درس المؤلفات وسؤال المواكبة المعرفية والموضوعية:
د: عبدالله شكربة
تمهيد:
مما لا شك فيه أن درس المؤلفات يعتبر أهم درس يميز المرحلة التأهيلية في التعليم المدرسي، ذلك أنه ينقل المتعلم من التعامل مع المقررات والكتب المدرسية إلى التعامل مع الكتب النقدية والإبداعية، كما أنه يسافر بالمتعلم من النصوص المختارة وفق برنامج تعليمي إلى التعامل مع كتاب كامل، بالإضافة الى كونه قد يكون أولى التجارب القرائية للمتعلم.
يقدم درس المؤلفات للمتعلم في المرحلة التأهيلية ستة كتب تختلف مجالاتها بين الإبداعي والنقدي، بمعدل كتابان في السنة، وكتاب في الدورة؛ أي أن التلميذ وخلال ست دورات يقرأ ستة كتب؛ وهذه قيمة إيجابية تنضاف إلى باقي الصفات الايجابية أعلاه.
سنناقش في هذا المقال ثلاث قضايا أساسية هي: التنوع الجنسي، والملاءمة الموضوعية، والملاءمة المعرفية.
أولا: التنوع الجنسي أو الاجناسي[1] : يتميز درس المؤلفات من خلال النماذج المختارة بالتنوع الجنسي( الأجناس الأدبية) حيث يضم أربعة أجناس هم: الرواية، السيرة الذاتية، المسرحية، الكتاب النقدي.
في السنة المشتركة (الجذع المشارك الآداب) يتعرف المتعلم على جنسين أدبيين هما الرواية والمسرحية، حيث يتم تدريس رواية “الحي اللاتيني” لسهيل ادريس في الدورة الأولى، بينما الدورة الثانية يدرس المتعلم مسرحية “ابن الرومي في مدن الصفيح” لعبدالكريم برشيد، أو “سهرة مع أبي خليل القباني” لسعد الله ونوس.
في السنة الموالية ( الأولى باك آداب) يتعرف المتعلم في الدورة الأولى على كتاب نقدي هو “الأدب والغرابة” لعبدالفتاح كيليطو، بينما في الدورة الثانية يدرس المتعلم السيرة الذاتية” الرحلة الأصعب” لفدوة طوقان.
أما السنة الأخيرة من التعليم التأهيلي ( الثانية باك آداب) فيتعرف المتعلم على كتاب نقدي آخر هو ” ظاهرة الشعر الحديث” لأحمد المعداوي، والدورة الثانية يدرس المتعلم رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ.
من ناحية التنوع الجنسي فدرس المؤلفات يقدم للمتعلم فرصة التعرف على أربعة أجناس أدبية، لكل جنس خصوصيته الفنية وبنيته الأدبية، وهذه ميزة مهمة ينبغي الحفاظ عليها.
ثانيا: الملائمة الموضوعية:
تعالج الكتب المقدمة للمتعلم في مقرر درس المؤلفات مواضيع مختلفة، بعضها ملائم ومناسب من حيث الموضوع؛ ذلك أنه يتوفر على الجدة والجدية، وبعضها يفتقد الى الجدة، حيث صارت مواضيعه مبتذلة ومكررة، وسنبسط لمحة عامة موضوعية عن درس المؤلفات من خلال المواضيع المختارة بشكل تصاعدي بدء من السنة المشتركة وختاما بالسنة الثانية البكالوريا.
أ: رواية الحي اللاتيني:
الحي اللاتيني رواية كتبها سهيل ادريس في خمسينيات القرن الماضي، وتتناول الرواية قضية العلاقة بين الشرق العربي والغرب الأوربي، خاصة تصور الطلاب العرب للمرأة الغربية المنفتحة والمتاحة بسهولة، حيث تركز الرواية على الطلاب العرب الذين ذهبوا إلى فرنسا من أجل استكمال الدراسة ولكنهم انشغلوا بالملاهي الليلية والعلاقات العاطفية والغرامية مع نساء فرنسا، وتهتم الرواية أساسا بالبطل -الذي لم يختر له سهيل ادريس اسما- وعلاقته بجانين؛ علاقة عاطفية غرامية ابتدأت بالحب والمشاعر النبيلة، وانتهت بمأساة بعد تنكر البطل لجانين وطفلها.
إن موضوع العلاقة بالمرأة وتصوير الكبت العربي لم يعد موضوعا له راهنية وجدوى بعد التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي عرفها المجتمع العربي، ذلك أن تلك الصورة النمطية عن المرأة الغربية أو المرأة العربية، وبشكل أعم المرأة الغربية والمرأة المشرقية لم تعد متاحة بالطريقة التي تقدمها الرواية بفعل العولمة والانفتاح الثقافي وتداخل القيم، فقد صيرت العولمة الإنسان؛ -أيا كان هذا الإنسان وفي أي مكان- وسيلة انتاجية يستهلك كل شيء؛ المنتجات والثقافة والقيم، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة قد فتحت الحدود وجعلت الثقافة عابرة للقرات.
صحيح أن الرواية ممتازة فنيا؛ فهي مادة سردية غنية تتيح للناقد والدارس تطبيق تقنيات السرد والعناصر الأساسية المكونة للرواية بيسر وأريحية، ولكنها من الناحية الموضوعية لا تواكب التحولات الثقافية والقيمية والاجتماعية التي عرفها المجتمع العربي.
ب: مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح:
تقدم المسرحية مشهدا احتفاليا يرصد الواقع الاجتماعي المتناقض الذي يعيشه سكان الصفيح والمدن الهامشية الفقيرة، في قالب حكائي يقدمه لنا الحكواتي دانيال وابنته دنيازاد فوق خشبة المسرح، مشهد تمثيلي يقدم لنا قصتين تختلفان من حيث الزمن ويتماثلان في الموضوع، فقصة الحاضر شخصياتها هم سعدان وحمدان ورضوان، وهي أسماء تعكس الرضى والحمد والسعادة، ولكن الواقع عكس ذلك، فهم في فقر وتهميش ويسكنون في مدن الصفيح ومهددين بالهدم، أما شخصيات الماضي فهم ابن الرومي ودعبل الأحدب وجحظة المغني وأشعب المغفل والجارية عريب، بالإضافة الى شخصيات أخرى وهي شخصيات تعبر أسماؤها عن واقع الظلم والقهر الذي يعيشونه اسما وواقعا.
استطاع برشيد أن يستثمر التراث استثمار جيدا يعبر به عن الواقع المعاش، لذلك فإن المسرحية ممتازة من الناحية الموضوعية والفنية.
ج: كتاب الأدب والغرابة:
يعد كتاب الأدب والغرابة من الكتب النقدية الأولى لعبد الفتاح كيليطو والتي يطبق فيها المناهج النقدية الحديثة على الثقافة العربية الكلاسيكية.
ينقسم كتاب الأدب والغرابة إلى قسمين، وكل قسم يحتوي على خمسة فصول إلى حد ما متوازية. فالقسم الأول خصصه الكاتب لشرح بعض المفاهيم والمصطلحات النقدية كالنص والأدب والشاعر وتاريخ الأدب وقواعد السرد والنوع الأدبي، والثاني خصصه لبعض التطبيقات النصية حول الثقافة العربية الكلاسيكية تفسيرا وتأويلا (الحريري، الزمخشري، ألف ليلة وليلة، الجرجاني).
يناقش كيليطو هذه القضايا بعمق كبير يتجاوز حدود فهم المتعلم واستيعابه لطريقة طرح الكاتب لهذه القضايا النقدية، لذلك يجد المدرس صعوبة كبيرة في افهام المحتوى المعرفي بالكتاب.
إن كتاب الأدب والغرابة هو أعمق ودقيق، لذلك فإنه يحتاج متلقي له من الكفايات المعرفية التي تمكنه من فهم واستيعاب مرماه، ولأن الأمر غير متاح اطلاقا لمتعلم يشق طريقه في بدايات القراءات النقدية، فإن هذا الكتاب من الناحية الموضوعية فوق طاقة المتعلم، ذلك أنه يشكل اشكالا مزدوجا؛ الأول مرتبط بالتلميذ، والثاني متعلق بالأستاذ الذي يجد صعوبة في إفهام المتعلم.
د: السيرة الذاتية: الرحلة الأصعب:
تعبر السيرة الذاتية” الرحلة الأصعب” للشاعرة والكاتبة فدوى طوقان عن مجموعة من القضايا المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ذلك أن الكاتبة عايشت أهم الأحداث التي أثرت في مسار القضية الفلسطينية؛ منذ الاحتلال سنة 1948، مرورا بالنكسة والهزيمة النكراء سنة 1967 وما تلاها من محن ومآسي مر بها الشعب الفلسطيني.
تقربنا “الرحلة الأصعب” من هذه المآسي وتقدم لنا صورة مصغرة عن واقع الألم والاضطهاد والغربة التي عاشها الشعب الفلسطيني.
تسجل الكاتبة في “الرحلة الأصعب” جوانب مختلفة من المعاناة واجهها الفلسطينيون بكل فئاتهم و أعراقهم، رجالا ونساء، بكل عزم وتحدي منقطعين النظير. كما تقدم الكاتبة تصورها وموقفها من مختلف جوانب القضية الفلسطينية.
السيرة تقرب المتعلم من أم القضايا الانسانية والإسلامية التي عرفها القرن العشرين، وهي إن كانت تحتكم الى تصورات الكاتبة وقناعاتها -التي قد نتفق معها أو نختلف- فإنها تظل مهمة، سواء تعلق الأمر بطبيعة موضوعها، أو بطبيعتها الجنسية (الجنس الأدبي) باعتبارها المؤلف الوحيد الذي ينتمي إلى السيرة الذاتية.
ت: كتاب ظاهرة الشعر الحديث:
كتاب ظاهرة الشعر الحديث للمجاطي هو كتاب نقدي يدرس الشعر الحديث دراسة تحليلية موضوعية من خلال أربعة فصول أساسية؛ ففي الفصل الأول قدم الكاتب سيرورة تاريخية حول تطور الشعر العربي مشيرا إلى الشعر العربي العمودي والتجربة الإحيائية ومركزا أساسا على التجربة الذاتية التي تناولها موضوعيا من خلال مدارسها الثلاث ( جماعة الديوان، تيار المهجر، جماعة أبولو) كما درسها شكليا حيث ركز على الصورة الشعرية والوحدة العضوية وتعدد الأوزان والقوافي وبساطة اللغة.
في الفصل الثاني والثالث ركز على مضمون الشعر الحديث وروافده والتأثيرات السياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع العربي وأثرت فيه كنكبة فلسطين، حيث تناول موضوعين أساسيين هما: الغربة والضياع، وتجربة الحياة والموت.
في الفصل الثاني قدم أربعة تجليات للغربة؛ هي الغربة في الكون، الغربة في المدينة ، الغربة في الحب، الغربة في الكلمة، بينما في الفصل الثالث تناول تجربة الحياة والموت من خلال أربعة شعراء هم : بدر شاكر السياب، وأدونيس، والبياتي وخليل حاوي.
أما الفصل الرابع والأخير فقد خصه لدارسة التغيرات الشكلية التي مست القصيدة الحديثة ودواعيها الفنية والموضوعية، فقد تناول ثلاث قضايا هي اللغة، والإيقاع الموسيقى، والصورة الشعرية.
موضوعيا الكتاب ملائم ومفيد للتلاميذ، ذلك أنه يواكب المتعلم معرفيا ويعزز معلوماته ويثبت ما درسه في درس النصوص، حيث هناك تكامل وتماثل بين درس المؤلفات والنصوص.
ث: رواية اللص والكلاب:
رواية اللص والكلاب تتركز أساسا حول شخصية سعيد مهران الذي احترف اللصوصية نتيجة وضعية اجتماعية عاشها بعد وفاة أبيه وأمه، لكنه تعرض للخيانة من أقرب الناس إليه زوجته نبوية وصديقه وتلميذه عليش وأستاذه في الحياة رؤوف علوان الذي تنكر له ولصداقته؛ فدخل في مسلسل الانتقام من الخونة واختار الطريق الخطأ، لينتهي مسلسله بالموت قتلا برصاص الشرطة التي حاصرته في المقبرة.
الرواية تعالج موضوعا اجتماعيا يعكس الصورة والبيئة المجتمعية التي عرفتها مصر بعد ثورة 1952، فقد اهتمت بتصوير وقائع التحولات الاجتماعية المتناقضة، حيث حرص نجيب محفوظ على إظهار واقع الازدواجية وانقلاب المعايير المجتمعية؛ فنبوية وهو اسم يرمز الى الطهارة والوفاء قدمها الكاتب في صورة الخيانة، بينما نور التي تمتهن مهنة مشينة ومرفوضة قانونيا وشرعيا ومجتمعيا تحلت بقيم الوفاء.
إن هذه الصورة المتناقضة التي قدمها الكاتب وإن كانت موجودة واقعا، فإنها لا تقدم صورة كاملة عن الواقع، فالوفاء صفة ثابتة وقائمة في كل الأزمان والأماكن؛ وهي من القيم التي تحتاج الى الدعم والترسيخ والتشجيع عليها من خلال نماذج هي موجودة في الواقع، بينما الرواية ركزت أساسا على واقع الخيانة من خلال حجمها في النص، ذلك أنها الحدث الأبرز في الرواية، والذي سيؤثر في مجرى الأحداث التي اتخذت طابعا مأساويا ودراميا.
إن تعزيز القيم الايجابية والتحفيز عليها وبناء تمثلات إيجابية حولها من النتائج التي ينبغي تعزيزها في درس المؤلفات، لذلك نرى أن الرواية ومن زاوية موضوعية قيمية تحتاج إلى مراجعة.
ثالثا: الملائمة المعرفية:
السؤال المطروح هنا هل يقدم درس المؤلفات صورة متكاملة عن المعرفة الأدبية التي ينبغي استيعابها في هذه المرحلة التعليمية؟ ماهي هذه المعرفة الأدبية؟ وما حدودها؟ وهل درس المؤلفات معني أن يلم من خلال مقرراته بكل هذه المعارف؟
من المفروض أن تقدم لنا المرحلة التعليمية التأهيلية صورة عامة عن المعرفة الأدبية، فيتعرف المتعلم على الشعر بكل أنواعه ومدارسه، ومظاهر التغير والتجديد الذي عرفه خلال حقبه الطويلة، فلابد من الإشارة الى تاريخ الأدب العربي عموما والشعر خصوصا، وإشارة الى التجربة النقدية العربية القديمة والحديثة.
إن درس المؤلفات ليس وحده المعني بهذه المعرفة، وإنما يشكل تكاملا مع درس النصوص الذي يعتبر الركيزة الأساسية في بناء المعرفة الأدبية للمتعلم في المرحلة التأهيلية.
صحيح أن درس النصوص والمؤلفات في المرحلة التعليمية التأهيلية يقدمان معرفة أدبية تشمل الشعر والسرد والنقد والمقامة والمقالة والمناظرة والخطابة والرسالة والشعر العمودي والشعر الحديث والمدارس…الخ ولكن هذه المعرفة في نظرنا تحتاج إلى التقويم والتقليم والغربلة بغية تجويدها وتحسينها حتى نقدم متعلما يتملك المعرفة الأدبية ولو في حدودها الدنيا.
من هذا المنطلق، وبرؤية تكاملية بين درس النصوص ودرس المؤلفات فإننا نرى أن كتاب “الأدب والغرابة” لا ينسجم مع هذه الرؤية؛ ذلك أنه من جهة عميق عمقا يتجاوز أفهام المتعلمين في مرحلتهم المدرسية، ومن جهة ثانية لا يقدم تكاملا للمعرفة الأدبية المناسبة والقاصدة.
ولذلك فإننا نقترح تغيير هذا الكتاب بكتاب آخر يتناول خصائص الشعر العمودي ومدارسه ومراحله التاريخية، فكما أن المتعلم يتلقى كتابا نقديا يدرس الشعر الحديث من المهم أن يدرس المتعلم كتابا آخر عن الشعر العمودي.
خاتمة:
كانت هذه محاولة بسيطة حول درس المؤلفات ركزنا فيها على ثلاث قضايا اعتبرناها أساسية ومهمة، وهي محاولة تنطلق من واقع التجربة والممارسة السنوية والتعامل النقدي المستمر مع هذه المؤلفات خلال مسيرتنا المهنية.
لقد كانت غايتنا الأساسية هي تقديم ما تبين لنا من خلاصات نعتبرها مهمة حول درس المؤلفات بغية تجويده وتحسينه في أفق التعديلات المنتظرة حول المناهج والمقررات الدراسية.
المراجع:
أحمد المعداوي، كتاب ظاهرة الشعر الحديث، شركة النشر والتوزيع الدار البيضاء ط 2007
نجيب محفوظ ،رواية اللص والكلاب، مكتبة مصر،
عبدالفتاح كيليطو، كتاب الادب والغرابة، دار توبقال للنشر، ط 2010
فدوى طوقان السيرة الذاتية، الرحلة الأصعب، دارالشروق للنشر والتوزيع ط: 2007
سهيل ادريس، رواية الحي اللاتيني، دار الاداب بيروت ط 2017
عبدالكريم برشيد، مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح، مجلة الآداب، بيروت 1978
[1] العربية لا تنسب الى الجمع لكن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أجاز ذلك
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *