سناء إدمالك
دعوة للتأمل
… ما زلت متمسكا بشكل كبير بمعرفة أسرار هذا الكون العجيب، إننا نحن الآدميين مدعوون جميعا إلى التأمل في مكونات الأرض التي نسكنها، والتعرف على أسلوب حياة المخلوقات التي نحيا معها، إن ما يزيد من دهشتي ويغذي فضولي أن أتعرف إلى طريقة عيش الكائنات الاجتماعية الذكية التي نستمد منها الأسرار والحكم والعلوم والفنون…
لقد دفعني حبي للمعرفة والتعلم أن أشارك زملائي بالفصل في إعداد بحث حول عالم الحشرات… لم يكن من السهل التوافق حول العينة التي سندرسها، فإيناس وتسنيم كانتا تميلان لاختيار الفراشات بألوانها الزاهية، بينما علاء وجمال فضّلا الجراد باعتباره أكثر إثارة.
قالت إيناس بحماس:
- الفراشات هي الخيار الأفضل! ألوانها جميلة، وحركاتها في الهواء تشبه الرقصات.
ردّ جمال مبتسمًا:
- لكن الجراد أقوى وأكثر إثارة! تخيلي فقط … كيف يستطيع القفز لمسافات طويلة والتغلب على العقبات العصيبة.
كان من الصعب إقناعهم بتوحيد الرؤى، فقررت دعوتهم إلى تأمل حياة النمل، فهو الكائن الأكثر انتشارا على هذه البسيطة … ينتشر في جميع القارات، ماعدا القارة القطبية، لذلك أعددت ورقة أشيد فيها بعظمة هذا الكائن النجيب، لعلّ الجميع يوافق على هذا الاختيار.
استحضرت بعض المعطيات عن حياة النمل، وتقدمت إليهم بكل ثقة أقول:
- ماذا لو اخترنا شيئًا مختلفًا تمامًا؟ ماذا عن النمل؟ إنه مخلوق صغير، لكن حياته مليئة بالغموض والأسرار.
ساد الصمت للحظة، ثم قال علاء متأملًا:
- النمل؟ لم أفكر فيه من قبل. أتعلمين يا تسنيم أن شكل النملة قد يبدو مرعبًا ومخيفًا، بل وقد يكون قاتلًا أحيانًا؟
ابتسمت تسنيم وقالت:
- نعم، لكن حياة النمل مثيرة جدًا. إنه يعمل بلا كلل أو ملل، وكأنه مدفوع بهدف سامٍ يسعى لتحقيقه.
صحيح أنني أفتقر إلى الكثير من المعطيات الخاصة بحياة النمل، لكن كان علي دعوتهم للبحث عن معلومات جديدة ومفيدة ومبهرة، فتقدمت نحوهم مخاطبا:
- إذا تأملنا حياة النمل أصدقائي، وجدناها غاية في التنظيم، فهو يعيش في مستعمرات حقيقية، يؤدي كل فرد منهم مهامه، ويتعاون مع الآخرين من أجل نماء مجتمعهم والحفاظ على كيانهم كمستعمرة، والغريب أن معظم أنواع النمل تبني بيوتها تحت الأرض. دعونا نبحث عنه أكثر…
سرعان ما انساق علاء إلى الموضوع، يبدو أن غرابة أسلوب حياة النمل قد أذهلته، قاطعني، وأردف قائلا:
- أعلم أن أفراد مستعمرة النمل تتكون من ثلاث طبقات؛ الملكة والذكور والعاملات. ولكني أسمع أن هناك عبيدا يعيشون بمملكة النمل …
بدا على محيا جمال الرضا والاستسلام، لم أتوقع أن يروقه موضوع النمل، عهدته صائدا للحشرات الضارة فقط. يبدو أن حبه للتعاون والانضمام إلى مجموعتنا سيكون مفيدا وهادفا. فتوجهت إليه قائلا:
- إذا سمحت يا صديقي جمال أن تتفرغ للبحث عن بعض المعلومات العلمية حول النمل؟ فقد تكون هذه المعلومات ضرورية لإتمام مشروعنا.
أجاب جمال بحماس:
- بالطبع، سأبحث عن كل ما يمكنني العثور عليه حول هذا الكائن المدهش.
بعد أيام قليلة، عاد جمال محملًا بالمعلومات. قال وهو يضع أوراقه على الطاولة:
- لقد اكتشفت أشياء مذهلة عن النمل!! هل تعلمون أن فكَّ النملة أقوى بكثير من فك التمساح؟ وأن جهازها الهضمي يستطيع التعامل مع مختلف أنواع اللحوم والنباتات؟
ردت إيناس بدهشة:
- فكّ أقوى من فكّ التمساح؟ هذا مذهل حقًا! لم أكن أتوقع أن يتمتع النمل بقوة خارقة.
تابع جمال بحماس:
- ليس هذا فقط، بل إن النمل يمتلك عيونًا حادة الرؤية، ويستطيع تحديد موقعه بدقة مستعينًا بالشمس كدليل. كما أن لديه دماغًا فريدًا يُجري به العمليات الحسابية ويرسل الإنذارات بدقة مذهلة.
قالت إيناس مبتسمة:
- كنت أظنه مجرد كائن صغير وضعيف، لكنه في الحقيقة كائن مدهش للغاية. فهو لا يمتلك القوة الجسدية وحسب، بل يتمتع أيضًا بذكاء فريدٍ يتيح له تنظيم حياته بدقة وإتقان. فهو مهندس بارع، وبنّاء مقتدر، وفنّان ومربٍّ، والأدهى من ذلك، أنه يتمتع بأخلاق رفيعة… فهو مخلوق رحيم ووَدُود، وقائد حكيم ورشيد، ومواطن مخلص، ومتعاون ومضحٍّ.
قال جمال متأملًا:
- كنت أعتبر النمل مجرد حشرة عادية، لكنه علّمني درسًا عظيمًا في التعاون والتنظيم.
أضافت تسنيم:
- نحن البشر… كثيرًا ما نغفل أهمية العمل الجماعي، بينما يعمل النمل بكل عزم وإصرار لتحقيق أهدافه. إنه مثال رائع للتعاون والتكافل.
قالت إيناس وهي تنظر إلى المجموعة:
- ربما علينا أن نتعلم من النمل كيف نبني مجتمعاتنا ونسعى لتحقيق أهدافنا المشتركة.
بعد إتمام المشروع والاتفاق على صيغة عرضه، قدمنا بحثنا أمام الفصل، وكان الجميع منبهرين بالمعلومات التي جمعناها.
قالت الأستاذة بفخر:
- لقد أبدعتم حقًا! ليس فقط في جمع المعلومات، بل في استخلاص العبر والدروس من حياة النمل.
كم كان ممتعا أن نخوض معا في دروب البحث عن موطن النمل وأماكن انتشاره، وكيف استطاع ببنيته الصغيرة وحجمه الضئيل أن يقاوم التحولات والتغيرات المناخية، وأن يظل على قيد الحياة لأزيد من 160 مليون سنة. لقد تبين أثناء التنقيب والبحث عن نمط حياة النمل، أن السلوك الاجتماعي لهذا الكائن الصغير هو الأعقد في عالم الحشرات، ولذلك سميت سورة قرآنية كاملة باسمه، ذكر فيها المولى عز وجل قدرة النمل على التفكر والتكلم؛ حيث يقول الله تعالى في سورة النمل (الآية: 19-18):”حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون”. فسبحان من خلق فأبدع.
خرجنا من الفصل ونحن نشعر بالاعتزاز والفخر، وقد تعلمنا درسًا لن ننساه أبدًا: أن حتى أصغر الكائنات يمكن أن تكون مصدر إلهام كبير.
اترك تعليقاً
لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *