سَردِيةُ الهامشِ في روَاية “دُمُوعُ الصَّمت” لجمال الفقير
عبدالسلام العروصي
توطئة:
آثَرَ مختبر السَّرديات، جامعة الحسن الثاني بنمسيك -الدار البيضاء، بتنسيق مع مركز ابن النفيس للدراسة والأبحاث، وجمعية قدماء تلاميذ الأمير مولاي الرشيد ببلقصيري، تسليطَ الضوءِ على الكتابات المجالية أو الإقليمية، فوجَّه مِسْلاطَه الكاشفَ بكثير من العناية والاهتمام نحو جغرافيةِ الغرب التي كانت وما تزالُ محفلاً للتجارب السردية الفذة والمُتَفرِدَة ذات الطابع المحلي والسّمْتِ المرجعي.
إن المُنقّب في السيرُورُة التاريخيّةِ للكتابة المحلية بمنطقة الغرب سَيُلْفِيها مُعمَّدةً بروح الراحل “محمد زفزاف”، المتربِّع على عرش الروايةِ الواقعيةِ بداية من سبعينيات القرن الماضي، فظلت أعماله تَثْوي كشاهدٍ حي على مهارةٍ وحذاقةٍ في السرد تعلي من شأن معذَّبي الأرضِ، ومن جملة ما أصدره الراحلُ “محاولةُ عيْش”، و”المرأةُ والوردةُ”، و” بيضةُ الديكِ” عن المركزِ الثقافي العربي . ومن مسقط رأس زفزاف وُلد وشبَّ الهادئُ روحاً وعقلاً والمصطخبُ أدباً وإبداعاً “محمد الهرادي”، حيث صدرت له هو الآخر مجموعة من الأعمال الأدبية، من زُمْرَتِها، “أحلامُ بقرة” عن دار الخطابي، و”ديكُ الشمال” ضمن منشورات الزمن، ثم رواية “دانتي” عن دار السليكي أخوين، وقد اتسمت أعمالُه بنفَسٍ تجريبيٍ توّاقٍ إلى خرق المألوف والمعتاد في الكتابة، واستمر عطاءُ الكتابةِ بسهل الغرب عبر تعاقب أجياله، فانبثق أدباء أعلوا من شأن الأدب في منطقة الغرب، وشيّدوا سردياتهم بحرفية كبيرة، ومن هذه الأسماء نذكر: ادريس الكنبوري، عبد القادر الدحمني، عبد الله شكيربة، محمد العياطي، والروائي الصاعدُ جمال الفقير، الذي يعد استمرارا جيليا للكتابة الإبداعية الغرباوية، ومن هنا جاء اختيارنا لروايته “دموع الصمت” الصادرة سنة 2021 عن جامعة المبدعين المغاربة موضوعاً لدراستنا. وللإشارة فجمال الفقير من مواليد مدينة مشرع بلقصيري بتاريخ 25 يوليوز 1987، حاصل على شهادة الماستر في الأدب والدكتوراه في اللسانيات بجامعة ابن طفيل، وهو يشغل حاليا منصبَ مدرّس للغة العربية في السلك الثانوي التأهيلي.
الصوت النسوي نحو الانزياح عن ثقافة القرية
ارْتَأى الكاتبُ على غير العادة أن يجعل من باكُورة أعماله نشيدا سرمديا لكل الفتيات المُلْتاعَات بالإقصاء والتهميش، فأَوْدَعَ شخصيتَه المحوريةَ سهام كل أصوات النساء المقهورات اللواتي يَقْبَعْنَ في الهامش، دون أن يتم انتشالُهن من فكر تكَدَّسَ وتَقَدّسَ عبر ردَهات الزمن المنسي.
وإِنْ تَلَطّفَ الساردُ في بناء شخصيته، فإنه لم يضمر الإقصاءَ والتهميشَ اللذَيْن تتعرض لهما الفتاة في الوسط القروي، حيث حاول بكثير من المرونة الخالية من البدع السردية تَقليصَ حِدّتهما من خلال الفعل التلفظي الذي نما تخييليا عبر ملفوظات كل من الأب والأم والأخ والخال والجدة، نورد لهذه الأخيرة عبارة: “نُوضِي ابَنْتِي تَمْشِي لْسّكْوِيلَه نُوضِي الله يرْضي عْلِيكْ” ص9.
إن الساردَ قد بنى متْنَه الحكائي عَبْرَ مسالكَ ومساراتٍ شكلت جَوْهرَ الرواية وبساطها الناظم للحكي، بداية بمرحلة الطفولة، انتقالا إلى مرحلة (سِهام) التلميذة، مرورا إلى الطالبة، ثم المعطلة، إلى أن أَلْفَت نفسها أستاذة متعاقدة.
وفي تُخُوم هذه المسالك والمنعرجات الحاسمة في حياة (سهام)، استَجْلى السارد مختلف العوائق النفسية والاجتماعية والاقتصادية، التي لعبت دور العامل المعاكس بتعبير ألخيرداس جوليان غريماس/Algirdas Julien Greimas، في الحيلولة دون هدفها المنشود، ومع تقاليد البادية وطقوسها ستصبح باقي العوامل والعوائق شيئا ثانويا، فالقرية أو البادية ما هي إلا استمرار لنظام القبيلة الصارم الذي يكرسُ الهيمنةَ الذكوريةَ وسيادَةَ النظام البّطْرِيرْكِي.
أمام كل تلك التحديات، أَخَذَ السارد بيد شخصيته المحورية (سهام) إلى المدرسة، مُغَرِّباً إياها عن أسرتها الصغيرة المكونة من الأب والأم والأخ، إذ “أحست بغربة فامتنعت عن الأكل والشراب”ص9، ومنتقلة للعيش مع جدتها حيث يطغى النظام التشاركي للحياة وشساعة المكان الغاصِّ بأفراد العائلة، وقد ” كان اليومُ يومَ أحد، قضته سهام كله تبكي منطويةً على نفسها رغم المعاملة الحسنة التي تلقتها من الجد والجدة والأخوال والخالات وكل من في المنزل الكبير”. ص9، أمام هول البدايات وصعوبة المرحلة ستُفْجَعُ (سهام) بموت خالها إثر حادث سير مميت، تسبب فيه ولد طائش يسوق عربة يجرها حصان حَرَنَ مما أدى إلى انحراف سيارة ولد المروزية عن مسارها لتَنْقَذِفَ إلى الوادي.
إن هذه الصدمة والفداحة التراجيدية شكلت الحافز – بمعناه الشكلاني-عند بوريس توماشفسكي/Boris Tomashevsky– الذي سيدفع (سهام) إلى الإقبال على الدراسة بنهَم، دون أن يثنيها أحد عن غايتها، وفي ظل تقدم السرد وسيْرُورةِ الزمن الحكائي، ستعرف الشخصية تغيرا فيزيولوجيا على جسدها فيصبح هو الآخر عائقا، إذ تعرضت للتحرش الجنسي والتعنيف اللفظي داخل دار الطالبة من قبل الموظف، ومن قبل فتية الدوار الذِين تسابقوا وتعاركوا وتَنَابَزُوا من أجل نيل ودها، ولأن سهام داخل نظام ثقافي صارم تحكمه قوانين وضوابطُ، فإنها مسلوبةُ الإرادة محكومةٌ بالعجز ما دامت أنثى، وتذكي هذا العجزَ سُلطَة الدوار من خلال ما تسمعه البطلة من تَخَرصَاتٍ: “رَاهْ بَايَنْ هِي اللِّي لَفْعَه قَرْطِيطَه، لْقرَايَه عَلْمَتْها غَا التَّحْرَمِيّاتْ”. ص30، ليتحولَ العلم من سلاح للتحرر إلى وَبَالٍ أمام صَنَمِيةِ التقاليدِ وتَحَجُّرِها.
في ظل سَطْوةِ المعيقات والحواجز بحثت عن كينونتها ونَذَرَت نفسها لتحصيل العلم والمعرفة، وبذلك تكون قد طَوَت مرحلتها كتلميذة، وألقَت بنفسها في أفق أرحبَ هو الجامعة بما تحمله من دينامية ومفارقات، فوجدت الذاتُ ذَاتَها وصوتَها، وأزالت عنها قُشُورَ العادات والتقاليد التي تَرَسّبت بفعل الزمن، وقطعت مع تكيفها الثقافي الإجباري، وعملت على رَتْقِ الصّدْعِ الذي أحدثته سنوات من التعسف والاضطهاد.
وبالرغم من تعرضها للمضايقات والضرب إثر احتجاجها في مرحلة العطالة، إلا أنها ظلت صوتا حرا مَنَحَ أَنَاها الأنثوية هوية في معترك الواقع اللاذع، وقدرة على المضي قدما، لتقف في نهاية المطاف أستاذة متعاقدة مُنهمِكَة بالعمل الفكري والثقافي الدّؤُوب.
إن الكاتب قَبْلَ السارد نَصَرَ الذاتَ وانتصر معها عبر نَسِيجٍ من العلائق تَعَاضَدَ فيه التاريخي والاجتماعي والاقتصادي، ولأن الكاتب يندرج ضمن رَعِيلِ طليعةِ المثقفين الحالمين فقد خَفَرَ البطلة إلى آخر رَمَقٍ في الحكاية، حيث اكتشفت ذاتها وصوتها المُطْبِقَ زمنا، معلنا بشكل ضمني أنه لا مَنَاص من الاستماع لسردية الهامش دون استفْحَالٍ طبقي أو تكريسٍ للهيمنة الذكورية، وجاعلاً من القرية والمدينة فضاءين مُتَمَايزَين تنتقل عبرهما البطلة، لِيُؤَنْسِنَ تلك اللحظات، ويبين حجمَ التناقض المُهْوِل بين القرية بنظامها الأخلاقي والثقافي الذي شكلت الجدة ومنزلها الكبير محوره، وبين المدينة ذات النمط الاجتماعي والثقافي المختلف، غير أن البطلة تكيفت مع وضعها بسرعة، حيث وجدت الحب والرفقة متخلصة من شعورها بالتغريب.
تَعْتيق اللغةِ وتَهْجينُها أسُّ البناء الروائي.
رَاوحَ المؤلف على لسان سُرَّاده بين العربية المعيار وبين العامية المغربية، إذ نحس ونحن نقرأ الرواية أننا إزاء ثراء وتنوع لغوي يُسْهِم في تشييد صَرْحِ البناء الروائي بحرفية ونَبَاهَة.
إن تناسل الحكي مع تناوب استلام مشعل السرد بين الشخوص، دفع المؤلف إلى تنويع لغته بما يخدم المَتْن الروائي، فتَارَةً نجده يتَصَيَّدُ تراكيبَ لغوية وتراثية تتسم بالجرس الموسيقي الذي يصعدُ بالقارئ إلى مدَارج التأنّق والانتقاء، من قبيل: “قِيلَ والعُهدَةُ على الرَّواي إن الأصوات سمع ذَوِيها” ص22. فَبِتَوَكُّؤِ المؤلف على هذا النوع من اللغة إنما يضفي طابعا اتِّزانيا ومعقوليا على الأداء اللفظي لدى شخوصه، ونجد هذا التوظيف منتظما بما يحمله من شحنة دلالية ولغوية ذات طابع تكثيفي، فالفصحى كما يدرك المؤلف بحكم تخصصه في اللسانيات الاجتماعية هي زِينَةُ المتن الروائي ومِلْحُه، لكنها تظل قاصرة أمام عنف العامية وقوتها التعبيرية، فنحس أنها تقول ما لا تستطيعه الفصحى، نورد لذلك مثالا: “الضَّاوية تنادي بأعلى صوتها: وَلْعَادَاوْا أَعِبَاد الله عَتْقُوا الرُّوح” ص22. كما يفسح المؤلف لسُرّاده من حين لآخر توظيفَ العامية لما تحمله من خصوصيات محلية وقدرة على التعبير، نضيف لذلك مثالا آخر: “أَجِي ضْرَب لْبُوهُمْ تَكْتِيفة رَاه شَبْعُو خُبْز” ص30، وقد أولى المؤلف اهتماما كبيرا بتلك الألفاظ المائزة بمنطقة الغرب، من قبيل: الضَّاوْيَة، وَلْدْ المْرُوزِية، ولد زَرْوَالَة، السَّكْوِيلَة، الخَيمَة، وأضفى على كتابته نوعا من الإرداف الخلفي، والازدواجية اللغوية لتوليد دلالات لا متناهية تخدم النص الروائي، ولأن الرواية جنس هَجِين؛ فإنه يتيحُ إمكانية تَخَلُّل مختلف الأجناس الأدبية الأخرى في التِئَام وتَضَام مع المتن الروائي دون تشظّيه، فيحضر الشعر العربي القديم ذو السمتِ القبلي/البدوي، والموسيقى والأمثال الشعبية بما لهما من قوة في التأثير والإبلاغ والإقناع.
وتجدر الإشارة إلى أن ارتدادَ البطلة إلى الماضي كنوع من النوسطالجيا، كان بلغة شعرية مليئة بالإيحاءات والمخايلات المجازية دون أن يقع السارد في الاستطراد، وهنا تتجلى عظمةُ السرد والساردِ معا.
الرِّهانُ القِيمي وأبعاده الدلالية في الرواية.
تَطْفحُ الرواية بالأبعاد القيمية والدلالية التي يراهن عليها الكاتب في سبيل تجويد الواقع، وجَعْلِه أكثر شفافية وعقلانية، فعلاوة على رشَاقَة البناء السردي وقصديته المصرح بها والمعلنة في فصول الرواية، إلا أنه آثر في أكثر من مرة توجيه الخطاب بنزعة لاذِعَة، يُشَرِّحُ من خلالها الواقع الكائنَ ويستشرف المُمْكِنَ المُزْهر. في هذا المستوى، تحضر الجدة بسميائها القيمي، فهي المبتدأ والمنتهى في كل أمر، موطن الحل والعقد، وهي المعين الذي ارتوت منه البطلة سهام رمز الكفاح والنضال ضد أشكال التعسف والاضطهاد الممارس عليها باسم أعراف القرية.
في مستوى آخر شكل الخال حميد السند الذي اتكأت عليه سهام في سعيها لاكتشاف ذاتها وكينونتها، بينما يتجلى دور الوالدين في الإيوَاء الذي لا يحتاج مُواضَعَات أو بروتوكولات، فحتى في تَغْريبَة ابنتهما كانا لها نعم الحاضنين والمؤازرين طيلة مسارها الدراسي. أما سعيد فهو يحضر رمزا للحب الذي أَصْبَغَه على سهام خلال مسارها الدراسي والمهني.
ختاما:
إن المؤلف في هذه الرواية عَمِل على خلخلة التوازنات واليقينيات الثابتة، وصنع من سهام فارسة وحارسة للمعنى والبساطة، حيث خرجت من رِبْقَةِ التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ومن شَرْنَقَة واقع الدوار المهمش نحو تحقيق ذاتها وهويتها كأنثى، وأمام تقاطع الحبكات وتعالق الشخوص ولدت هذه الرواية من صلب جغرافية الغرب، بمقاصد ورهانات سردية واضحة، لتطرح مفازاته ومطباته تحت كاشف التشريح، وتشرئب نحو واقع بعيد عن التأزم والتقوقع، واقع لا تهضم فيه حقوقُ العدالة المجالية، ولا تكبحُ فيه المواهب، ولا تقمع فيه الأصواتُ التّواقة إلى التحرر والانْعِتَاق.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *