها والمعنوية، مما يجعل مسألة تحديد هويتها – الثقافة – أمرا في غاية الصعوبة، لذلك فأنا في هذه الورقة سأقتصر على تعريفين للثقافة، أولهما: ” الثقافة هي التركيب العام لتراكيب جزئية أربعة: الأخلاق والجمال، والمنطق العملي، والصناعة”[6]. وثانهما: “الثقافة هي الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والعرف والقانون، وغير ذلك من العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع[7].

فالمتأمل لهذين التعريفين سيجد أن هناك  دلالة واضحة على أن الثقافة تشمل الجانب المعنوي والديني للمجتمع، وكذا الجانب المادي المتمثل في الصناعة والتجارة والفن، ثم جانب العلاقات الاجتماعي الرابطة بين أفراد المجتمع. كما يتضح من خلالهما وظيفة الثقافة المتمثلة في كونها تمثل المرجعية التي تنظم وتوجه وترشد تفاعل الأفراد في المجتمع، وذلك باعتبارها المرجعية الكلية الشاملة للأخلاق والقيم والمبادئ والقواعد التي تؤطر سلوك وتحركات وعملية التأثر والتأثير بين الفرد والمجتمع من جهة وبين الأفراد بعضهم البعض من جهة أخرى.

وعلى هذا النحو فإننا نجد أن الثقافة قد شكلت القاسم المشترك، الذي يوجد في المجتمع على هيئة مجموعة من المعاني، التي تشكل بناء الضمير الفردي، وأن فعل الإنسان في المجتمع، وكذلك تفاعله مع الآخرين محكوم بقيم الثقافة، ومعانيها الرمزية من خلال ما يمكن تسميته بصيغة التوقعات المتبادلة(7)[8].

  • العلاقة بين الثقافة والتنمية:

إذا كانت الثقافة هي العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب حياة المجتمع، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد[9]. والتنمية هي العملية التي يتم بموجبها توجيه أسلوب الحياة في المجتمع باختلاف مجالاته نحو التطوير والتحسين، فإن طبيعة العلاقة بينهما- الثقافة والتنمية – هي علاقة تكامل وانسجام وتفاعل.

ذلك أن الثقافة تحدد الأرضية التي تبنى عليها المشاريع التنموية، هذه المشاريع التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إثراء هذه الأرضية الثقافية، بأساليب ومعالم جديدة، تمكن المجتمعات من ولوج عالم التقدم والتطور.

وعليه يمكن استنباط علاقة مزدوجة بين الثقافة والتنمية، الأولى في اتجاه تأثير الثقافة ودورها على عملية التنمية، التي يتم التعامل معها كمتغير تابع، والثانية تعنى بتأثير التنمية على الثقافات، فاتجاه تقوية حقوق الإنسان والمساواة ومكافحة الفقر والديموقراطية، وجميعها مفاهيم ومبادئ اتضح ارتباطها بالتنمية في الآونة الأخيرة، …اكتسبت العلاقة بين الثقافة والتنمية بعدا مهما جعل من ترابطهما ترابطا مزدوجا بمعنى أن الثقافة لا تحتكر التأثير على التنمية، بل أيضا إن التنمية لها تأثير على الثقافة وتسعى لتحولها[10]. فلا وجود لتنمية في غياب الثقافة، ولا وجود لثقافة فاعلة دون تنمية، وبالتالي لا سبيل لولوج عالم التقدم – في كل المجالات – في غياب علاقة تفاعلية بين الثقافة والتنمية، علاقة تجعل من التنمية مفعولا به تارة وفاعلا تارة أخرى، وتجعل من الثقافة فاعلا تارة ومفعولا به تارة أخرى.

 

 

ثانيا: تنمية الثقافة وثقافة التنمية:

إن عملية تأسيس بنية ثقافية تنموية خاصة بمجتمع معين،  تستدعي أولا وقبل كل شيء تحديد الثقافة الأم لهذا المجتمع، والعمل على إعادة رسم ملامحها الأصلية، ثم القيام بتنميتها بشكل يليق مع متغيرات العصر، دون طمس معالمها أو تغيير جذورها، لكي يتمكن من تحريكها والتحرك بها نحو التنمية.

  • تحديد الثقافة:

إذا كانا يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه، قد تنعدم فائدته تماما بالنسبة إليه في مرحلة أخرى، فإنه من المخاطرة أن نقتبس حلا أمريكيا أو حلا ماركسيا، كيما نطبقه على أية مشكلة تواجهنا في العالم العربي والإسلامي، لأننا هنا أمام مجتمعات تختلف أعمارها وتختلف اتجاهاتها الفكرية[11].

لذلك وجب الوعي بكون الحلول التي انتهجها الغرب لحل مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية …، هي نتاج لتفاعل تلقائي بين مكوناته ومنظوماته الثقافية والايديولوجية، فهي تعبر عن حاجات واقعهم ومتطلبات عصرهم، بكيفية تتلاءم مع مواردهم البشرية والطبيعية والاقتصادية.

كما يجب الوعي بأن المشاريع التنموية المستوردة التي لا تتأسس على الأرضية الثقافية الخاصة بالمجتمع، لا يمكنها أن تنجح حتى لو تم تنفيذها بأساليب ومناهج وطرق مختلفة ومتنوعة، لأنها بكل بساطة نابعة عن ثقافة غير ثقافة هذا المجتمع، وتعبر عن حاجات ومتطلبات لا تلامس واقعه.

وبناء عليه فإن معالجة الأمراض التي تعاني منها الأمة الإسلامية، يستدعي أولا وقبل كل شيء ” أن تحدد  البلدان المتخلفة ثقافتها لتتدارك تأخرها، وتؤدي دورها في العالم بصورة فعالة”[12]، وهذا يعني تجريد هذه الثقافة من كل شوائب الثقافات الغربية، وذلك رغبة منا في الكشف عن مكامن الضعف والقوة في ثقافتنا العربية الإسلامية، والعمل على تطويرها والمضي بها قدما نحو بناء أمة إسلامية قائدة، فنحن بحاجة إلى إعادة صياغة الرؤية الثقافية للإنسان المسلم وفق الرؤية القرآنية، لا وفق الرؤية الغربية الاستعمارية.

هذه الصياغة -صياغة الرؤية الثقافية للإنسان المسلم- التي لن تتحقق إلا بتصفية واقعنا وعادتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والقيمي والاجتماعي والفكري، من العوامل الميتة والمميتة، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية للحياة. ولن تتأتى هذه التصفية بدورها، إلا بتأسيس نسق فكري وقيمي وأخلاقي جديد، تتصل جذوره بالثقافة الإسلامية الأم المنبثقة من المصادر الربانية[13].

  • تنمية الثقافة:

إن التحول من نمط ثقافي إلى نمط ثقافي آخر ليس بالأمر السهل، فهو يتطلب إعادة بناء الثقافة ذاتها وفق أسس تنموية، إذ لا يمكن مواجهة ثقافة الفقر بفقر الثقافة[14].

فإذا كانت الثقافة هي ذلك الإطار القيمي والأخلاقي والإجتماعي الذي يؤطر سلوك الأفراد داخل المجتمع، فإن تنمية الثقافة تعني العمل على تطوير هذا الإطار القيمي، دون طمس ملامح هويته الثقافية.

هذا التطور الذي لن يتأتى إلا بتنمية الإنسان، بوصفه المحور الأساسي في تحريك عجلة الفكر والاقتصاد والسياسة… ، تنمية تستند قواعدها على تنزيل القيم القرءانية. فتنمية الثقافة بهذا الشكل يساهم في خلق نوع من التقدم الثقافي في المجتمع. إذ لا يمكن بزوغ فجر التقدم الثقافي في سماء مجتمع معين في ظل تواجد ثقافة هجينة، وقيم هجينة.

فالتقدم الثقافي يستوجب أن يكون الأفراد على وعي بأنفسهم وبيئتهم. وإذا كان هذا الوعي ضعيفا فلن يكون نتيجته التقدم الثقافي….فزيادة الإحساس بالارتباط الجماعي والانتماء إلى الذاكرة الجماعية يعد ملمحا من ملامح التقدم الثقافي. وهذا هو الرباط بين ماضي المجتمع ومستقبله[15].

 

 

 

فما هي إذن التدابير العملية  والعلمية التي يجب تبنيها لتنمية الثقافة؟

هناك مجموعة من التدابير العلمية والعملية التي يجب على المجتمعات العربية الإسلامي القيام بها، لتجاوز التخلف الثقافي الذي تشهده، والمضي قدما نحو تنمية ثقافية، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

  • إصلاح العقيدة:

لا يمكن للإنسان بناء حضارة ذات مبادئ وقيم وأخلاق، في غياب الفكرة الدينية:” الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعا ومنهجا، أو هي على الأقل تقوم أسسها في توجيه الناس لا نحو معبود عيني بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حين يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته، إذ حينما يكتشف حياته الكاملة يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته وتتفاعل معها[16]. فالعلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان، هي التي  تلد العلاقة الاجتماعية وهي بدورها تربط بين الإنسان وأخيه الإنسان…[17] ، فتجليات العقيدة أي أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية، هي التي تعطي الطاقة المحركة للفرد والمجتمع وللحضارة ككل[18]. فلا يمكن أن يحدث في حياة الأمة الإسلامية انتعاش معتبر إلا بإصلاح عقدي يرشد تحمل الأمة لعقيدتها لتقع في النفوس من جديد موقع الدفع إلى العمل الصالح المعمر في الأرض والمنمي للحياة[19]. والعمل بكل متاح ومباح لإعادتها إلى طبيعتها الخام، تجديدا وإحياء، تصورا وتمثلا، تفعيلا وتنزيلا، يقول مالك بن نبي:” ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن ترد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي[20]. حتى تصبح منهجا علميا وواقعا عمليا، يمكننا من ضخ دماء الفاعلية والقوة والعز في جسد الأمة الإسلامية. حتى لا  يكون الاصلاح محض شعار افتراضي لا أثر فعلي له.

وتجدر الإشارة إلى أن إصلاح العقيدة لا يقصد به المجيئ بعقيدة جديدة، أو التغيير الجذري لهذه العقيدة، أو طمس ملامحها والانطلاق من فراغ، وإنما المقصود بالإصلاح تجريدها مما ألحق إليها من الشبه والزوائد، سواء الكلامية أو الفلسفية أو الصوفية، والعمل على تقويم ما أفسدته التيارات الفكرية الغربية، في محاولة لإعادتها إلى أصلها الخام ، فكل محاولة لإعادة بناء حضارة إسلامية يجب أن تقوم أولا وقبل كل شيء على أساس سيادة الفقه الخالص على الواقع السائد… ولا شك أن هذا يقتضي رجوعا إلى الإسلام الخالص أعني تنقية النصوص القرآنية من غواشيها الكلامية  والفقهية والفلسفية[21].

  • إصلاح الفكر:

الأفكار هي الوقود المحرك للفكر الإنساني الدافع نحو الاقلاع الحضاري والفكري، خاصة إذا كانت هذه الأفكار ولودا، وهذا يعني ضرورة وأد الأفكار العقيمة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا ريب أن المجتمع الإنساني  يعج بعوالممن الأفكار التي لا تتوانى عن التسلل إلى العالم الداخلي للإنسان واختراق أسوار فكره، والعبث به وبعثرة سكينته. يقول مالك بن نبي: “مشكلتنا ليست فيما نستحق بل فيما يسودنا من أفكار وعادات[22]، فالمشكلة الأساسية التي يعاني منها المجتمع الإنساني عامة والإسلامي خاصة راجعة إلى نوعية الأفكار التي يقتات عليها فكر الإنسان.

لا ريب إذن أن استقبال العالم الداخلي للفرد للأفكار الوافدة من العالم الخارجي، بحاجة ملحة لإجراء فحص شامل، لمعرفة ما يعتريها من أمراض قد تؤدي لإحداث خلل في خلايا الفكر. وهذا الأمر يتطلب التفريق بين الأفكار المطبوعة[23] و الموضوعة[24] من جهة، والأفكار الميتة[25] والمميتة[26]من جهة أخرى، فكل نوع بحاجة إلى فحص خاص به، كل حسب طبيعته  وتركيبته، فهذا التفريق ليس تفريقا شكليا أو ترفيا، وإنما هو تفريق أساسي يمكننا من عتق رقبة الأفكار المطبوعة والموضوعة من نار الأفكار المستعارة (المميتة)، التي تسعى للقضاء على الهوية الفكرية في المجتمع الإسلامي.

يقول مالك بن نبي:” المجتمع الإسلامي في هذه اللحظة يواجه انتقاما رهيبا تصبه الأفكار التي استعارها من اوربة، دون أن يراعي الشروط التي تحفظ  قيمتها الإجتماعية، وقد أورث ذلك تدهورا في قيمة الأفكار الموروثة وتدهورا في قيمة الأفكار المكتسبة[27]. فالتصدي لهذا الاستعمار او بالأحرى الاستثمار الفكري لن يتأتى إلا بالتمسك بهويتنا الفكرية المستمدة من عقيدتنا وشريعتنا الإسلامية.

  • فكرة التوجيه:

عرف مالك بن نبي فكرة التوجيه بأنها قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحدة في الهدف فكم من طاقات وقوى لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نكتلها…فالغاية فمن التوجيه تكمن في تجنب الاسراف في الجهد والوقت.

من خلال هذا التعريف يمكن القول بأن فكرة التوجيه هي وضع خطة – تناسب خصائص المجتمع الفكرية والاقتصادية والسياسية- بهدف الانتقال من منطق الفكرة إلى منطق العمل، بتعبير أدق تنزيل الأفكار من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، لتصبح بذلك سلوكا.

  • ثقافة التنمية:

من المؤكد أن الثقافة تشكل القلب النابض للمجتمع، فهي تمثل المرجعية الكلية لأنظمته الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية…، والتي على منوالها يتم تأسيس النسق المعنوي الروحي، والنسق السلوكي، والنسق المادي للمجتمع، وذلك وفق معايير منظوماتها – الثقافة –  القيمية والايدولوجية. وعليه فإن أي مشروع تنموي داخل المجتمع  لابد أن يخضع لسلطته الثقافية.

إننا حينما نتحدث عن ثقافة التنمية، فإننا نجد أن هذه الثقافة عبارة عن محصلة عناصر ثقافية متنوعة، يؤدي تفاعلها وانصهارها إلى تشكيل المنظومة القيمية، الموجهة لعملية التنمية والتفاعلات المرتبطة بها[28].

فلا يمكن الحديث عن  شيء اسمه “ثقافة التنمية” إلا إذا ساهم النسق الثقافي بكل جزئياته وكلياته، في تحقيق وإنجاح الخطط التنموية للمجتمع، دون إحداث رتق في منظوماته الأخلاقية أو الدينية أو الفكرية.

فعدم نجاح المشاريع التنموية في المجتمعات العربية الإسلامية، راجع لا محالة إلى إستعارة عناصر ثقافية أخرى تتعارض مع الثقافة الدينية أو التراثية للمجتمع، محاولة فرضها على عناصرها الثقافية، الأمر الذي يفرض تآكل إسهام هذه المكونات الثقافية في قيادة وتوجيه التنمية، وكذا إحداث تمزق في بنيتها بحيث نجد انعكاساته السلبية  في انسحاب البشر من المشاركة في التنمية، لأن ثقافة التنمية التي استوردتها الدولة لم تعبر عن طموحاتهم أو المعاني التي استوعبوها من تراثهم أو أنها لا تشبع احتياجاتهم. ناهيك عن ظهور تعارض في منظومة القيم والمبادئ، الشيء الذي أدى إلى إنتشار الفساد والانحراف داخل المجتمعات العربية، وبالتالي تقليص نتائج التنمية[29].

ومنه فإن السبب الرئيسي الذي يعوق تحول الثقافة العربية إلى ثقافة تنموية، يكمن في استعارة الدول العربية للثقافات الغربية – التي ساهمت بشكل كبيرفي طمس ملامح هوية الثقافة العربية ومحو مبادئها الأخلاقية – ظنا منهم أنها هي السبيل الوحيد للتنمية، ناسين أو متناسين الإختلاف الجوهري بين الثقافتين العربية والغربية.

إن الناظر في المنحى الذي تسلكه الدول العربية نحو التنمية، سيجد أن الخلل ليس في المشاريع التنموية، وإنما في الوسائل المستعملة لتنفيذ هذه المشاريع، إن الحاجة الآن ليست لثقافة تنموية منسوخة عن الغرب، بل إلى ثقافة تنموية محلية نابعة من جذور الثقافة العربية الإسلامية وخصائصها، ثقافة تمكننا من إعادة الروح لجسد الأمة، ثقافة  تحيي الإنسان والعمران. فنحن بحاجة إلى إعادة صياغة الرؤية الكونية  للإنسان وفق الرؤية القرآنية، لا وفق الرؤية الغربية الإستعمارية. هذه الرؤية القرآنية التي لن تتأتى إلا بتنزيل القيم القرآنية، وغرسها في نفوس الناس، لتصبح بذلك منهج حياة يتمثل في سلوكهم، ومعاملاتهم وعاداتهم.

 

 

 

 

خاتمة:

ختاما يمكننا القول أن التقدم الذي تحلم به المجتمعات العربية الإسلامية لن يتحقق إلى ب:

  • تحديد الثقافة الأم لهذه المجتمعات، هذه الثقافة المنبثقة من القرءان الكريم والسنة النبوية.
  • إحداث إصلاح كلي على مستوى العقيدة والأخلاق والأفكار، يمكن من إعادة روح الفاعلية للأمة الإسلامية.
  • تنزيل القيم القرآنية، والعمل على تحريكها والتحرك بها على أرض الواقع.
  • العمل على وضع خطة علمية دقيقة لتوجيه هذه الأفكار وتحويلها إلى سلوك فيصبح بذلك الإنسان المسلم عنصر فاعل وفعال في المجتمع.
  • وضع مشاريع تنموية تحمل حلولا ناجعة لمشاكل أفراد هذه المجتمعات، وتعبر عن إحتياجاتهم، وتناسب مواردهم الطبيعية والاقتصادية وطاقاتهم العلمية، بتعبير أدق مشاريع تنموية نابعة من ثقافتهم لا عن ثقافة غيرهم.

[1]– مالك بن نبي، مشكلة الثقافة

[2] – طالبة باحثة سلك الدكتوراه، بكلبة الآداب والعلوم الإنسانية – المحمدية

[3] – خضر محمد عبد الرحمن الشيباني،  إكسير التنمية: جدلية التنمية والثقافة: أين الخلل؟ نحو تأصيل “الثقافة العلمية في المجتمعات العربية، ص: 29.

[4] – محمد الجوهري، مقدمة علم إجتماع التنمية، ص: 14، سجل العرب القاهرة.

[5] – مفهوم اصطلحت عليه هيئة الأمم المjحدة عام 1956.

[6] – مشكلة الثقافة، ص: 67.

[7] – إدوارد تيلور ، أعمال المؤتمر السنوي السادس لعلاج ومكافحة الإدمان، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، 2003، ص: 32.

[8] – الأمة وأزمة الثقافة والتنمية: الثقافة في تصورات نماذج التنمية رؤية من منظور النظرية الاجتماعية: علي ليلة، ص:162-163.

[9] – مشكلة الثقافة:، ص: 43

[10] – الأمة وأزمة الثقافة والتنمية، إشكالية الثقافة والتنمية في الاتجاهات الفكرية الغربية : باكينام الشرقاوي، ص: 135، دار السلام الطبعة الأولى.

[11] – مشكلة الثقافة: مالك بن نبي،  ترجمة عبد الصبور شاهين، ص: 37، دار الفكر الطبعة التاسعة عشره.

[12] – مشكلة الثقافة، ص: 112

[13] – مشكلة الثقافة، ص:71، بتصرف.

[14] – واقع التنمية العربي والنسق الثقافي للتنمية الفعالة، سعيد عبد الخالق محمود،  ص: 220

[15] -التنمية وأزمة الثقافة: بين ظاهرة الاستلاب وفاعلية التغيير، دراسة في التأصيل المعاري للتحديات، للدكتور:  وليد منير، ص: 461.

[16] – شروط النهضة، مالك بن نبي، ص:56.

[17] – ميلاد مجتمع، مالك بن نبي،ص:53

[18] – المقاصد العقدية في القصص القرآني، قضايا ونماذج وأبعاد ودلالات، الزايدي الطويل، ص:90، دار الكتب العلمية.

[19] – دور الإصلاح العقدي في نهضة الأمة، عبد المجيد النجار، مجلة إسلامية المعرفة، العدد1، بتاريخ 2008.

[20] – وجهة العالم  الإسلامي، مالك بن نبي، ص:54.، ترجمة عبد الصبور شاهين دار الفكر

[21] – نفس المصدر، ص: 62.

[22] – شروط النهضة: مالك بن نبي، ص:40

 

[23] – هي الأفكار الدافعة الأولية، ويقصد بها الأفكار الدينية

[24] – هي الأفكار التي تولد من رحم الأفكار المطبوعة

[25] – أفكار انجرفت عن مثلها الأعلى” مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 153

[26] – هي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافية بعدما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي”، المصدر نفسه، ص: 152.

[27] – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: مالك بن نبي، ص:159

[28] – الثقافة في تصورات نماذج التنمية رؤية من منظور النظرية الاجتماعية: علي ليلة، ص: 165

[29] – نفس المرجع، ص: 165. بتصرف

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات