دراسة في حكم وأثر الاحتجاج بالقراءة الشاذة في اللغة
د: مولاي عبدالنبي الإدريسي
مقدمة:
مما لا شك فيه أن الاشتغال بالقرآن الكريم وعلومه لمن الأمور الجليلة، والأعمال العظيمة، مما جعل سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتسابقون إلى خدمة كتاب الله تعالى طمعا في الزلفى والخيرية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلّمه}[1].
فقد تناولوا الكتاب العزيز بدراسات شتى؛ منها: تفسير القرآن وأسمائه، وسبب نزوله، وجمعه وتدوينه وترتيب سوره، والاعتناء بتجويده، وعد آياته وكلماته وحروفه…، كما عنوا بالمحكم والمتشابه، وبالناسخ والمنسوخ، وبالرسم القرآني وكتابته.
وقد نالت القراءات القرآنية الصحيحة منها والشاذة نصيبا أوفر من العناية والاهتمام، بالدّراسة والبحث والجمع، فمن ذلك جمع القراءات السبع بمفردها، ثم العشر، ثم الأربع عشرة، وكذا سائر القراءات المدونة في كتب المعاني والتفاسير، وكتب اللغة والنحو لعشرات القرّاء من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رضي الله عنهم أجمعين.
المحور الأول: القراءة الشاذة عند النحاة
اتفق جمهور العلماء على جواز تدوين القراءة الشاذة وتعلمها وتعليمها، والاحتجاج بها في ميادين الدراسات اللغوية.
قال العلامة الصفاقسي: وأما حكم القراءة بالشاذ فقال الشيخ أبو القاسم المعروف بالنويري المالكي: في كتابه (شرح طيبة النشر) اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب، وآراء العلماء أنه إن قرأ بالشواذ غير معتقد أنه قرآن، ولا موهم أحدا ذلك، بل لما فيها من الأحكام الشرعية – عند من يحتج بها-أو الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها. وعلى هذا يحمل حال كل من قرأ بها من المتقدمين، وكذلك – أيضا-يجوز تدوينها في الكتب، والتكلم على ما فيها، وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها، أو بإيهام قرآنيتها حرم ذلك”[2].
وقال الإمام السيوطي: كل ما ورد أنه قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية، لأنه نزل للإعجاز سواء كان متواتراً أم آحادا، أم شاذا، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءة الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معروفا، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه ولا يقاس عليه، وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه[3] والقراءة الشاذة هي البغية إذا وجدت، لأن ما وجد في القرآن أفصح مما في غيره، وهي في الأصل قرآن تتسم بسماته، غير أن إجماع الأمة على مصحف سيدنا عثمان- رضي الله عنه- جعلها في حيز الشواذ.
قال الدكتور عبده الراجحي في كتابه: (اللهجات العربية في القراءات القرآنية): تعتبر القراءات مرآة صادقة لما كانت عليه ألسنة العرب قبل الإسلام، وعلى ذلك لا يستطيع باحث أن يتعرض للهجات العربية دون أن يقوم بدراسة للقراءات، وإذا كانت القراءات كذلك فهي أوثق المصادر اللغوية لدراسة اللهجات ، إذ تختلف عن الشعر الجاهلي الذي أصابه ما أصابه من تحريف في الرواية على مر العصور، وتختلف عن الحديث بما أخبر فيه من رواية بالمعنى، ولقد رأيت أن منهج القراءات أصح مناهج النقل اللغوي، لأنها تعتمد على التلقي والعرض وهما يكفلان صحة النقل ودقته”[4]وقال في موضع آخر: والذي يهمنا في هذا البحث: أن القراءات يتصل سندها بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما يجعلها مصدراً لدراسة اللهجات العربية”.[5]
وابن جني-رحمه الله – عندما ألف كتابه “المحتسب” أراد أن يبين قيمة القراءة الشاذة، وإعادة الثقة اللغوية بها، وأنها مورد لغوي لا يستهان به! لا أن يجيز القراءة بها قال: “ولسنا نقول ذلك فسحا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءتهم ، أو تسويفا للعدول عما أقرته الثقات عنهم، ولكن غرضنا منه أن نرى وجه قوة ما يسمى الآن شاذا، وأنه ضارب في صحة الرواية بجرانه، آخذ من العربية مهلة ميدانه لئلا يرى مرئ أن العدول عنه إنما هو غض منه، أو تهمة له-ومعاذ الله !- وكيف يكون هذا والرواية تنميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه) (الحشر:7)، وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ … إلا أننا- وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع من يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية- فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذا “[6] وقبل ابن جني نجد علمين من أعلام اللغة يشيدون بالقراءة الشاذة واعتبارها الحجة في الاستشهاد. قال الفراء- رحمه الله- : الكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر[7].
وقال ابن خالويه[8]-رحمه الله-: “قد أجمع الناس جميعا أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن لا خلاف في ذلك[9].
وسأورد أمثلة تبين أهمية القراءة الشاذة عند النحاة، وأنهم كانوا يستحسنونها حتى يصل الأمر بهم إلى تفضيلها على القراءة المتواترة، وهذا شرعا لا يجوز؛ لأن القراءة المتواترة معلومة من الدين بالضرورة وقد أجمع علماء الأمة عليها قاطبة، وتلقتها الأمة بالقبول، وهذا بخلاف القراءة الشاذة وسأكتفي بذكر أربعة من علماء اللغة مرتبين حسب تاريخ وفاتهم:
1-سيبويه[10] – رحمه الله-(ت 180 هـ) قال: وقد قرأ أناس[11]: (والسارق والسارقة) (المائدة: 10) و”الزانية والزاني” (النور: 2) بالنصب وهو في العربية من القوة بمكان، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع، وإنما كان الوجه في الأمر والنهي (النصب)، لأن حد الكلام تقديم الفعل، وهو فيه أوجب…”[12]فسيبويه هنا يرى: أن القراءة الشاذة (النصب) أقوى لو لا إجماع عامة قراء الأمصار على الرفع وهي القراءة المتواترة، وهذا دليل قوي وواضح على استحسان النحاة للقراءة الشاذة وأنها عندهم بمكان !
2-أبو عبيد القاسم بن سلام –رحمه الله-(ت 224هـ) نراه يفضل قراءة مجاهد بن جبر لقوله تعالى: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) (النور:25) برفع (الحق) مستعينا بحرف أبي بن كعب: (يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم) قال: ولو لا كراهية خلاف الناس لكان الوجه “الرفع” ليكون نعتا الله عز وجل، وليكون موافقا لقراءة أبي[13]. ونحن لا نوافقه، لأنه احتج لما هو مخالف للسواد الأعظم! إنما الغرض بيان مدى تعلقهم بما سميت قراءة.
3-أبو العباس “محمد بن يزيد المبرد”[14] رحمه الله (ت 285هـ) حيث جعل قراءة الحسن البصري (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (الأنعام:160)[15] بضمتين للراء، وبضم اللام هي المختارة عند أهل اللغة، لأن إضافة العدد إلى الاسم أجود من إضافته إلى النعت[16]، كما جعل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (فبذلك فلتفرحوا) (يونس:58) بالتاء بدل الياء هي الأصل، لدخول اللام، وقال: ولو كانت للمخاطب لكان جيدا…”[17]
4-أبو الفتح “عثمان بن جني الموصلي”-رحمه الله-(ت 392هـ) رأى أن رفع (كل) من قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر:49) في قراءة أبي السمال[18] أقوى من النصب[19]) قال: الرفع هنا أقوى من النصب، وإن كانت الجماعة على النصب، وذلك أنه من مواضع الابتداء فهو كقولك: زيد ضربته وهو مذهب صاحب الكتاب والجماعة، وذلك لأنها جملة وقعت في الأصل خبرا عن مبتدأ في قولك: (نحن كل شيء خلقناه بقدر)، فهو كقولك: هند زيد ضربها، ثم تدخل “إن” فتنصب الاسم ويبقى الخبر على تركيبه الذي كان عليه من كونه جملة من مبتدأ وخبر.[20]
هذه بعض النماذج المبينة لقيمة القراءة الشاذة عند بعض النحاة، وأنه لا غنى لدارس اللهجات العربية عنها، فهي مصدر رئيس للهجات، وهي منبع عذب في مجال الدراسات اللغوية والأدبية، ولو لم يكن لها شرف إلا نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفى.
المحور الثاني: أثر القراءات “الشاذة” في اللغة:
للقراءات الشاذة أثر في الدرس اللغوي، من ذلك:
ـ جواز صرف ما لا ينصرف عند بعض العرب: الاسم المعرب الممنوع من الصرف: هو ما لا يجوز أن يلحقه الكسر ولا التنوين. ويعرب بالضمة رفعا، والفتحة نصبا وجرا إلا إن أضيف أو لحقته “أل” التعريفية فيجر بالكسرة وهذه قواعد متفق عليها “خلف عن سلف” إلا ما شذ وندر” أو لضرورة شعرية. والنادر أو الضرورة الشعرية لا حكم لهما.
ولكن فاجأتنا قراءة (شاذة) للأعمش مفادها صرف ما لا ينصرف في لغة بعض العرب بمعنى: أنه لا يوجد لديهم شيء اسمه “الممنوع من الصرف”.
هذه القراءة في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) (نوح: 23) فقد قرأ الأعمش (ولا يغوثا ويعوقا ونسرا) فصرف (يغوث ويعوق)[21] وهما ممنوعان من الصرف وقد أشكلت هذه القراءة على النحاة والمفسرين فمنهم: من وهّم قارئها، ومنهم من استبعدها، ومنهم من جعلها من باب اللحن، ومنهم من قبلها وجعلها من باب التناسب، ومنهم من جعلها على لغة صرف جميع ما لا ينصرف عند بعض العرب، وهذا الأخير هو بيت القصيد وهو ما نريده في تخريج هذه القراءة.
وهذه خلاصة أقوال بعض النحاة والمفسرين في ذلك:
قال الفراء: ولو أجريت (صرفت) لكثرة التسمية كان صوابا ولو أجريت-أيضا-كأنه ينوي به النكرة كان أيضا صوابا[22]. إذن فالفراء يرى صرفها، لكثرة التسمية أو لتنكيرها ولكن جاء النحاس[23] وتعقب الفراء وقال: هذا عند الخليل وسيبويه لحن، وهو –أيضا-مخالف للسواد الأعظم، وزعم الفراء أن ذلك يجوز صرفه لكثرته، أو كأنه نكرة وهذا ما لا يحصل، لأنه ليس إذا كثر الشيء صرف فيه ما لا ينصرف على أنه لا معنى لقوله “لكثرته” في اسم صنم، ولا معنى لأن يكون نكرة ما كان مخصوصا مثل هذا.[24]
واستبعد مكي بن أبي طالب هذه القراءة حيث قال: وذلك بعيد كأنه جعلهما نكرتين وهذا لا معنى له، إذ ليس كل صنم اسمه (يغوث ويعوق) إنما هما اسمان لصنمين معلومين مخصوصين فلا وجه لتنكيرهما[25]. وتابعه على الاستبعاد الزجاج لكونهما في وزن الفعل وهما معرفتان…[26]
وأما ابن عطية فقد اعتبرها من باب الوهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل.[27]
وأما الزمخشري فقد اعتبرها قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين، أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة…[28]
وقد جاء النحوي النحرير أبو حيان الغرناطي”–كعادته-وفصل الخطاب في المسألة، ورد على ابن عطية والزمخشري وخرج القراءة فقال: قال ابن عطية: وقرأ الأعمش:
(ولا يغوثا ويعوقا) بالصرف وذلك وهم؛ لأن التعريف لازم ووزن الفعل، وليس ذلك بوهم ولم ينفرد الأعمش بذلك بل قد وافقه الأشهب العقيلي على ذلك وتخريجه على أحد وجهين:
أحدهما: أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة وقد حكاها الكسائي وغيره.
الثاني: أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون إذ قبله “ودا” “ولا سواعا” وبعده “ونسرا” كما قالوا: في صرف “سلاسلا” و”قواريرا” لمن صرف ذلك للمناسبة. ثم ذكر كلام الزمخشري-السابق الذكر-ورد عليه بقوله: وكأن الزمخشري لم يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم فلذلك استشكلها”[29].
إذن فالخلاصة من هذه القراءة (الشاذة) جواز صرف ما لا ينصرف عند بعض العرب، أو عند عامتهم، كما أفاد أبو حيان. ولولا أن هذه القراءة أفادتنا بهذه المعلومة المهمة لبقينا على جمودنا في الممنوع من الصرف ونكون بذلك قد حجرنا على أنفسنا واسعا يستطيع الأدباء والخطباء أن يسيحوا في رحابه، وأن يتخلصوا من حاجز متين اسمه (الممنوع من الصرف” طالما أعاق ألسنتهم وأقلامهم! وهذه بحد ذاتها رخصة نحوية عظيمة وأما أقوال المانعين فمع –احترامنا لها-إلا أنه لا يعول عليها مادام وقد رُدَّت بأقوال استندت إلى لغة من لغات العرب.
_جواز تنكير اسم كان وتعريف خبرها:
من المعروف في قواعد النحو المطردة أن اسم (كان) يكون معرفة، وخبرها يكون نكرة إلا ما شذ، بل قد يكون اسم كان نكرة لأسباب ذكرها النحاة، وقد يكون خبرها معرفة لمعنى بلاغي وليس شذوذا في ضرورة الشعر! ولكن وردت قراءة “شاذة” لأبان بن تغلب والأعمش عكست هذه القاعدة وأجازت تنكير الاسم وتعريف الخبر وهذا بحد ذاته مكسب عظيم لعلماء اللغة.
هذه القراءة وردت في قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) (الأنفال:35) حيث قرأ: (صلاتهم) بالنصب و(مكاء وتصدية) بالرفع. على أن (صلاتهم) هي الخبر المقدم و(مكاء وتصدية) [30]هي اسم كان المؤخر.
وقد انقسم علماء اللغة في هذه القراءة إلى قسمين: قسم يخطئها. وآخر يجيزها ويستحسنها فمن خطأها: أبو علي الفارسي[31]حيث قال: إنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء وأخطأ في ذلك فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث ومنه قوله تعالى: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) (هود: 67) وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم) (النمل: 51) (وكيف كان عاقبة المفسدين) (الأعراف:86) ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث…”[32].
وممن خطأها –أيضا-ابن عطية، وأبو حاتم السجستاني قال ابن عطية: وهذه القراءة خطأ؛ لأنه جعل الاسم نكرة، والخبر معرفة. قال أبو حاتم: فإن قيل: إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس منكرا ومعرفا واحد في التعريف قيل: إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر كما قال حسان بن ثابت[33]-رضي الله عنه-
كأنَّ سبيئة من بيت رأس**** يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءٌ[34]
ولا يقاس على ذلك.[35]
وممن أجازها: أبو الفتح عثمان بن جني حيث قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح فإنما جاءت منه أبيات شاذة، وهو في ضرورة الشعر أعذر، والوجه اختيار الأفصح الأعرب، ولكن من وراء ذلك ما أذكره: اعلم أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب فتجد معناه معنى قولك: خرجت فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا، وإنما تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في “مكاء وتصدية” جوازا قريبا حتى كأنه قال: “وما كان صلاتهم عند البيت إلا المكاء والتصدية، أي إلا هذا الجنس من الفعل…”[36] وكذلك أجازها الزمخشري حيث قال: فإن قلت ما وجه هذا الكلام قلت هو نحو قول الشاعر:
وما كنت أخشى أن يكون عطاءَه*** أداهمُ سوداً أو مُحَدرَجَةٌ سمرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة…[37] وممن أجاز هذه القراءة أبو حيان الغرناطي حيث قال: وخرجها أبو الفتح على أن المكاء والتصدية اسم جنس، واسم الجنس تعريفه وتنكيره واحد”[38] إذن فأبو حيان تابع ابن جني وتخريجه للقراءة بدون إضافة جديد إليها.
وانطلاقا من هذا فإننا قد خرجنا بقاعدة نحوية مفادها:
جواز تنكير اسم (كان) وتعريف (خبرها) وهذا يدل على بعد قعر هذه اللغة وعلى ثراء قاموس مفرداتها، وأنا لا زلنا بحاجة ماسة إلى دراسة علم “القراءات” بشكل خاص وعلم “اللغة” بشكل عام حتى نكتشف الكثير والكثير من عجائب وغرائب لغة القرآن.
ـ جواز تحريك الساكن بالضم:
من المعروف أنه إذا التقى ساكنان في كلمة أو كلمتين فالواجب التخلص منهما-ما لم يكن ذلك في موضع من المواضع المغتفر فيها التقاؤهما – والتخلص منها دائما يكون بالتصرف في أولهما، إما بحذفه، وإما بتحريكه؛ والكسر هو الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.[39]
وتعليل ذلك أنه إذا كان الساكن الذي تحركه في الفعل كسرته، لأنك لو فتحته لالتبس بالفعل المنصوب، ولو ضممته لالتبس بالفعل المرفوع، فإذا كسرته علم أنه عارض في الفعل لأن الكسر ليس من إعرابه. وإن كان الساكن الذي تحركه في اسم كسرته، لأنك لو فتحته لا لتبس بالمنصوب غير المنصرف، وإن ضممت التبس بالمرفوع غير المنصرف فكسرته لئلا يلتبس بالمخفوض، إذ كان المخفوض المعرب يلحقه التنوين لا محالة. فلذلك كان الكسر اللازم لالتقاء الساكنين:[40]
وقد وجه علماء اللغة هذه القراءة: بأنه جاز الضم لأن الضم من جنس الواو…[41] وأنه فر من ثقل الكسرة على الواو وشبهه بواو الجمع وواو جماعة ضمير المذكرين، فضمت كما ضمت كقوله تعالى: (فتمنوا الموت) (الجمعة:6).[42]
فلولا وجود هذه القراءة (الشاذة) لما استسغنا التحريك بالضم؛ لكونه ثقيلا على السمع واللسان، إضافة إلى عدم تعودنا عليه، وذلك لبعدنا عن قواعد الفصحى واستبدالها بلهجات دراجة هجينة، وبهذه القراءة فتحت لنا نافذة نطل منها على قاموسنا اللغوي الثري بمفرداته، وبها أتيح للأدباء والشعراء أن يحركوا الساكن بالضم، ويلونون به نثرهم وشعرهم، فالتحريك بالضم من صميم لغتهم.
الخاتمة:
وفي ختام هذه الدراسة، أذكر على سبيل الإيجاز بعض الخلاصات المتوصل إليها:
ـ للقراءة الشاذة نصيب وافر في كتب النحو والمعاني، فقد عني بها النحاة، وبنوا من خلالها قواعد نحوية وصرفية كثيرة.
ـ للقراءة الشاذة أثر بليغ في الفقه، واللغة، والأحكام الشرعية…
ـ إن القراءات القرآنية متواترها وشاذها من أهم العلوم التي ينبغي الاعتماد عليها والوقوف عندها، في اللغة، والتفسير، والأحكام.
ـ إن القراءة الشاذة هي المورد العذب السائغ شرابه-بعد القراءة المتواترة-لإثراء ما يستشهد به في اللغة، والنجو، والأدب. فقد وفرت للعلماء الجهد الكبير في البحث والتنقيب عن شعر “العصر الجاهلي” للاستشهاد بلغة ما، أو قاعدة صرفية، أو بيان معنى غامض.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- -القرآن الكريم برواية ورش عن نافع
- إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، الأحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي (ت 1117هـ) وضع حواشيه: حسن مهرة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419هـ-1998م.
- إعراب القرآن، لأبي جعفر أحمد بن اسماعيل النحاس (ت 338) وضع حواشيه وعلق عليه، عبد المنعم خليل ابراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421، 2001م.
- الإصباح في شرح الإقتراح، لمحمود فجال، دار القلم، ط1، 1409هـ.
- البحر المحيط، لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ) تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي معوض ومجموعة، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422هـ-2001م.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، لجلال الدين عبد الرحمان السيوطي (ت 911هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، مكتبة العصرية صيدا بيروت.
- التبيان في إعراب القرآن، لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616هـ) تحقيق: سعد كريم الفقي دار اليقين، ط 1، 1422هـ-2001م.
- الحجة للقراء السبعة، لأبي علي بن عبد الغفار الفارسي، (ت 377) تحقيق: بدر الدين قهوجي، وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث، ط 1، 1411هـ-1991م.
- الحجة في القراءات السبع، للحسين بن أحمد بن خالوية (ت 370 هـ) تحقيق: عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 5، 1410-1990م.
- سير أعلام النبلاء لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت 748هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط غيره، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1401هـ-1981م.
- صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ) راجعه وضبطه: محمد علي القطب وهشام البخاري، المكتبة العصرية صيدا بيروت، ط 1، 1493هـ-2002م.
- غاية النهاية في طبقات القراء، لأبي الخير محمد بن محمد الجزري (ت 833هـ)
- غيث النفع في القراءات السبع، لعلي بن محمد الصفاقسي (ت 1118هـ) دار الفكر بيروت، ط 1995م) ضمن كتاب سراج القارئ المبتدئ.
- كتاب سيبويه لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 1.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538) حققها وخرج أحاديثها: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1417هـ-1997م.
- الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق محي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، ط 1418هـ-1997
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لأبي الفتح عثمان بن جني (ت 392) تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1419هـ-1998م.
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت 541هـ) تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،1413هـ-1993م
- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين عبد الرحمان السيوطي (ت 911هـ) شرحه وضبطه محمد أحمد جاد المولى وغيره، دار الفكر بيروت.
- مشكل إعراب القرآن لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437) تحقيق: ياسين محمد السواس، اليمامة للطباعة والنشر، دمشق، ط 2، 1421-2000.
- معاني القرآن، لأبي زكرياء بن زياد الفراء، (ت 207هـ) عالم الكتب ط،2، 1403هـ1983م.
- معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق ابراهيم الزجاج (ت 311) تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب بيروت، ط 1، 1408هـ-1988م.
[1] – رواه الإمام البخاري. باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (حديث رقم:4736)
[2]– غيث النفع في القراءات السبع، لعلي بن محمد الصفاقسي (ت1118ه) دار الفكر بيروت، ط1995م: 5.
[3]– الإصباح في شرح الاقتراح، لمحمود فجال، دار ار القلم، ط1، 1409 ه، ص 67-68.
[4]– اللهجات العربية في القراءات القرآنية، لعبد الراجحي، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية،1995م: ص 204.
[5]– نفس المصدر:81.
[6]– المحتسب في تبيين وجوه القراءات والإيضاح عنها، لأبي الفرج عثمان بن جني (ت392ه) دار الكتب العلمية بيروت، ط1،1419ه-1998م. 1/32.
[7]– معاني القرآن، لأبي زكرياء بن زياد الفراء(ت207ه) عالم الكتب ط2 ،1403ه 1983م،1/14
[8]– الحسين بن أحمد بن خالويه بن حمدان النحوي اللغوي، أخذ القراءة عرضا على ابن مجاهد، وابن الأنباري وأخذ النحو والأدب على ابن دريد ونفطويه وأبي بكر بن الأنباري، كان أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام العلم والأدب، وكانت الرحلة إليه من الآفاق وكان ثقة مشهورا توفي عام 370هـ (غاية النهاية، 1/237 بغية الوعاة، 1/529).
[9]– المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين عبد الرحمان السيوطي (ت 911هـ) شرحه وضبطه محمد أحمد جاد المولى وغيره، دار الفكر بيروت، 1/13.
[10]– سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، الملقب بسيبويه، إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، قدم البصرة ولزم الخليل بن أحمد وصنف كتابه المسمى “كتاب سيبويه” في النحو، لم يصنف قبله ولا بعده مثله توفي بشيراز سنة 180 هـ (بغية الوعاة، 2/229).
[11]– وهي قراءة “عيسى بن عمر” ينظر: مختصر ابن خالوية: 38، المحرر، 2/187.
[12]– كتاب سيبويه لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1/144، “بتصرف”.
[13]– إعراب القرآن، لأبي جعفر أحمد بن اسماعيل النحاس (ت 338) وضع حواشيه وعلق عليه، عبد المنعم خليل ابراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421، 2001م، 3/91-92.
[14]– محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري، أبو العباس المبرد إمام العربية في زمانه، أخذ عن المازني، وأبي حاتم السجستاني وكان فصيحا بليغا مفهوما ثقة وله من التصانيف “معاني القرآن”، “الكامل”، “المقتضب” وغيرها توفي عام 285 هـ (بغية الوعاة، 1/269).
[15]– مختصر ابن خالويه: 47 والصحيح أن هذه قراءة متواترة (عشرية) نسبت ليعقوب الحضرمي ينظر: الإتحاف: 278.
[16]– المقتضب لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، 2/185.
[17]– المقتضب،2/44-45، وهذه أيضا قراءة متواترة (عشرية) رويت عن رويس وعن يعقوب الحضرمي، ينظر: الاتحاف: 315.
[18]– أبو السمال: قعنب بن أبي قعنب، بفتح السين وتشديد الميم وباللام، العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذة عن العامة. (غاية النهاية، 2/27).
[19]– مختصر ابن خالويه: 149.
[20]– المحتسب، 2/350.
[21]– إعراب النحاس، 5/711-712، الكشاف،4/622، البحر ،8/336.
[22]– معاني الفراء، 3/189.
[23]– أحمد بن محمد بن إسماعيل يعرف بابن النحاس من أهل الفضل الشائع والعلم الذائع أخذ علم اللغة عن الأخفش الأصغر والمبرد ونفطويه والزجاج وصنف كتبا كثيرة منها (إعراب القرآن) و(معاني القرآن) وغيرها توفي عام 338 (بغية الوعاة،1/362).
[24]– إعراب النحاس، 5/29.
[25]– مشكل إعراب القرآن لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437) تحقيق: ياسين محمد السواس، اليمامة للطباعة والنشر، دمشق، ط 2، 1421-2000.
، 2/711-712.
[26]– معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق ابراهيم الزجاج (ت 311) تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب بيروت، ط 1، 1408هـ-1988م، 5/231.
[27]– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت 541هـ) تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،1413هـ-1993م، 5/376.
[28]-الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538) حققها وخرج أحاديثها: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1417هـ-1997م.4/622.
[29]– البحر المحيط، لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ) تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي معوض ومجموعة، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1422هـ-2001م.، 8/336.
[30]-المحتسب،1/394، إعراب النحاس،2/97، الكشاف، 2/207.
[31]– الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي كان إمام وقته في علم النحو صحب عضد الدولة ابن بويه وتقدم عنده وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي الفارسي في النحو، توفي عام (377هـ). (وفيات الأعيان ،2/80).
[32]– الحجة للقراء السبعة، لأبي علي بن عبد الغفار الفارسي، (ت 377) تحقيق: بدر الدين قهوجي، وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث، ط 1، 1411هـ-1991م،4/145 المحرر،2/523.
[33]– حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري، يكنى أبا الوليد شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة ومات في خلافة معاوية وعمي في آخر عمره (الشعر والشعراء:170).
[34]– الكتاب لسيبويه،1/49.
[35]– المحرر،2/523.
[36]– المحتسب، 1/394-395.
[37]– الكشاف،2/207.
[38]– البحر،4/486.
[39]– التخريجات النحوية لقراءة الأعمش لسمير عبد الجواد: 345.
[40]– الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق محي الدين رمضان، مؤسسة الرسالة، ط 1418هـ-1997، 1/38.
[41]– معاني القرآن للزجاج،3/275، إعراب النحاس، 2/291، التبيان في إعراب القرآن للعكبري،2/534.
[42]– المحتسب،1/409، البحر،5/47.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *