دموع الصمت تجربة إنسانية هادفة وبحث في قضايا الإنسان والمجال.” بقلم الباحث: ذ. بوسلهام الكط”

قراءة في رواية دموع الصمت لجمال الفقير

“دموع الصمت تجربة إنسانية هادفة

وبحث في قضايا الإنسان والمجال.”

بقلم الباحث: ذ. بوسلهام الكط”*

مقدمة

ينخرط الكاتب جمال الفقير في روايته دموع الصمت[1] المعبرة والهادفة إلى جعلها تنبثق من عمق رحم الواقع الإنساني، قضاياه و إشكالاته، صراعاته ومظاهره وظواهره .. المشكلة والمستشكلة، ومن آلامه وأحزانه و من تحولاته و تطوراته وتغيراته.. المعقدة والمتشعبة.. بلغة/ لغات متعددة ومختلفة ومعبرة.. لغة الكتابة والإبداع الفني والفكري والأدبي والفلسفي.. لغة الصمت المدوية والمفجرة.. والدموع المعبرة.. اللغة العربية الفصيحة والعالمة.. ولغة الدارجة المغربية.. لغة الشعب المنبثقة من رحم واقعه الموضوعي المعاشي والمعيشي ولغة الرموز الحركية الطبيعية والبيولوجية/ الحيوية والمعبرة هي الأخرى. لغة الدموع ولغة الصمت ولغة الحركات والرموز.. إلخ.

من هنا تضعنا أمام إشكالية اللغة، من المفهوم إلى الإشكالية، إشكالية الدلالات والمعاني والتوظيفات، والفعل والممارسة في الواقع الموضوعي الوجودي والحياتي والمعاشي.. بأحداثه وتفصيلاته وتماسكاته الموحدة والمشتركة.. وتناقضاته الطبقية وبمعاناته الاجتماعية والسياسية التعليمية.. وممارساته المتأزمة والمختلفة التي تعمل على جعل الإنسان ( آلة) قائمة ومنحرفة تحركه وتوجهه و تتحكم فيه.. قوى متسلطة.. بحرمانه وظلمه وتهميشه بشتى الطرق والوسائل العنيفة والقمعية والإقصائية. عبر الصيرورة السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية والأخلاقية.. وعبر السيرورة التاريخية المتحولة والتحويلية والتغييرية والتطويرية في كل الأمكنة والأزمنة. وهذا ما جعل هذه الرواية البيوغرافية/ السيرة الذاتية.. و هي تتناول قضايا الإنسان و المجتمع و الدولة.. لا تقتصر على تصوير و سرد و تفسير.. المواضيع والمشاكل و الأشياء التي اهتمت بها، بل أيضا بالتأمل الفلسفي و التحليل المنطقي والعلائقي المتسائل و الناقد.. وبالطرح العلمي الإبن ستمولوجي.. العلمي والفكري والفلسفي والاجتماعي والثقافي والمعرفي.. الإنساني الوجودي والحياتي والمعاشي.. في زمن معين، وفي مكان محدد..؟!.

وهكذا يكون هذا الكاتب/ الروائي.. الباحث عن هويته وتجذره وحضوره في الواقع الإنساني في الوجود وفي الحياة والعيش، وفي التاريخ والمجتمع والثقافة متحمسا وواعيا بدوره الإنساني والتاريخي والثقافي والمعرفي، كإنسان يحمل رسالة إنسانية وهادفة وملتزمة في مجال الفكر الواعي المناضل والفاضح و المتسائل والناقد لسياسات وإيديولوجيات وعلاقات اللاتكافؤ والعنصرية والإقصاء والتهميش من طرف المتسلطين الفاسدين والإرهابيين المتوحشين والأنانيين.. إلخ.

وفي هذا السياق العام و الخاص، يكون الكاتب الواعي بمهمته وبدوره في مجال الإبداع والفكر و الكتابة قد ساهم هو الآخر، في هذه الإشكالية الإنـسـانية والاجتماعية والثقافية والسيـاسية و التعليـمية بهذه الرواية الأولـى لـه، و التي

نتمنى أن تتوالد وتتكاثر وتتنوع حتى يأكل منها الجميع.. ما أفيد و ألذ و أطيب.. باعتبارها تسير في سياق الإبداع الإنساني الحضاري والثقافي والتاريخي الواعي بمهماته المتعددة والمختلفة والمتنوعة.. وهذا هو الإبداع الإنساني الذي يعبر عن مقاومة و كفاح ونضال الإنسان بوعيه وبأعماله و اجتهاداته وبإبداعاته المعبرة عن الإنسان بصفة عامة، والإنسان المقهور والمظلوم و المحروم ـ كما قلنا ـ بصفة خاصة، من طرف أعداء الإنسانية النبيلة والكريمة والسعيدة، والظالمين والمستبدين والمعتدين المتسلطين والناهبين المخربين والفاسدين المستعمرين والاستغلاليين المضطهدين والإقصائيين المهمشين.. إلخ.

دموع الصمت تجربة إنسانية هادفة/ تحطيم للحواجز و الخرافات و الأساطير و الأكاذيب

إنها ( الرواية) تجربة من بين التجارب الإنسانية الإبداعية الواعية و الهادفة إلى تحطيم الحواجز والخرافات والأساطير والأكاذيب القائمة بين الإنسان المتسلط والمستبد والظالم والناهب والمتحكم والمهيمن والواهم المتعالي في كل زمان وفي كل مكان.. والإنسان المظلوم والمحروم والمقصي والمهمش.

و إذن، فهل استطاع الكاتب جمال الفقير أن يطور ويصف ويحكي ويفسر ويوضح وينتقد لقارئ روايته ( دموع الصمت) هذه الإشكالية الإنسانية المعقدة والمتأزمة، والمركبة والمتداخلة والمتفاعلة باعتبارها تجربة إنسانية معبرة وهادفة. إنه بهذا العمل الإنساني الوجودي والحياتي والمعيشي والمعرفي جعل من قارئه المتأمل والمتفحص والمتمحص هو الآخر، قادرا ومؤهلا من أجل المساهمة والمشاركة في هذه الحياة المقاومة والمكافحة..؟!

إن رواية ( دموع الصمت) لجمال الفقير، هذه، تجربة إنسانية أدبية واجتماعية وثقافية شابة، مهمومة ومنشغلة بهموم ومشاكل وآلام وأبعاد وأهداف الشباب على العموم، والشباب المغربي الثالثي المهمش والمقصي والمحروم والمظلوم على الخصوص، و هو يقاوم مشاكل الوجود والحياة والعيش ـ كما قلنا ـ ، هي تجربة إنسانية نابعة من عمق جوهر هوية الإنسان كإنسان، في علاقته مع الآخر، القريب و البعيد، العدو والصديق حيث جاء في تقديم للرواية: “ففي رواية ” ( دموع الصمت) حشد السارد أحداثا ووقائع، بأسلوب سردي متدفق ليرسم مسار سهام : الطفلة، والتلميذة، والطالبة، والمعطلة، والأستاذة، المتعاقدة. و في ثنايا هذا المسار الذي يبدأ بتقاليد القرية وطقوسها، وينتهي بتناقضات المدينة وإكراهاتها تتواتر أحداث مفصلية، يتعاضد فيها السياسي والاجتماعي والنفسي والثقافي والتربوي، للكشف عما تعرضت له سهام من إقصاء وتهميش في القرية وتحرش وابتزاز في الداخلية و الجامعة، و سدل وضرب وتصد بجسدها النحيف لخراطيم المياه في ساعات متأخرة من الليل، أمام قبة البرلمان”[2].

و هكذا، تكون هذه الرواية -الحزينة المعبرة والمصورة لما يجري في الواقع الموضوعي المغربي المعاصر، الذي يتحدث عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، وحقوق الإنسان، وعن مناهضة ومقاومة التسلط والظلم و الفساد- قد رحلت بنا، هي الأخرى، إلى عالم المعاناة الإنسانية القاسية والانتظارات المشلولة والأحلام المقموعة في إطار الوجود والحياة و العيش في عالمنا المعاصر، الذي اختلت و تأزمت فيه الموازنات والتوازنات اللامتكافئة واللاديمقراطية. عالم القوة والعنف والنهب والتسلط والقمع والحرمان والفوضى.. و ما شخصية ” البطلة” سهام في رواية “دموع الصمت” هذه إلا عنصرا أو مكونا عالم الكتابة والسرد والحكي والوصف والتصوير والتفسير والمعرفة التي حاول الكاتب الغوص في عوالمها المختلفة والمتنوعة، وفي تفاصيلها وأحداثها الواقعية والمتخيلة، وفي عالم موضوعي معاش، فسهام واجهت “هذه المآسي كلها بالصمت، مما جعل السارد يُبَئِّرُ في عوالمها النفسية، ليبوح عن آلامها وآمالها، كاشفا عن شخصيتها المركبة التي ليست في واقع الأمر، سوى نموذج لفئة عريضة من الفتيات القرويات التي واجهن صعوبات عديدة في مسارهن الدراسي، وألفين أنفسهن يعشن بين فضاءين مختلفين: فضاء القرية و فضاء المدينة. ومن مميزات هذه الرواية أنها انتهت إلى معاناة الفتاة القروية التي قلما ينتبه إليها الروائيون الذين ينصرفون في معظم رواياتهم إلى عوالم المدينة..”[3]

دموع الصمت: بحث في تهميش الإنسان القروي وتهميش المجال واحتفاء بالتراث

ينشغل الكاتب أكثر فأكثر في روايته بإبراز تهميش الإنسان القروي وتهميش المجال، مجال القرية و ما تعانيه من إقصاء ومظالم، و تسلط وتخلف وحرمان ، فيهتم بها (القرية)، ويهتم قراؤه هم الآخرون بالقرية وبإنسانيتها ومشاكلها المتجسدة في تخلفها وبنياتها التحتية وعلاقاتها الإنسانية والاجتماعية و الثقافية و في حيواتها التي لا ترقى إلى تحقيق الوجود اللائق والحياة الكريمة والعيش الإنساني المطلوب.

ظل الكاتب هو الآخر، مهموما و قلقا و حزينا متأسفا و متألما لما يجري في عالم البوادي والقرى والدواوير من مظالم و مآسي وانتهاكات في غياب المسؤولين عنها وعن جرائمها ومجرميها الحقيقيين الفاسدين والناهبين والمخربين ومحاكمتهم و متابعتهم.. إلخ. يقول السارد:”لم تكن ليلة عادية تلك التي عاشتها رفقة صديقاتها اللاتي كن معها في دار الطالبة. فقد تعرضت غالبية الفتيات لما يشبه حالة تسمم، إذ أنهن أُصِبْنٓ بألم حاد في البطن، بعد مرور ساعات قليلة على تناولهن وجبة العشاء.”[4]. يضيف أيضا” كيف لا يستيقظ الجميع و الضاوية تنادي بأعلى صوتها:

” و العداو أعباد الله.. عتقوا الروح”

فترد عليها خديجة:” وامي راني تنموت..'(..).

حل بعين المكان بعض مسؤولي المدينة وفي مقدمتهم بعض الأمنيين و مدير الدار. صاح كبير المسؤولين بأن الأمور يجب أن تأخذ مجراها الطبيعي. بل إن معاقبة المقصرين في عملهم داخل الدار أمر لا محيد عنه.”[5].

ولعل المثير في رواية ” دموع الصمت “، هو أن الكاتب بتفاصيله السردية/ الحكائية المثيرة و المؤلمة، يجر قارئه إلى محاولة معرفة كل شيء تتضمنه الرواية من تفاصيل يومية وجودية وحياتية ومعيشية، تتعلق و ترتبط بالإنسان بصفة عامة وبالإنسان المساهم والمشارك في بناء عمليات الحكي/ السرد والوصف والتصوير والتفسير لهذه الرواية، بما فيها مبدعها/ كاتبها البطل الرئيسي والأساسي. الذي عمل على إخراجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل. يقول السارد:” بزغت لحظة الحقيقة. أحس بتوتر وحالة عدم الوعي. أشعل موسيقى حزينة. أخذ في التعبير عن وجدانه و كيانه. انهمك في الكتابة عن سهام التي شجعته على الكتابة”[6]. يضيف ” كانت سهام تجيد الاستماع للآخرين، وتحفزهم على البوح، لذلك وقع في شركها، فاتخذها خزان أسراره و ذكرياته، ووقعت في شركه.. لأنه يجيد تذكر بدايته الأولى مع المدرسة، و هو المنحدر من دوار يقع بضواحي مدينة لا تجيد الدفاع عن نفسها أمام من اغتصبوا خيراتها ونكلوا بأبنائها منذ سنوات خلت”[7].

ولعل ما يسترعي الانتباه ـ مرة أخرى ـ في هذه الرواية هو طابعها الخاص و المميز الذي يضع شخصيات وأبطال وأحداث وأفعال الرواية في إطار ما أصبح يسمى بالسيرة الذاتية الفردية والجماعية والمجتمعية والتاريخية والثقافية والتراثية والجغرافية (البيوغرافيا)، التي جعلت من الفنون الإبداعية والفكرية والفلسفية، والعلمية والأدبية والسردية والشعرية الإنسانية والاجتماعية والتراثية والتاريخية الإنسانية على تنوعها وتعددها واختلافها عناصر وأدوات ووسائل للبحث عن حقائق الأشياء و معرفتها لنشرها بين الناس والوعي بها و أبعادها وأهدافها على المستوى المحلي والوطني و العالمي. وكذلك، لتفعيلها و ممارستها إذا كانت صالحة ومفيدة للممارسة في الوجود وفي الحياة.. بغية معالجة و مقاومة كل أنواع الاستعمار والاستغلال والتخلف بكل أشكاله وأنماطه والتسلط والفساد والنهب والاستبداد، كما هو الأمر بالنسبة للحديث عن ” المدرسة” وعن فصل الشتاء البارد والقاسي، وفيضانات الأنهار وكثرة العواصف وشدة قوة الرياح، وعدم توفر البنيات التحتية والتجهيزات اللازمة في الدواوير والمداشر والقرى والبوادي والمناطق النائية، مثلما هو الأمر بالنسبة لمنطقة الغرب المغربية والإنسانية التي اهتمت بها هذه الرواية ( دموع الصمت)، بجانب إبداعات محلية و وطنية و إنسانية كالقصة عند محمد الشايب و الرواية عند سعيد السعدي، حيث قلنا في كتابنا (الضروري في التراث العربي و الإسلامي القديم و الحديث و المعاصر)[8]:” منذ الوهلة الأولى لقراءتنا التأملية والمتمحصة.. بدت لنا من خلال نصوصها على العموم، و في مقدمتها على الخصوص، بأنها تنضوي في إطار التراث الروائي أو الرواية التراثية الإنسانية على العموم، و التراث المغربي على الخصوص، والتراث الغرباوي المغربي البدوي و الإنساني العالمي.. على الأخص، حيث يقول الروائي سعيد السعدي في روايته ( رحلة الشتاء و الصيف):” في حركة غير نهائية لمياه واد سبو الخالدة، تجري تلك المياه لموطنها الأول، لتعود من جديد، و توفر للإنسان الغرباوي، منذ وجوده أسس العيش، على سهل الغرب، غرب المغرب الأقصى، هذا السهل الخصب والشاسع، الغني طبيعيا و الفقير تنمويا.

و في إحدى ضفافه تستوطن قرية نائية، و من بين ساكنة القرية كانت هناك صبية إسمها الغالية(…). وربما ازدادت عليها سمرة بسبب تعرضها الكثير للشمس، لأنها ترعى غنم أبيها..”

إن واقع البطلة ( الغالية) الذي توجد و تحيا وتعيش فيه، هو القرية أو البادية، التي تعاني من كثير من المشاكل، وفي مقدمتها التهميش و الظلم والجهل والأمية و الفقر والافتقار إلى أبسط وسائل العيش والحقوق الإنسانية. إنه واقع الكبار والصغار المهمشين والمحرومين.. وهو ما حاولت الرواية رصده و تصويره و وصفه وتحليله بدقة ووضوح، مما جعلها تنتمي إلى الرواية الجديدة في عالم الأدب و في عالم الفلسفة كذلك، كما سنرى، هذا الواقع الروائي الجديد يتميز بالابتكار أو الإبداع المتجدد و المتكرر في طبيعة مواضيعه و وسائل تعبيره وسرده وقوالبه وإشكالاته المتجسدة في تجديد لغته السردية/ الحكائية. الروائي سعيد لم يتناول الواقع في سطحيته، بل في تشعبه و تعقيده وتأزمه بلغة سردية أدبية و فلسفية تحليلية ومتسائلة ومتأملة ونقدية. وهذا ما أضفى على الرواية أهمية في أبعادها وأهدافها و أدوارها.. في الوجود و في الحياة وفي العيش.. إلخ. حيث يقول في ص53و54:” و لا يسعها إلا أن تمد بصرها إلى بناية المدرسة، لتنهال عليها أعمدة من الأسئلة، أسئلة تؤجج حسها المتعطش للمعرفة والاكتشاف.

ماذا يحدث في تلك البناية المقسمة إلى أقسام، و التي يحيط بها سور قصير، ومليئة بالرسوم الملونة و الجميلة.”.

والقارئ المتأمل المتبصر والواعي والعارف لما جاءت به رواية (دموع الصمت) للكاتب الأديب جمال الفقير يرى أنه قريب ومتشابه وواصف ومصور ومفسر لما جاءت به رواية ( رحلة الشتاء و الصيف) للسعدي ـ تقريبا ـ على مستوى الموضوع والأشياء والأحداث والمظاهر والظواهر المتعددة والمختلفة والمتنوعة في الوجود المجالي والحياتي والمعيشي والتاريخي والتراثي وفي مقدمتها، ظاهرة التعليم و التربية بالبادية والدواوير، وبالمدينة التي كانت من بين المواضيع الهامة و الحساسة والمثيرة للجدل والإبداع والكتابة.. في الروايتين السابقتين الذكر، لكل من سعيد السعدي و جمال الفقير الذي اتخذها مجالا ومنبعا سائلا و جاريا بدون انقطاع يرشف منه ما بإمكانه إطفاء عطشه الإبداعي والفكري والإحساسي والإدراكي والواقعي الموضوعي المعاش والمعيش. وبالأساس ما تعلق بسيرته الذاتية الطفولية و الشبابية و الرجولية، أي من مرحلة التعليم الابتدائي إلى الإعدادي والثانوي فالجامعي، إلى أن أصبح هو الآخر/ رجل تعليم يجسد ويمارس هذه الظاهرة التربوية والتعليمية بكل أبعادها وأهدافها وتجلياتها ومقاصدها التي أهلته، كذلك، إلى أن يصبح كاتبا مبدعا و راصدا و مصورا و روائيا.. يعيدنا إلى ماضيه ووجوده وحياته وعيشه، وتفاصيل كل ما يرتبط به وبشخصيته الفردية والجماعية/(البيوغرافيا).

دموع الصمت: انشغال بإشكالية التربية والتعليم

و من هنا كذلك، وجدنا، أن إشكالية التربية و التعليم في روايته ( دموع الصمت) أخذت الحيز الأكبر، و الاهتمام الأكثر، و الانشغال الأعمق والأدق، و هو يحكي و يحكي ويحكي..؟! حيث يقول: ” استمر سعيد في الحكي لسهام، و هي تنصت بإمعان لما يقول. يقطع على حد قوله مسافة طويلة من أجل الوصول إلى الثانوية الإعدادية التي صار يدرس بها. تتضاعف معاناته في فصل الشتاء. تعرضت ملابسه مرارا للبلل(..).

يستمر الوضع على ما هو عليه أياما معدودات، دون اهتمام من أحد بهؤلاء التلاميذ، عدا شهامة بعض المارة من أهل الدوار، الذين كانوا يَرِقُّون لحالهم، إما برفعهم على أكتافهم أو فوق دراجاتهم الهوائية (…) كان تلاميذ القرية، و منهم سعيد يلجون الأقسام أحيانا، يرتجفون من شدة البرد، و ثيابهم المبللة يزيد الطين بلة، التعامل المهين لبعض الأساتذة، من خلال الطرد من الحصة أو الإهانة أمام الآخرين.

ـ “فين داخل عندي تتقطر حالتك كي الكلب ديڭاج”

يضطرون إلى بلع ألسنتهم خوفا من تبعات النطق و النبس بكلام قد يندى له الجبين. لكنهم يصرخون

ويتكلمون في دواخلهم. بالمقابل هناك من الأساتذة من كان لهم الأثر البالغ على التلاميذ”[9]. يضيف السارد: “أقضي العطلة في قريتنا. أستيقظ على إيقاع مناداة الأب في الصباح الباكر، لي و لإخوتي من أجل الذهاب إلى الحقل”[10].

ويستمر الكاتب في تفريغ وتشريح ووصف، وتحليل إشكالية ظاهرة التربية و التعليم المتشعبة والمتشابكة والمؤزمة، والهامة والأساسية والضرورية لكل المجتمعات والحضارات والثقافات، عبر الصيرورات الإنسانية والاجتماعية والتراثية والسيرورات التاريخية والسياسية والاقتصادية، بمحاولة طرحها وتخليصها والتساؤل حولها. يقول السارد::” لطالما تساءلت مع نفسي، و أنا أتذكر كذلك: ما طبيعة التعليم الذي تلقيناه و اختبرنا بناء عليه؟ هل يتوافق واقعنا السوسيوثقافي الذي نعيشه، مع المقررات الدراسية و المنظومة التعليمية؟ هل حققنا تراكما معرفيا و منهجيا بالشكل الذي يجعلنا قادرين على الدفاع عنه والإجابة عليه في الامتحانات التي نجريها؟

فلنفترض، أننا حققنا نسبة نجاح كبيرة من النجاح، و بمعدلات مرتفعة، فهل شهادة الباكالوريا لا يزال لها الأهمية التي كانت في السابق؟ هل معترف بها من طرف المعاهد والجامعات الدولية والوطنية بما يتيح للحاصل عليها الولوج إلى أي تخصص يريد..؟ ما مصير من يحصل على الشهادة في وقتنا الحالي؟ أليس مأوى غالبية الحاصلين عليها، الجامعة التي تنتج عشرات الآلاف من المعطلين سنويا تتغاضى الدولة عن توظيفهم، فتحاسبهم بمنطق تخصصاتهم لا تناسب سوق الشغل، مع العلم أنها مشجع رئيسي لهم في بدايتهم الأولى؟.

أسئلة من هذا النوع و صعوبة الإجابة عنها هي التي تجعل غالبية الحاصلين على الباكالوريا يرتبكون ويحزنون، بعد فرح لحظي يتشاركون فيه مع العائلة والأحباب، لأن سؤالا يخالجهم، و يطرح نفسه عليهم بعنف و شدة بمجرد الحصول على الشهادة و هو: هل ستمكننا هذه الشهادة من الحصول على وظيفة وتحقق لنا عيشا كريما؟”[11].

يقول السارد أيضا:” نادى مناد من بعيد:

“أيها الرفاق، الطلبة و الطالبات، ليكن اللقاء بعد نصف ساعة في كلية الآداب من أجل الرد على هذا الفعل، الذي قامت به أياد الغدر والظلام..” أما سهام، فلم تستيقظ من حلمها إلا مع صراخ صديقتها و عويلها. رأت لبرهة تجمع العديد من الطلبة حولها. لكنها سرعان ما عادت لتغط في نوم عميق ليستغرق ساعتين. وجدت أمامها أياما بعد الحادث، سيدة عجوزا بالقرب من المحكمة الابتدائية”[12].

يضيف السارد أيضا: “حاول ياسين كبح جماح حماس الجماهير. حمى الوطيس.. ما هي إلا لحظات حتى انهالت الشرطة والقوات المساعدة على المتظاهرين بالركل والضرب والرفس. أعطى الأوامر، بحضور زعيمهم المرفوع على الأكتاف.. استمرت الجماهير في ترديد الشعارات الغاضبة و الحماس يعلو الوجوه:

” الجـمـاهير شوفي مزيان حقوق الإنسان”[13].”

استمر السارد في عرض الأقوال الـمرتبطة بالحـياة و الوجود والعيش و الموت، و التعليم والتوظيف والمطالبة بالحقوق المهضومة قائلا” كانت أياما عصيبة بالنسبة إليها. تذكرت بحسرة ما حدث في ملحقة وزارة التربية الوطنية، بعد مرور أيام من اعتصام قام به مناضلون نتج عنه إحراق للذات اختلفت رواياته. لم يفتح أي تحقيق، واعتبر الحادث عرضيا لا يستحق الاهتمام. تفاقمت الاحتجاجات وزادت حدة التنديدات في صفوف المناضلين وكثرت المظاهرات”[14].

و في آخر الرواية، رواية ” دموع الصمت“، حاول الكاتب أن يساعد القارئ بشكل أو بآخر، كما فعل مع مجموعة من المواضيع و القضايا والمشاكل الصعبة والشائكة، والمهمة والأساسية في الوجود، وفي الحياة و الموت، فقربها إليه بطرح الأسئلة ومده بالأجوبة. كما قدمها أبطال الرواية المتعددين والمختلفين في إطار الفلسفة واللعب والعودة التي تشكل جوهر الحقيقة، حقيقة الوجود وحقيقة الحياة وحقيقة العيش وحقيقة المعرفة والجهل عبر الصيرورات والسيرورات و الأزمنة الأمكنة على كوكب الأرض. الإطار المرجعي لكل ما يوجد و يحدث و ينفذ و يهمش فيها؟!.

هذا من جانب، و من جانب آخر.. فقد عملنا ـ نسبيا ـ على تقريب و تشبيه كل من رواية سعيد السعدي ( رحلة الشتاء و الصيف) ورواية جمال الفقير ” دموع الصمت” نظرا، لدوافع وأبعاد وأهداف وظروف وعوامل تجمعهما، وأخرى تفرقهما وتوحدهما، مثل، ما جاء في رواية ” دموع الصمت” كما رأينا، و كما قلناه عن رواية ” رحلة الشتاء و الصيف”في كتابنا ” الضروري في التراث العربي و الإسلامي الحديث و المعاصر..؟!”. ص56 و 57:” هكذا وجدت الطفلة الغالية أن مآسيها ومعاناتها و آلامها.. اتسعت هوتها وانطفأت شمعة آمالها وتبخرت أحلامها في السماء البعيدة وأصبحت حياتها وهما و سرابا و عذابا. تتأزم وتتشعب.. يوما بعد يوم في واقع الحرمان و الإحباط و التهميش.. واقع التسلط و النهب و الكذب والنفاق والاستغلال.. في عالم التيه و الفساد والخداع والقمع.. والمظاهر الخداعة والزائفة في المدينة، كما في القرية/ البادية.. ولا يبقى للإنسان المظلوم والمحروم والمهمش إلا التعامل معه بصياغة رؤية عادية و مألوفة.. هي رؤية الصبر و الانتظار و طلب المساعدة من أجل العيش مع الأّقوياء المتسلطين الذين ملكوه، و أصبحوا يتحكمون فيه بعنف وبقوة و بقسوة رهيبة و مرعبة مُخَوِّفَة.. إنه واقع العولمة الشرسة و الرأسمالية العدوانية.. التي تحتقر الفقراء والضعفاء و المهمشين.. بشتى الطرق والوسائل والإرهاب و الهيمنة والنهب والاستغلال..”

بحث في قضايا الإنسان والمجال/ القرية و المدينة والوطن والمواطنة

تجدر الإشارة- بعد قراءتنا للروايتين السابقتين الذكر، لكل من الكاتبين سعيد السعدي، وجمال الفقير، من غير نسيان القاص المتميز محمد الشايب من مدينة مشرع ابن القصيري في منطقة الغرب بالضبط نظرا لارتباطهم جميعا بواقع هذه المدينة العزيزة والمنسية والمهمشة- بأنه لا أحد يجادل اليوم في مدى أهمية الكتابة والإبداع والبحث والدراسة والاهتـمـام بـهذه الـمدينة وبتراثها وتاريـخها وهويـتـها وبفاعليتها وكتابها وبمدى أهمية موضوعية وواقعية وحقيقة علاقة الإبداع الإنساني بالإنسان وبالواقع/الإنسان والمجال الذي يعتبر نشاطا فكريا إنسانيا واجتماعيا وثقافيا يمارس الواقع الموضوعي المعاش والمعيش بشتى الوسائل والطرق والرؤى والتصورات الممكنة والمختلفة و المتنوعة باعتبار العلاقة القائمة بينهما هي علاقة جدلية و مؤثرة و مثمرة. وهذا ما لا ننساه، من خلال قراءتنا، لهؤلاء الكتاب السابقي الذكر، و غيرهم. فالكاتب المبدع والواعي المتبصر والمتأمل الذي لا يمكنه إلا أن يلج إلى عالم الكتابة والإبداع في جميع المجالات باعتبارها موروثات ثقافية وحضارية و تاريخية، وتراثية و ضرورة للحياة الخاصة و العامة.

ومن هنا أهمية الكتابة و الإبداع بالواقع الموضوعي المعاش والمعيش وبالإنسان عبر الصيرورات و السيرورات الضرورية لتكوين و تنظيم المجتمعات الإنسانية، و العمل على تسييرها و تنميتها و تطويرها و تحويلها و بنائها و تجديدها إلى ما هو إيجابي أكثر مما هو سلبي، في غالب الأحيان. و هذا ما عملت عليه رواية جمال الفقير ” دموع الصمت” التي نحن بصددها، في هذه القراءة المتواضعة. الرواية التي عملت ما أمكنها من أجل طرح ومعالجة مجموعة من الأفكار والقضايا والمشاكل، الخاصة والعامة، الشائكة والمتشعبة،والمختلفة والمتنوعة التي تواجه المواطنين في وطنهم من حقوق وواجبات، وتُوَعِّيهِم وتُحَسِّسُهُمْ بحق المواطنة في وطن يعاني شتى مظاهر و ظواهر التخلف، المتجلية والمجسدة في العلاقات والسلوكات و المعاملات، والمظالم و التسلط و الحرمان والقمع والتهميش في الوجود، و في الحياة و في العيش وفي المؤسسات. يقول السارد:” حكت الأم أمام الأولاد بإسهاب تلك الليلة عن الحقول و البساتين و طفولتها. تحدثت عن ” الحوش الكبير” و البئر و شجرة التين و غلاتها و أشجار الزيتون المثمرة. بدا و كأنها تغري طفلتها و تحاول إغوائها بجمالية بيت الجدة، الذي سبق أن زارته و هي صبية، غير أنها لم تكن تفارق أمها. تأكل وتشرب، ثم تعود لتنام في حضن وطنها الجميل”[15].

و من خلال ما جاء من الأقوال السابقة عن علاقة الإنسان بالمجال/ الوطن وعلاقة الإبداع والكتابة والحكي/السرد.. بالواقع الموضوعي الإنساني المعاش والمعيش.. يتضح لنا بأن الكاتب جمال الفقير يهدف إلى جعل هذه الرواية- الكثيفة والمكثفة المرتبطة، بالقضايا والمشاكل، و الآلام و الأحلام، والتشاؤم و التفاؤل، والظلم والحب، و بالقمع و الحرية- عملا واعيا و هادفا و ملتزما بخدمة الإنسان والإنسانية بالمساواة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وواجبات المواطن و المواطنة إلخ.

وبهذا، حاول الكاتب الواعي أن يثير ويعالج ويصف، ويصور مشاكل قضايا الإنسان والمجال/ القرية و المدينة والوطن والمواطنة. يقول السارد: “جسمك قد نما، و أن تفكيرك قد تطور بعد كل درس عن ضرورة الاحترام عن الوطن و الوطنية، و عن أن حب الوطن من الإيمان، عن الحقوق و الواجبات، عن الحرية و التعبير، و عن الحق في الكرامة والتفكير والتملك والحرية.. تكون رغبتهم جامحة في أن يلزموك حدودك، كي لا تخبر العالم المنسي من المغاربة بأن جهل أبنائه موت.. و أن تعلم كتابة الكلمات صوت يصدح في كل صوب ومكان، وسلاح فتاك يزلزل الأرض من تحت كل من يدعي في المعاملات إخلاصا، وفي القرارات حكمة، و في تعسف المقهورين عبرة”[16].

إنها رواية إنسانية وحقوقية واجتماعية بامتياز، تدافع وتقاوم، وتفضح وتنتقد الأفعال والممارسات والعلاقات والمعاملات اللاإنسانية، واللاأخلاقية، واللاشرعية، واللاقانونية التي يتعرض لها المواطن المقهور، والمظلوم والمحروم في وطنه الجميل في الدوار والقرية والمدينة. و في هذا الإطار اسْتَنَد الروائي الكاتب في روايته ” دموع الصمت” على الحكي للإثارة والتشويق، وسرد الأحداث والمشاكل، والأفعال والممارسات، والوقائع والقضايا والمعاملات، والسلوكات المختلفة والشائكة والمؤثرة من خلال ما يجري في الواقع الحي الموضوعي المعاش والمعيش الأكثر عمقا و صدقا و إثارة للتأمل والدهشة والتساؤل والنقد والفضح.

هكذا، وجد الكاتب جمال في الرواية ما هو أدق تعبيرا و وصفا و تصويرا ـ كما قلنا ـ للمشاكل وللواقع المختلف والمؤزم والمعقد. إنها الرواية السردية التي يتوخى منها التجاوب مع أبعاده وأهدافه وأفكاره وتصوراته وآماله وأحلامه ومتمنياته لبلوغ الحقيقة، ونشر المعرفة و فضح وتفسير الأزمة، أزمة الإنسان و المجال المتشابك والمستشكل في القرية والمدينة، وفي الحقل والمدرسة، وفي الأنا والآخرة، من خلال الواقع المعاش والمعيش في عصرنا المعاصر الذي يدعي التقدم و الديمقراطية و المساواة و الحرية..

و من هنا نجده كذلك، وبحرقة و جرأة وحماس منقطع النظير، يقدم لنا باكورته الأولى/ روايته هادفا إلى توضيح العلاقة الهادفة و الملتزمة بين الأنا و الآخر في إطار العلاقة الصادقة و الديمقراطية الحقيقية بين الإنسان و الإنسانية.. الوطن و المواطن والمواطنة..؟! .

عمل هذا الكاتب الروائي الشاب على طرح القضايا و المشاكل و المطالب و الواجبات في مجال الأدب، و في عالم الكتابة و الإبداع السردي، والتأمل الفلسفي التحليلي و التساؤلي والنقدي والتطويري والتغييري والبنائي والتحويلي. كذلك، استطاع أن يدمج الماضي في الحاضر، والماضي والحاضر في المستقبل، و الخاص في العام، و العام في الخاص، والاختلاف في الوحدة، والوحدة في الاختلاف، في إطار منظومات مرجعية، هي الأخرى، موحدة و مختلفة.. و من هنا، ظل وفيا لاختياراته وأفكاره و تصوراته و قناعته بروايته وأبطالها و بأبعادها و أهدافها كما أرادها.. في عالم الأدب والفلسفة على العموم، و في عالم الحكي و السرد و الوصف على الخصوص. و هو ما تجلى بوضوح في آخر روايته:

“أنا من صنع يديك أيها الكاتب، أنفذ بالحرف ما تعبر عنه أنت و ترسمه لي، لا شيء تغير، أنا فقط صعدت الجبل، أشعلت النار ببقاياك التي أعانتني على الصعود، بالأحرى أفكارك و أوراقك التي بالغت في وصفي و تبجيلي، أَعُوِّدُ نفسي على قسوتك في جعلي وحيدة صامتة غارقة في الدموع التي أفقدتني شعوري بالراحة.. آه عليك أيها الكاتب !!.

ألومك لأنك أبعدتني عن الوالدين و أنا صغيرة. قتلت خالي بحادثة ولد المروزية. أرعبت أمي عندما كنا في البحر قتلت جدتي. سممت صديقاتي بدار الطالبة. أصبتني بحجر طائش في مظاهرة طلابية. أجلستني في أماكن لوجدي. أبكيتني في أوقات متأخرة من الليل. أحزنت ياسين. آلمت سعيد. تسببت في آهات لكل المحيطين بي.

ألا يحق لي أن أتمرد عليك أيها الكاتب بناء على ما سردت !؟ (..).

كفاك أيها الكاتب، أنا مجرد فكرة، و الفكرة قد تختفي و تظهر من جديد،..”[17].

هذه طريقة روائية لإعادة ما سرده وحكاه.. الكاتب لقرائه.. وتبعه في ذلك، كما قلنا أبطال روايته هذه ” دموع الصمت” بلومهم، لأنه فرض عليهم أشياء و منعهم من أخرى، وفق رغبته وإرادته و حريته التي جعلت منه البطل الرئيسيو الأساسي..

خاتمة:

وكيف ما كانت عليه الأحوال و آلت إليه الأوضاع، فدموع الصمت رواية تدخل في إطار الإثارة والدهشة والتساؤل والتحليل، و حب الكشف والمعرفة، والنقد والفضح، والبحث عن البديل الذي بإمكانه أن يقوم هو الآخر، على حب المقاومة و التقويم و التقييم لما قام و يقوم به الآخرون الفاسدون و المتسلطون و الناهبون و المخربون و المدمرون لخيرات الوطن و المواطنين، الذين استبدوا وعبثوا بكل شيء في هذا الوجود و في هذه الحياة.. هؤلاء وغيرهم، الذين نسوا أو تناسوا دروس حب الوطن وتقديسه و احترامه، و احترام الإنسان و حقوقه و واجباته و قوانينه، و بنائه و تقويته و نهضته من أجل مصالحهم الخاصة، بدل المصالح العامة.. حين لبسوا لباس النهب والقوة والتسلط والتحكم والكذب والنفاق والهيمنة و السيطرة على الآخرين، بعدة وسائل و طرق قمعية وإرهابية وعنيفة و حصارية.. إلخ.

و هكذا، و من لا يحب الوطن و المواطنة و المواطنين، فليس له الحق في الانتماء إلى الوطن و المواطنين، و التحكم فيهم..؟!. ف” انطلاقا من أزمة المشهد السياسي المغربي المعاصر، المتشعب و المعقد و المتأزم.. و تحت نيران ضغوطات الحياة الصعبة الضيقة والضائقة والقاسية والمقهورة التي يغرق في بطشها وبراثين فسادها ومستنقعاتها المواطن المغبون، والمقهور والمظلوم والمهمش..؟ !.

انطلاقا من هيمنة وسطوة وسيطرة سياسية المهيمن والقوي المتسلط التي رسمت وعبدت طريق الانتهازية والنهب والمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة.. جريا وراء المال ولجاه والنفوذ والاستلاب.. إلخ. من هذا السلوك المتمزق والمتمادي في الأزمة و تشعبها و تعقدها.. أليس من حقنا أن نتساءل عن الأسباب الدفينة والعوامل الحقيقية.. الذاتية والموضوعية.. بحثا عن الحقيقة الحقة القائمة بين التنظير و التطبيق و الممارسة.. بين الفكر و الواقع.. بين القول و الفعل في واقع عالم السياسة الهجين المتمزق.. و القابع بين الألم والأمل.. بين السياسة و العلم.. بين السياسة والثقافة.. بين السلطة و القوة.. بين التهميش والضعف الانهزامي و الاستسلامي.. بين الاختلالات و الأمل ” البديل”.. !؟. و ” أمام هذا و ذاك، و الكان و الآن.. أصبح من الضروري، و من حب الوطن.. في مغرب الأزمة، البحث عن فلسفة الخلاص والحرية والديمقراطية الفعلية والملتزمة والهادفة إلى محاربة الظلم و الفقر و الفساد والضياع والتهميش.. ومحاربة القوة والعنف والإرهاب المتسلط المنتشر هنا وهناك.. على شكل أخطبوط مسموم، لا يرحم و لا يعرف الحب والرحمة..؟!.”[18]

[1] جمال الفقير، دموع الصمت، جامعة المبدعين المغاربة، مطبعة وراقة بلال، فاس، 2021.