خطأ في الحياة
قصة قصيرة
يخفت ضوء القنديل شيئا فشيئا، و يخفت معه صوت الرضيع ، تتراخى شفتاه عن ثدي أمه، نم بسلام، قبل أن تقض مضجعك الآلام و الأوهام ، نم يا حبيب نااااام.
نام الرضيع، ورجاء تكتم أنينها، تخنقها غصة الألم و الضياع، تكفكف دمعها بفقد الرجاء و العزم على الموت بدل الحياة، حملت رجاء الرضيع إلى زاوية مظلمة من الغرفة الخربة، جعلت جلبابها الرمادي له فراش، و قماش رأسها له غطاء، أما وسادته، فلم تكن من قطن أو ليف أو حرير، بل كانت مخدة لحم و دم، إنها يدها العارية.
خفت صوت المدينة، سكنت الحركة، إلا من دوي بعض السيارات في جوف الليل، هدأ كل شيء، لكن قلب رجاء لم يهدأ، سكن كل شىء في الوجود، لكن رجاء لازال خيالها يجول العالم، يرسم صورا ثم يمسحها، صورا للحياة المقبلة، أي حياة ، تتصور أسوأ حالاتها في المستقبل، ثم يداعبها بعض الأمل، فتنقلب الصورة رمادية بين السواد و البياض، تهجم عليها فجأة موجة من التفاؤل، فتسرح فيها، لكن سرعان ما تنظر إلى الجدار المهدم من حولها ، و الرضيع مغمض العينين بجنبها ، فتلطمها أمواج الظلام، ويسود كل شيء من جديد في عينها.
بقيت رجاء طوال الليل بين الحلم و الواقع، ترسم و تمحي، تحاول النسيان لكن ذاكرة نسيانها ماتت مع موت زمانها، أبى النوم أن يزورها تلك الليلة، إنها ليلة ليست كالليالي، إنها ليلة الحسم، آخر ليلة في حياتها، قد يكتب الله لها البقاء، لكنها حتما ستكون أسوأ ليلة في عمرها، تلاطمتها أمواج الظلام، و تمكن اليأس من قلبها، و فقدت رجاء الأمل و الرجاء، فأصبحت لا تفكر إلا في وضع نهاية لحياتها، أو أن تئد حياة غيرها قبل بدايتها، لكنها في الأخير حياتها، بل فلدة كبدها.
أفلت نجوم تلك الليلة وغاب القمر ، ساد الظلام في كل الأرجاء، فأصبحت رجاء لا ترى رضيعها إلا بنور قلبها، إنه ليل دامس و حياة مظلمة، ليلة من ليالي شتاء فاس، برد قارس و ظلام دامس، و لا من يواسي أو يآنس.
لحسن الحظ أنها لم تمطر تلك الليلة، ما أصعب أن تواجه ظلمتين، بل ظلمات في آن واحد، يزيد الهم هموم، و ينعق الغراب في ذلك الليل البهيم، و تلتقط أذن رجاء صوت البوم، فيطير لبها خوفا على رضيعها ، تحضنه بين دراعيها بحرارة الأمومة، و تغطيه بصدرها وشعرها حتى يسكن الصوت، ثم تعاود خيالات فكرها تراودها، و يتملكها اليأس من جديد، تعود الأحزان إلى قلبها، تنسد أمامها أبواب الرجاء، و تتقلب الأفكار والأوهام في رأسها و يعاودها الحزن والألم.
فجأة، و دون سابق إنذار، داعب النوم أجفانها، غلبها بسرعة فائقة، نامت عيون رجاء، عساها تجد في عالم الأحلام ما فقدته في واقع الحياة.
الله أكبر ، اللااااااه أكبر… . إنه آذان الفجر، يشق مسامعها ، ثم تلاه صوت الديك ، نعم إنه صباح يوم جديد، التفتت إلى رضيعها، فإذا هو بسلام، نظرت إليه نظرة المودة
فسبقتها دموع العين، نظرت إليه نظرة البراءة، و لاحت لها في عينيه الصغيرتين أشياء كثيرة، لم تستطع فهمها، لكنها انقدحت في لب عمق قلبها، حملقت فيه كثيرا، و ما استطاعت الانتصار على دموعها، أخذت نعليها في رجليها، و نظرت من على جدار تلك الخربة، التي احتضنتها تلك الليلة، لم ترى أي أثر للحركة أو الحياة، كل سكان المنطقة نائمون، إلا صوت يتسرب من صومعة بعيدة في الطرف الآخر، أرغم أذنها على الإصغاء، و إذا بكلام عظيم لم يسبق لها سماعه، بل لم يسبق الإنصات إليه و لم يشق صدرها من قبل، كان يتسرب إلى سويداء قلبها “…يا أيها الذين آمنوا، لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم…”. لم تستطع تمالك نفسها، انهمرت دموع قلبها وعينها معا، لكنها خشيت أن يفضحها النهار، فسارعت في إعداد نفسها للرحيل.
لبست قميصها الذي كانت تضعه فوق رجليها في ليلتها الماضية، حاولت الخروج لكن حنين قلبها ، كان قد كبلها، هل تترك رضيعها، أي مستقبل سيكون له وأي حياة؟ قد تتسرب إليه الموت، قد تأكله الكلاب … لكن لا حيلة لي، هكذا أريد بي.
تجشم وجهها، تمالكت نفسها من جديد، حاولت الخروج، لكن دموع عينيها تسربت إلى قدميها فتكبلت…، ماذا ستفعل…؟ فجأة سمعت صوت أقدام تقترب نحو خربتها، أشرفت من فوق السور، إذا بأقدام المصلين راجعين من المسجد، اختبأت عن عيونهم، لكنها أدركت أن الوقت يداهمها، و لا يسمح بالتأخر، حاولت ألا تنظر الى ولدها من جديد حتى لاتعاودها العواطف المرة، انتظرت حتى اختفى أثر القوم .
حاولت الخروج لكن غلبتها عينها خلسة، فاسترقت نظرة الى الوليد، فكان سهمه في قلبها قاتل، وتوالت عليها الهزائم، واختطفت منها قدميها خطوتين اليه، وانحنت شفتيها الى جبينه، أخدت منه قبلة الوداع وهو نائم، انها قبلت الوداع، ما أمرها . وقبل أن تنهظ من جديد، هجمت عليها فكرة تسميته، أحبت أن تكون هي مسميته، لكنها لم تجد من يحفظ له اسما، ولا كيف تخبر به من سيكتب له الحياة معه، حتى القلم لا تحمله، وتوالت عليها الأفكار تقترح عليها الوسائل. في الأخير أخدت قصبة من أرض الخربة وخطت على ضوء أول شعاع للفجر اسم “سعيد”.
خرجت مسرعة، حاولت ألا تلتفت الى الخربة، خرجت وهي مصممة على ما ستفعله.
لم يكن هدفها بالبعيد؛ فلم تمشي إلا عشرات الأمتار حتى انتهت الى الهدف، انها قنطرة الواد، و دون أن تفكر أو تتردد ألقت نفسها من علياء دون أن يرف لها جفن، و نادت بأعلى صوتها “سعييييييييييييييييييييييييييييييييييييييد”.
أصبح أهل القرية على خبر جسد ألقاه الماء، مغطى بثوب أبيض نقلته سيارة الاسعاف الى قسم المستعجلات. ماتت رجاء و عاش الصبي.
لا لم تمت رجاء .
سلام مفتاح الخير
26ـ 02ـ2010
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *