728 x 90

التكامل المعرفي في العلوم الاجتماعية رهان إبستيمولوجي وضرورة مجتمعية

التكامل المعرفي في العلوم الاجتماعية  رهان إبستيمولوجي وضرورة مجتمعية

التكامل المعرفي في العلوم الاجتماعية

رهان إبستيمولوجي وضرورة مجتمعية

ذ.رشيد أمشنوك[1]

 

خلاصة:

تبحث هذه المقالة في ماهية التكامل المعرفي ودلالاته وقيمته الإبستيمولوجية في حقل العلوم الاجتماعية، وتدرس تداعياته وإشكالاته التي تحول دون تحقيق رهاناته، سواء على مستوى بنية العلوم والمعارف التي تذود عن هويتها المنهجية ولغتها المفاهيمية وأنساقها النظرية، أم على مستوى سياقاتها الثقافية وشروط اشتغالها. وفي الأخير تؤكد هذه الدراسة أن “التخصصية” لم تعد اختيارا رائقا ومرضيا، لأن مسوغاتها المنهجية وخلفياتها الإدارية والاكاديمية، لا تمكن الباحث في مجال العلوم الاجتماعية من الإلمام بمختلف زوايا موضوعاته البحثية، مما يضطر إلى الانتقال بين المعارف مستعيرا أحيانا نظرياتها ومفاهيمها، وأحيانا أخرى مناهجها وأدواتها، وهكذا، وبالتالي فلا مناص من تأسيس “تكاملية علمية خلاقة” تحرر العالم من تقوقعه وانغلاقه في عوالم مادته المعرفية. فالعالم بمشكلاته الجسام وتحدياته العظام يحتاج اليوم، أكثر من أي وقت آخر، إلى رؤية معرفية شاملة ومتكاملة تحيط بأبعاد الإنسان كلها، خدمة له وذودا عن حقيقته الوجودية  المركبة.

مقدمة:

يبدو أن العصر لم يعد يطيق الاجتزاء، ليس فقط في إدارة مشكلاته وتدبير تحدياته الجسام، بل في بحث قضاياه وأسئلته الاجتماعية والثقافية الملحة، التي تظل مركبة ومعقدة في بنيتها ومتعددة في أبعادها، مما يفرض على الباحث الانفتاح على عوالم معرفية مختلفة، ليمتح منها ما يفيده في تفكيك الموضوع ودرسه من كل زواياه للإحاطة بمختلف جوانبه وقراءته بأدوات منهجية مختلفة. من هذا المنطلق صار الحوار بين التخصصات مدخلا مهما لتفادي الدراسات المعزولة في عوالمها العلمية، وفي الآن ذاته تأكيد على وحدة الإنسان وتعدد أبعاده الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتاريخية والثقافية وغيرها، وبالتالي أصبح الانفتاح على العلوم حلقة تقوي بنية التخصص وتغنيه وتدعم نتائجه وفلسفته المنهجية، واستحال التعايش المنهجي والمفاهيمي ديدن العديد من العلوم التي تتخذ الإنسان موضوعا لها في سياقات مختلفة، مما يؤكد أهمية المقاربة المعرفية الأفقية في دراسة ظواهر المجتمع وبحث قضاياه.

إن تداخل العلوم ليس موضوعا طارئا على فلسفة العلم ومناهجه وقضاياه الإبستيمولوجية، بل هو معطى تاريخي قديم قدم العلوم نفسها، التي كانت تشكل فسيفساء متجانسة في دراسة الإشكالات الإنسانية بمفاهيم اجتماعية واقتصادية وسياسية وفلسفية ونفسية وغيرها من الأدوات والنماذج التفسيرية السائدة آنذاك، لكن مع تطور هذه العلوم استقلت نسبيا عن بعضها البعض، فظهرت العلوم الإنسانية والاجتماعية بحقولها المعرفية المعروفة، والعلوم الدقيقة  ببراديغماتها ونماذجها التفسيرية وموضوعاتها وغيرها، لكن لم تكن منغلقة على ذواتها، بل أصبحت تتفاعل فيما بينها منهجيا ومفاهيميا ونظريا، سيما وأنها تتناول نفس الموضوع وهو الإنسان في أبعاده المختلفة والمتعددة، لكن من زوايا معرفية مختلفة وبأدوات منهجية متعددة.

حظي موضوع التكامل المعرفي في العلوم الاجتماعية باهتمام بالغ في الأوساط الأكاديمية الغربية؛ إذ يعود البحث في هذا المجال إلى العشرينيات من القرن الماضي، بالنظر لأهميته الحضارية ودوره في استيعاب نسق الدينامية الثقافية التي تعرفها المجتمعات في مختلف مجالاتها وواجهاتها. إن رهان التكاملية أصبح ضرورة ابستيمولوجية ومجتمعية في الآن ذاته لوضع المشكلات الاجتماعية في سياقاتها الصحيحة، وتداعياتها على تماسك المجتمع وصلابته.

تروم هذه المقالة البحث في هوية التكامل المعرفي في حقل العلوم الاجتماعية للنظر في قيمته الإبستمولوجية من جهة ومساءلة وجاهته المنهجية من جهة ثانية، لاسيما وأن ما تعرفه الحقول المعرفية المعاصرة من دينامية ملحوظة على مستوى المنهج والموضوع، فرض عليها مقاربة جديدة في تناولها للإشكالات البحثية، مما يمكنها من التخلص من أسر الانغلاق التخصصي والتقوقع المنهجي، لكن دون أن تفقد هويتها ومفاهيمها ونماذجها التفسيرية التي تميزها عن غيرها من المجالات. لاشك أن جدل “التخصصية” و”التكاملية” والحوار الفلسفي بينهما يطرح مفارقات جمة، تشمل مستويات العلاقة بين العلوم وطبيعة التداخل بينها فضلا عن المسوغات المنهجية والنظرية التي تعطي المشروعية لهذا التكامل، في ظل الاختلافات الجوهرية التي يمكن أن نجدها بين بعض الحقول المعرفية، خصوصا أنساقها المفاهيمية والنظرية وخلفياتها الفلسفية وطبيعة موضوعاتها.

فما هي المقاربة التكاملية العابرة للتخصصات في العلوم الاجتماعية ؟ وأين تتجلى قيمتها الإبستمولوجية ؟ وكيف تحمي الحقول المعرفية هويتها المنهجية والموضوعاتية ؟ وهل هذه المقاربة إيذان بنهاية التخصص أم تأسيس لفلسفة التكامل المعرفي والتداخل المنهجي الخلاق ؟ فهل تسهم هذه المقاربة في حلحلة مشكلات الظواهر المعرفية أم تذكي طابعها الإشكالي المعقد؟

1.التكامل المعرفي أساس المقاربة العابرة للتخصصات:

يحيل مفهوم “التكامل المعرفي” على مفاهيم عديدة؛ من بينها نذكر “التداخل المعرفي”، “تشابك التخصصات”، “تعدد التخصصات”، “التداخل النصوصي”[2]، “عبور التخصصات”، “المقاربة الشاملة للظاهرة”، “الدراسات البينية” وغيرها من المصطلحات التي تؤكد في مجملها العلاقة الأفقية بين الحقول المعرفية، إذ يتم الانتقال من المجموعة العلمية المستقلة ببراديغماتها ونماذجها التفسيرية والمنهجية وخلفياتها الفلسفية إلى المجتمع العلمي المفتوح على كل العوالم المعرفية لبناء علم عقلاني نسقي لا تأسره التخصصية ولا تحده أطروحاتها ومفاهيمها وخصوصياتها. مما يجعل الفصام النكد بين العلوم ومجالاتها تنحل عقده وعراه، ليحل محله التفاعل الخلاق بين اجتهادات العلوم وإبداعاتها المعرفية بما يخدم العقل العلمي المعاصر المنفتح والمتفاعل ايجابا مع أسئلة المجتمع وهواجسه.

إن “التكامل المعرفي” الذي نعنيه، بهذا الصدد، هو حاجة العلوم والتخصصات لبعضها البعض لإغناء تجربة علمية معينة أو تشييد دعامات معرفية علمية شاملة ومتكاملة، وتهتم تكاملية المعارف وتداخلها بالتبادل الذي يقوم به أشخاص أصحاب تخصصات متعددة في إطار تكاملي أو تداخلي لتقديم خدمات جيدة لزبائن يحملون مشاكل متنوعة؛ مما يضع حدا لانغلاقية التخصص وأحاديته، ومن ثمة يتم تيسير الانتقال بين الحقول بطرق سلسة وبضوابط علمية ومنهجية منظمة ومرنة[3]، وهو ما يمكن “التداخل بين العلوم” من إنتاج معرفة إبداعية خلاقة ومؤثرة في نسق العلم ومداراته الاجتماعية وسياقاته الثقافية.  يستمد التخصص العلمي إذن قيمته في مرونته وقابليته للاستفادة من علوم أخرى مجاورة، وفي قدرته على الاندماج مع الحياة المشتركة التي تفرضها ضرورات المجتمع ومشكلاته المركبة، إذ يتفاعل إيجابا مع القلق السوسيولوجي الذي تخلفه في الأوساط الاجتماعية. إن عمليات الارتحال المعرفي التي تشهدها العلوم فيما بينها تؤكد في نظر همام أن النزعة التخصصية في العلوم إذا تجاوزت حدودها، استحالت حقولا مصطنعة وأنساقا مغلقة تحدث لأغراض غير علمية، وتتحول عندها المعرفة إلى مجرد درجات إدارية وشواهد ميتة، أكثر مما هي تعبير عن مقولات ومناهج وإشكالات وقلق إبستيمولوجي ورهانات علمية واسعة الآفاق[4].

في السياق ذاته يقول رجا بهلول: إن “عبور التخصصات اقتباس أو استخدام مفاهيم أو نظريات أو معطيات أو مناهج من علم معين في علم آخر كما هي الحال في علم الفيزياء الذي يستخدم الرياضيات أو علم الاجتماع الذي يستخدم علوم الإحصاء أو علم النفس الذي يفيد من معطيات العلوم البيولوجية ونتائجها. وذهب إلى أن ذلك كان دأب التخصصات على الدوام قبل أن يبدأ أحدٌ بالحديث عن عبور التخصصات. كما يعني العبور اشتراك عدة تخصصات في دراسة مسألة أو قضية معقدة ذات جوانب متعددة”[5].

يحيل مفهوم التكامل المعرفي، إذن، على معاني عديدة يمكن اقتباسها من التحديد السابق، نذكر من بينها ما يلي:

  • الاتصال أو التواصل والتعاون عبر التخصصات؛
  • جمع مكونات تخصصية مستقاة من مجالين معرفيين مختلفين أو أكثر، وهذه المكونات هي المفاهيم والنظريات والمناهج والقيم والأهداف والمعارف وغيرها؛
  • الاستفادة من المفاهيم والأنساق النظرية والمنهجية التي تطورت في تخصص علمي معين، وتوظيفها في حقل معرفي آخر؛
  • عملية الإجابة على سؤال ، أو حل مشكلة، أو معالجة قضية على درجة من الاتساع والتعقيد بحيث لا يمكن دراستها من خلال تخصص واحد؛
  • تداخل العلوم، تقاطع محاورها، وتكامل معارفها وتشابك مفاهيمها ومناهجها، لكن يحاول كل تخصص أن يحتفظ بمميزاته.

رغم الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا المفهوم في الدراسات الغربية إلا أن الباحثين لم يخفو تعبيرهم عن الغموض الذي يكتنف عملية الخوض في هذا الحقل المعرفي، ليس فقط لأسباب إبستيمولوجية بحتة، لكن كذلك لرهاناته الحضارية والمجتمعية التي تخضع للسياقات الثقافية والبنى الأيديولوجية، إذ إن عوالم العلوم ومجالاتها هي نتاج عقليات متأثرة ببيئتها ونسقها الثقافي ومرجعياتها التاريخية وغيرها من محددات الهوية الفكرية، مما يجعل رهان “التكاملية المعرفية”، ليس فقط مقولة إبستيمولوجية، وإنما كذلك مسوغا فكريا وسندا نظريا لاختيارات اعتقادية سائدة.

فبين من يحدد التكامل المعرفي في التواصل بين التخصصات وحوار المجالات المعرفية، ومن يربطه بهدم البنية التخصصية، يعتبره آخرون فرصة جديدة لمأسسة العلوم وضبط العلاقات البينية بينها، بما يسهم في إغناء التخصصات من جهة وتحريرها من تقوقعها وانغلاقها المنهجي والمعرفي من جهة ثانية. وهكذا غدا “عبور التخصصات” أو تداخل المعارف وتكاملها ذريعة في نظر البعض لهدم استقلالية العلوم وهويتها، لكنها في نظر آخرين مناسبة لتأكيد التواصل والتعاون بينها.

استحال التكامل المعرفي، إذن، مدخلا منهجيا  لا مناص منه لفهم الظواهر الاجتماعية وفك ألغازها وتفكيك بنياتها، لاسيما إذا كان لهذا التكامل وظيفة إنتاجية وإبداعية نقدية، تمكن الباحث من الإلمام بالموضوع في سياقاته الحضارية والثقافية وأبعاده المتعددة لكن دون أن تأسره تحيزات التخصصات ونماذجها الميثودولوجية وخلفياتها الأيديولوجية.  يقول إرنست بوير: “إنه من خلال التكامل فقط يصبح البحث جديرا بالثقة”[6]، فالتكامل هو الذي يضفي المعنى على مجالات البحث العلمي ويسهم في ترميم رضوضه ونتوءاته المنهجية ليكون أكثر تماسكا وقوة في بنائه، حيث تتلاشى مناطق الغموض وتصبح المعرفة الشاملة رهانا ممكنا. وما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق أنه “لا تفقد أية مساهمات تخصصية هنا هويتها الخاصة بها، ولكنها تتشارك في رسم صورة للموضوع من جوانبه المختلفة على أمل أن يساعدنا ذلك في إيجاد حلول أو رسم سياسات قائمة على وعي بالجوانب المختلفة وتأثيراتها في بعضها”[7].

حينما تتواصل المعارف وتترابط وتتشابك مفاهيمها وأنساقها النظرية تصبح الحقيقة العلمية أكثر واقعية وحجيتها أقوى وأمتن.  فالتكامل لا يخلص الباحث من نزعة التمركز التخصصي فحسب، بل يفتح بصيرته المدركة لتنفذ إلى عوالم العلوم المجاورة ليمتح منها ما  يعطي  المشروعية لاهتماماته البحثية ويغني مساراتها الإبستيمولوجية. فالتكامل أو التداخل المعرفي حسب همام ليس مجرد آلية تحليلية أو تفسيرية لظواهر معرفية تتعلق بالعلاقات بين العلوم وتفاعلها لمعالجة إشكالية بحثية[8]، أو تكامل أصناف المعرفة كما يرى الحبابي[9]، لكنه يشكل كذلك أداة لتحقيق غايات نفعية تعود على الزبائن بالنفع العميم، ففلسفة التكامل هذه لم تتحلل بعد من سلطة الاقتصاد والأعمال في نظر همام، لذلك نلفي رهاناتها العملية المادية بارزة، وهو ما يشكل تحديا منهجيا كبيرا بانتقال المفهوم إلى الحقل النظري العلمي وما يستتبعه من تحول قيمي لازب كي يتجاوز التكامل المعرفي أفقه المادية البراغماتية البحتة، لينخرط في مسارات بناء الإنسان من خلال دراسة أبعاده المختلفة وتسليط الضوء على ظواهره المتعددة.

بالرغم من أهمية التكامل المعرفي في تأسيس الحقيقة العلمية وبناء عمارتها المنهجية المتينة، إلا أنها تظل محدودة مقارنة مع فلسفة التداخل  بين العلوم التي تقتضي التناول الشامل بين الحقول المعرفية المتعددة بغض النظر عن اختلافاتها المنهجية والموضوعاتية الجوهرية[10]، كما تسهم في إبداع مفاهيمي وإبستيمولوجي مكثف يغني الظواهر المعرفية تنظيرا وتفسيرا لها.

 

 

2.تكامل العلوم الاجتماعية:

تختلف العلوم الاجتماعية عن علوم الطبيعة في كون هذه الأخيرة تمتاز بالتخصص الشديد تبعا للبراديغمات بتعبير طوماس كوهن، فضلا عن انغلاق مجموعات البحث فيما بينها وفيما بينها والجمهور، بينما في مجال العلوم الاجتماعية الإنسانية فهي تتسم بخصائص عديدة من بينها انتشار الموضوعات وتعدد وتقاطع مجالات الدراسة[11]، وهو ما يعطي المشروعية لأي انفتاح معرفي عابر للتخصصات للإلمام بموضوع البحث في زواياه المختلفة.

إن العلوم الاجتماعية والإنسانية بطبيعتها متداخلة ومتفاعلة في موضوعاتها ومناهجها، ولا مجال لتقديس حدودها، في نظر بشارة، لأن الواقع يؤكد أن كلها علوم تهتم بالإنسان والمجتمع، ولا يمكن شرعنة الفواصل بين العلوم إلا لدواعي مؤسساتية تمليها طقوس المؤسسات وقواعد الدوريات العلمية وأعراف المجتمع العلمي وغيرها، بل لا يمكن للعلوم فصلها عن سياقاتها الثقافية والتاريخية التي تؤكد في معظمها أن إبداع الحدود المعرفية بدعوى التخصص ليس مسوغا إبستيميا صلبا لاستقلاليتها. يقول بشارة : “إن تقسيم العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى تخصصات ليس حتمية رياضية أو نتاج معادلة علمية تحتم مثل هذا التقسيم”[12]، لأن مجمل هذه العلوم هي منتجات ثقافية تاريخية ظهرت في بيئة حضارية معينة، وفي مراحل تاريخية مختلفة، وبالتالي فلا يوجد مبرر مقدس يجعل أي عملية فصل بين هذه العلوم مشروعة، فكما أن الحوار بين الرياضيين والكيميائيين والفيزائيين والطبيعيين وغيرها أصبح ضروريا، بل تم تنظيمه ومأسسته، فالأمر ذاته يكتسي أهمية في مجال الاجتماعيات والإنسانيات “لأن الحدود بينها أشد تعسفا من العلوم الطبيعية”[13].

إذا كان التكامل المعرفي ضرورة منهجية في أي حقل علمي، فإنه يشكل تحديا ابستمولوجيا كبيرا في مجال العلوم الاجتماعية، بحيث صار مدخلا أساسيا لا غنى عنه لبلورة نموذج تفسيري شامل ومتكامل لفهم الظاهرة الاجتماعية، بالنظر لما تتميز به من أبعاد متعددة تشمل تاريخ الإنسان وثقافته ومشاعره وروحه وفكره وهويته الاجتماعية ومنظومته القيمية وعلاقته بالسياسة والاقتصاد والإدارة وغيرها من مجالات تأثيره….فمن غير المنطقي إذن أن تنبري مقاربة علمية واحدة ووحيدة  لدراسة الإنسان؛ إذ يمكن أن لا تنتج عدا افتراضات وتخمينات لا تقرأ الظاهرة في شموليتها وكليتها. إن الانفتاح على عوالم معرفية مختلفة وما تحويه من مفاهيم وعدد منهجية صار لبنة مهمة لتأكيد أهمية التواصل بين التخصصات ، وتحديدا إذا كانت تربط بينها علاقات معرفية واضحة كما هو الحال بالنسبة للعلوم الاجتماعية التي لا تخرج اهتماماتها عن دائرة الإنسان؛ إن في علاقته مع ذاته أو غيره أو مكونات محيطه ومنظومة ثقافته وقيمه.

من الناحية التاريخية لم يكن ظهور العلوم الاجتماعية منفصلا ومعزولا عن متطلبات التكامل المنهجي والإبستيمولوجي، بل كانت استجابة لواقع الانفصام والتشظي في النظر العلمي، لترميمه وردم فراغاته وبياضاته بما يحقق رهان العلمية المؤسسة للفهم الشمولي، فإذا كان بزوغ فجر علم الاجتماع  لم ينفصل عن سياقاته التاريخية والثقافية والاقتصادية والسياسية والنفسية والبيولوجية والجغرافية، فهذا يؤكد حاجة الباحث الاجتماعي الماسة إلى امتلاك أدوات المؤرخ والإثنولوجي والمحلل السياسي والبيولوجي والجغرافي، ليتمكن من فهم واستيعاب الظاهرة المعرفية وموقعها في نسق التحولات التي يمر منها المجتمع الغربي، والتي تعكس في الأخير  تفاعل الإنسان ككائن اجتماعي مع متغيرات منظومته الثقافية.

أضحى القطع مع عصبية التخصص رهان العصر، لذا لا مناص من المساهمة الجماعية في تشييد صرح العلم الجديد من خلال التداخل والتكامل بين المعارف، وهو التوجه البديل عن الأحادية المعرفية التي كانت سائدة لردح من الزمن  سواء في البيئة الغربية أو غيرها، حيث أنتجت “أنموذجا معرفيا فقيرا” لا يفي كثيرا بغرضه التفسيري من حيث وظيفته، ولا يؤسس لمعرفة تحمل معنى الإنسان في أبعاده وتنتشله من وحل القراءات الاختزالية التي لا تفكر حتى في ذاتها. من هنا بدأ التشكيك في “عزلة التخصصات” وانغلاقها، إما لأن المعرفة المنتجة لم تحقق المبتغى أو لأن خلفياتها الأيديولوجية والفلسفية حالت دون إدراك الحقيقة في شموليتها، وساهمت في “تأزيم المعنى” أو إبعاده عن سياقاته القيمية.

إن عبور التخصصات في الدراسات الاجتماعية يعزز من فرص التواصل بين العلوم ويسهم في إنهاء العزلة المعرفية وتقوقع الباحث العلمي على تخصصه، كما يغني الحقول العلمية ويقوي أسسها المنهجية ويفتح رهاناتها على أفق واسعة تخدم الباحث أولا على مستوى مقارباته ونماذجه النظرية التفسيرية حيث يكتسب حسب ما يسميه إدغار موران “وعيا مركبا”[14] يخلخل بنية الفكر البسيط الذي يعتبر الفصل بين العلوم أحد مظاهره، ثم الموضوع ثانيا  لتفكيكه والإحاطة بمختلف إشكالاته والعناوين البحثية المنبثقة عنه، وأخيرا موقعه الحضاري في المجتمع حينما يعكس هويته ويعبر عن هواجسه وتطلعاته. غير أن تساؤلات كثيرة تطرح حول مستقبل التخصص وهويته المنهجية، والقيمة الإبستيمية لهذا الحوار المعرفي بين حقول متعددة. وهي تساؤلات تضع المقاربة التكاملية العابرة للتخصصات على محك الاختبار لمعرفة وجاهتها وموقعها في نسق العلم المعاصر، إذ أصبحت التحديات الاجتماعية جسام، وغدت تحولات المجتمع مطردة. وتتطلب بالتالي نماذج نظرية مفتوحة تستوعب خصوصياتها وتساير إيقاعها وطبيعتها المركبة.

وما يزيد هذه المقاربة وجاهة ويحفظ قوتها هو  أن ما يشهده العصر من تحولات تقنية معولمة وثورة معلوماتية تدعو إلى الانتصار إلى الحوار بين التخصصات والدراسات البينية وعبور حدود العلوم والمعارف، ذلك أن هذا التوجه العلمي الجديد أصبح يعكس مرحلة التطور التي وصلت إليها الدراسات بعد مرحلتي الموسوعية والتخصصية. والتي تسمى في الأدبيات الغربية  بمرحلة “مابعد التخصصية” Postdisciplinarity. لذلك يشكل هذا التوجه حسب جون بول ريزوبرغ علاجا لكثير من الإفرازات السلبية للأحادية العلمية التي سيطرت على نظرية المعرفة لمدة طويلة[15].

حينما يقدم الباحث على دراسة موضوع معين، قد يجد صعوبة في تحديد المقاربة المنهجية المناسبة لتفكيكه ما لم يخض التجربة البحثية، والتي ستنتهي به في آخر المطاف إلى ضرورة الانفتاح على مجالات علمية عديدة، ليأخذ منها زاده النظري الذي يعينه على خوض غمار البحث،  فإذا كان كارل بوبر يعتبر أنه لا يوجد منهج للاكتشاف، بل فقط منهج للإثبات والتفنيد، فهذا يعني أن طبيعة المواضيع هي التي تفرض مناهجها، وهي التي تؤكد أو تفند صلاحيتها ووجاهتها، وبالتالي فالحوار الذي يخلقه الباحث مع موضوع بحثه لا يقوم على عدة منهجية ونماذج نظرية تفسيرية ثابتة لكن هناك تفاعل ابستمولوجي مجدي، ودينامية معرفية متواصلة لا تفضي بالضرورة إلى خلاصات محددة، لكن تذكي الحوار بين الحقول المعرفية والتخصصات العلمية التي تنبري  لدراسة الظاهرة الاجتماعية.

المناهج في العلوم الاجتماعية هي مقاربات تحليلية مختلفة، وتفسيرات مختلفة للظواهر الاجتماعية تقدمها نظريات مختلفة[16]، فهذا الاختلاف هو ما تغنيه المقاربة العابرة للتخصصات ليسهم في بناء تحليل شامل للظاهرة الاجتماعية بما يتواءم مع خصوصياتها كظاهرة لها جذورها في التاريخ وتأثيرها في ثقافة الإنسان ونسق قيمه، وهي من وحي تفاعله مع الجغرافية الاجتماعية ومداراتها، لتعبر عن تحولات المجتمع وديناميته الثقافية.  لاشك أن هذه النسقية التي تميز السياق الاجتماعي للظاهرة الإنسانية هي التي تلزم الباحث بهذا التكامل المنهجي والنظري، ليتخذه مدخلا ميثودولوجيا في بنينة الواقع الاجتماعي موضوع البحث كي يكون مؤهلا بشكل واضح للدراسة العلمية.

فلا يمكن إذن تفسير الاجتماعي بالاجتماعي فقط كما يزعم إميل دوركايم، بل يحتاج إلى منطلقات أخرى يتشابك معها، يتعلق الأمر هنا بالنفسي والثقافي والسياسي والتاريخي والاقتصادي والإداري والطبيعي وغيرها من المجالات التي تشكل معالم الفعل الاجتماعي كفعل قصدي واعي ومتغير ومعقد في تركيبته ومتعدد في أبعاده. يقول كلينKlein: “عبور التخصصات هو عملية الإجابة على سؤال، أو حل مشكلة، أو معالجة قضية على درجة من الإتساع، أو التعقيد بحيث لا يمكن دراستها من خلال تخصص واحد”[17].

فظاهرة الفقر نموذجا كمشكلة اجتماعية تقض مضجع المجتمعات، لا يمكن اعتبارها متغيرا اجتماعيا بحتا، لكنها تتشكل كنتاج لعوامل عديدة تتشابك وتتفاعل، لتصنع الفقر كواقع اجتماعي معقد له موقعه في سياسة البلد، وأساسه في التاريخ والثقافة، وتأثيره على منظومة القيم والتمثلات، كما له تبريره في سيكولوجيا الفقير المقهور والمهمش المستبعد، فضلا عن الأسباب الاقتصادية والإدارية التدبيرية التي لا يمكن استبعادها لفهم الظاهرة وتفكيك ألغازها. وهذا الطرح ينسحب على كل الظواهر الإنسانية التي لا تخضع للتنميط والثبات، مما يؤكد ضرورة امتلاك رؤية معرفية متكاملة عابرة للتخصصات لاستيعاب منظومتها وموقعها في نسق المجتمع وديناميته ومساءلة المسكوت عنه في الظاهرة أو المغلق الذي يأبى الانشراح. وما ينسحب على الظاهرة الاجتماعية يمكن إسقاطه على الظاهرة النفسية والتاريخية والثقافية والسياسية وغيرها من الظواهر الإنسانية، لأنها محكومة بنفس الشروط وزوايا مقاربتها متعددة ومختلفة، مما يؤكد ضرورة فتح حوار بين التخصصات لتستفيد من بعضها البعض، وتغني تجاربها وتدعم صروحها المنهجية لتكون أمتن وأقدر على مساءلة الواقع الإنساني المركب والمتشابك مع سياقات ثقافية واجتماعية متعددة ومعقدة.

ثمة العديد من الأمثلة التي تؤكد أن التكامل بين العلوم الاجتماعية ونظرياته لم يعد اختيارا، بل أصبح ضرورة وتحدي في الآن ذاته، فإذا أخذنا “التربية” كمجال للبحث والدراسة، يمكن أن نجد أن تناولها ليس حكرا على علماء التربية فحسب، لكنها تعتبر محور اهتمام العديد من التخصصات التي تنبري لمقاربتها انطلاقا من مفاهيمها وأنساقها النظرية والمنهجية، من بينها نذكر فلسفة التربية، سوسيولوجيا التربية، علم النفس التربوي، الاقتصاد التربوي، التشريع التربوي، البيداغوجيا، الديداكتيك، تاريخ التربية، الجغرافيا الاجتماعية، السياسة التربوية، الديموغرافيا، الإدارة…. وغيرها من العلوم، والأمر ذاته ينسحب على مختلف المواضيع الاجتماعية المركبة التي تحتاج إلى ما يسميه موتاي دوجانMottaeDogan وروبر باهر Robert Pahre بتخصصات ما وراء الحدود[18]، إذ هي مقاربة تسهم في نظرهما في إبداع معرفي مهم في حقل العلوم الاجتماعية، كما تفضي بالباحث إلى نتائج ذات أهمية قصوى يمكن أن تطور العلم وتحرره من انحساره وانغلاقه.

إذ كانت النزعة الوضعية “العلمية” تتبنى تفسير الظواهر الإنسانية على شاكلة الظواهر الفيزيائية في العلوم الحقة، فإنه من شأن ذلك أن يفرغ الظاهرة من قيمتها وجوهرها، لأنها ليست أنساقا مادية ثابتة أو أبنية ساكنة وراسخة، وقد توقعه في مطبات الاجتزاء والاختزال بالنظر إليها بوصفها أشياء كما قال دوركايم. فما تنطوي عليه الوقائع الإنسانية من معاني ودلالات ثقافية وتاريخية وقيمية واجتماعية ونفسية، تفصح عنها من خلال محاولة تأويلها وفهمها، يؤكد أن العلوم الاجتماعية تتسم بوضع إبستمولوجي خاص يستوجب التفكير في أداة منهجية مناسبة تلائم خصوصيات الظاهرة الإنسانية، لمضاهاة ديناميتها وحياتها الفكرية والثقافية التي تلازمها، ولتحقيق هذا الرهان لا بأس من الاستفادة من مختلف النماذج العلمية والمعايير المنهجية كيفما كانت طبيعتها ومجالاتها وفلسفتها، فضلا عن الانفتاح على الحقول المعرفية المتلاقحة والمتداخلة[19]. التي بإمكانها أن تساهم في تبديد الغموض الذي  يشوب الظواهر والإشكالات.

إن التعدد المنهجي لا يفقر الحقل المعرفي أو يطمس الحقيقة العلمية للظواهر الاجتماعية، بل يساهم في تشييد صرحها وتمكين دعاماتها المنهجية؛ لذلك فمحاولة الجمع بين فلسفتين منهجيتين أو أكثر، يمكن أن يؤسس لمنهج اجتماعي يعكس حقيقة الموضوع السوسيولوجي وخصوصياته، ويساير في الآن ذاته المستجدات العلمية؛ فإذا كانت ظواهر المجتمع تتلون بألوان السياقات الاجتماعية والثقافية، وتتأثر بالمعطيات التاريخية والعوامل النفسية والإديولوجية للفاعلين، فإن محاولة تفسير بنيتها وطريقة تشكلها والإطار العام الذي تندرج ضمنه يتطلب الإحاطة بمختلف المتغيرات الرئيسة والمستقلة المرتبطة بها، والتفسير هنا لا يتوقف عند بنية الظاهرة فقط ونسقها الخارجي، بل تفسير كذلك سلوك الفاعلين، من خلال صرف النظر لأسباب أفعالهم وكيفية حدوثها، وباستحضار البنية العامة التي تشكل الإطار والمرجعية الثقافية والاجتماعية لتلك السلوكات.

3.مسوغات التكامل المعرفي في العلوم الاجتماعية ورهاناته الحضارية:

إن مسوغات التكامل كثيرة، وأبرزها: طبيعة الإنسان المعقدة والمتداخلة، فالإنسان ليس جسدا فقط، بل هو روح وثقافة وإرادة ووعي وتاريخ وفكر وأخلاق …، فليس شخصا معزولا منفصلا عن عالمه، بل هو ذات اجتماعية لها هوية تستمدها من جذورها التاريخية العريقة، ومن تفاعلها مع ظواهر المجتمع وديناميته، ومن خلال موقعه المؤثر. وبالتالي فداخل كل إنسان شخصيات ومجالات وعوالم متداخلة. وهذا يعني أن فهم الظاهرة الإنسانية لا تقتضي زاوية واحدة أو مقتربا منهجيا أحاديا بل وجهات نظر مختلفة وتخصصات كثيرة. “من هنا فالأمر يحتاج إلى إلغاء الحواجز المصطنعة بين مختلف المعارف، وإتاحة فرصة لهذا الحوار، على أساس أن كل تفحص أو معرفة يبقى نسبيا، ويدرك عمق حاجته للمعارف والتخصصات الأخرى، فالتداخل إذن يبحث عن صيغة للتواصل بين مختلف الأبعاد المكونة للإنسان، الفيزيائية والبيولوجية والروحية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، للإجابة عن مشكلات الإنسان”[20] والرقي بواقعه الاجتماعي وترميم نتوءاته وإشكالاته، فضلا عن كونه يشكل ضرورة أخلاقية وتربوية لتقويم التفكير الأحادي البسيط ليرقى إلى مستوى الوعي المركب بالوجود الإنساني وأبعاده.

والمسوغ الثاني علمي محض، ويتمثل في السعي إلى تأكيد  أهمية توحيد المعرفة وحماية نسقيتها وشموليتها لتكون فعالة وناجعة في بناء الواقع العلمي، وهو ما يستدعي ضرورة إيمان الباحث بتداخل العلوم وتكامل التخصصات وإن اختلفت الظواهر وتعددت سياقاتها وأسبابها، مما يفرض عليه الإلمام بالعلاقات البينية بين الحقول المعرفية ليمتح منها ما يقوي دعواه، ويثبت وجاهة تفسيراته وفروضه وخلاصاته البحثية. إن العلوم حينما تتكامل وتتداخل تتجاوز عجزها الداخلي وقصورها المنهجي، بل وتفكر في ذاتها بتعبير هايدغر، حيث تسائل إمكانياتها وتختبر قدرتها على النفاذ إلى عمق الظواهر المبحوث فيها والإشكالات المعرفية الشائكة. إن التكامل هو الروح العلمية الجديدة للعلوم الاجتماعية لتطوير نفسها وفهم جذور أزمتها كذلك. وهو المدخل بتعبير بشارة لتجاوز تحدياتها ومواجهة همومها.

لا تنحصر قيمة التكامل المعرفي في مجال العلوم الاجتماعية في أبعادها الإبستيمولوجية البحتة، بل تشمل خيراته وحسناته المجتمع  ذاته، إذ يشكل ضرورة حضارية وثقافية، وملاذا آمنا للاحتراز من الاختزالية المنهجية والتجزيء التخصصي، وهو كذلك شرفة يطل من خلالها الباحث على عوالم شتى ومدخل لقراءة الموضوع في زواياه المتعددة والمختلفة. يقول عزمي بشارة منتقدا الطلاق القائم بين التخصصات: ” توصل اقتصاديون إلى نتائج خاطئة نتيجة لعدم معرفة الثقافة السائدة في مجتمع ما، وتوصل علماء اجتماع إلى نتائج خطيرة بإطلاق تعميمات وتخمينات دون معرفتهم تاريخ المجتمع الذي يدرسونه، ومؤرخون اختزلوا التاريخ في الصراعات بين الدول والسياسيين وتعاقبهم على الحكم وهمشوا المجتمعات والعلاقات الاجتماعية والثقافية، وعلماء سياسة وعلاقات دولية لا يقدمون لنا فهما أعمق لما يدور من زملائهم الصحفيين لأنهم أهملوا الاقتصاد والسياسة والثقافة والتاريخ عند دراستهم للسياسة والعلاقات الدولية، كما أن ابتعاد التخصصات عن الحوار مع الفلاسفة والمفكرين أفقدها شرفات مطلة على الأسئلة الإنسانية الكبري، وفوت عليها فرصة لصياغة الأسئلة المتعلقة بالبعد الأخلاقي في العلوم الاجتماعية…”[21]. إذا كانت هذه الأمثلة تدحض أي مقاربة معرفية تخصصية، فلأن تداعياتها يمكن أن تكون وخيمة، لاسيما حينما يتعلق الأمر باختيارات الشعوب ومصائر أوطانها ووضعية اقتصادها وثقافتها وإشكالاتها التاريخية، وغيرها من القضايا المهمة، إن هذا يؤكد أن “تكاملية العلوم” ليس مطلبا معرفيا فحسب، لكنه ضرورة حضارية لتفكر الأمم في ذواتها وتنظر إلى أزماتها بعين شاملة ورؤية متكاملة، وتسخر نتائج العلوم لصالح مستقبلها ومساراتها في التغيير، بمنأى عن الانتصار للأطروحة الانفصالية التي خلفتها “النزعة التخصصية”.

“إنه من المفيد بل من الضروري، بتعبير بهلول، أن تتعاون التخصصات في بحث القضايا المعقدة متعددة الجوانب، وأن يكون المختصون مستعدون لمناقشة بعضهم البعض والتعلم من بعضهم البعض…”[22]، وهذا يستوجب، كما أسلفنا الذكر، مرونة في التعامل، وتفكيرا نسقيا في النظر، وتوظيفا ذكيا للنظريات والمفاهيم والمناهج من حقول معرفية شتى. دون أن يفقد التخصص هويته المزعومة أو استقلاليته.

قد لا نبالغ إذا، إن قلنا إن التكامل المعرفي بين العلوم أساس ذات حضارية قوية ومتماسكة، ذلك أن امتلاك الرؤية الشاملة المتكاملة تشكل  مصدر اعتزاز وفخر للباحث، إذ تمكنه من تحصين منظاره العلمي من الاختزالية والاجتزاء، وتصون هويته الثقافية من الاستلاب والاغتراب. فلا مناص إذا من فلسفة تعليمية منهاجية تحقق هذا الرهان المجتمعي وتسهم في إدارته نظريا وعمليا. فطالب اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى زاد معرفي ومنهجي متكامل يمخر به عباب الواقع الاجتماعي المعقد، مفككا شفراته ومحللا حيثياته وأبعاده، بما يخدم مشروعه الحضاري.

وعليه، فوضع التكامل المعرفي في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي شامل مدخل مهم لضمان نجاعته الحضارية وأثره الإصلاحي، سواء على مستوى تطوير العلوم وتجديد رؤاها ونظرياتها ومفاهيمها، أو على مستوى استيعاب دينامية المجتمع وتحليل ظواهره المعقدة التي قد تعيق مسار التنمية وتحول دون تحقيق المبتغى. من هذا التأسيس النظري انطلقت العديد من المؤسسات  والمنظمات والدول والفضاءات الأكاديمية إلى مأسسة التكامل وتثبيت دعاماته ليكون رافدا منهجيا ومعرفيا مهما في تحقيق رهانات الإصلاح المنشود وتغيير البنى التقليدية للعلوم وفلسفتها التقليدية.

إن إيجابيات تداخل المعارف وتكاملها غزيرة؛ لكنها بدون أدنى شك تحتاج إلى مناخ ثقافي واجتماعي وسياسي وأكاديمي ملائم يضمن لها القدرة على التأثير الفعال في نسق المجتمع ومكوناته.

  1. المقاربة المعرفية العابرة للتخصصات على محك التساؤل:

لم تسلم هذه المقاربة من معوال النقد وسهام المساءلة، سيما وأنها تعتبر في نظر البعض بداية نهاية التخصص، بما يعنيه من احترام لخصوصيات الحقل المعرفي وهويته المنهجية والمعرفية واستقلاليته، فضلا عن مفاهيمه ونماذجه النظرية التفسيرية، وبالتالي فكل حوار مرتقب بين التخصصات والمجالات العلمية ينذر بالذوبان وانتفاء التميز الذي يراهن عليه كل مجال علمي في منطلقاته النظرية وأدوات تحليله وتفكيكه، مما يضع الفواصل القائمة بين العلوم الاجتماعية على المحك لحسم حدودها وطبيعة تفاعلها وصلاحياتها كذلك.

يتساءل البعض، إذا كان الباحث في علم الاجتماع بحاجة إلى أداوت المؤرخ، ومفاهيم الاقتصاد، ونظريات السياسة، وتجارب الجغرافي، وغيرها…فما الفائدة من التخصص ؟ وهل من مسوغ لها في ظل وجود علاقات أفقية وعمودية بينها ؟ سيما وأن العديد من الاتجاهات النظرية من قبيل الوظيفية والبنيوية والتطورية والانتشارية والوضعية وما بعد الحداثة وغيرها ليست حكرا على تخصص محدد، بل تشمل كل المجالات وتتقاطع مع كل العلوم، وهو ما يؤكد في نظر آخرين الاستغناء عن التخصصية وإن كانت مطمحا ابستيميا مستبعد التحقق.

ويتساءل آخرون: إلى أي حد يمكن للباحث في العلوم الاجتماعية أن يوظف مختلف المفاهيم التي اكتسبها في مجال علمي محدد في تخصص آخر مغاير ؟ وما مدى صلاحية ذلك ؟ لاسيما وأننا نعلم أن إبداع المفاهيم في بحر العلوم الاجتماعية لا ينفصل عن نظرة الباحث للوجود ورؤاه للعالم وموقعه كذلك الحضاري فضلا عن خلفيته الإديولوجية والثقافية التي تشكل هويته العلمية أحيانا. وبالتالي فمأزق التكامل هنا يتمثل في كون الباحث قد يصبح أسير نسق نظري غريب عنه أولا بالنظر لوجوده الثقافي، وباستحضار  موقعه المعرفي الذي يجسده تخصصه على مستوى تاريخه ونظرياته ومفاهيمه ولغته وفلسفته. ألا يمكن إذن للباحث أن يفقد جزءا من هويته حينما يضطر إلى تذويب ذاته العلمية بداعي تحقيق التكامل والانفتاح العابر على التخصصات من نفس المجال ؟ وكيف يمكن للتكامل المعرفي أن يعكس ضرورته الحضارية المنتظرة في ظل الاستلاب الذي قد يسهم في تشكيل أبعاده الثقافية والعلمية؟ وما مدى مصداقية المعارف والاستنتاجات التي تنتج عن الرحلة العلمية العابرة للتخصصات؟ وهل الاختلافات التي تطبعها تقوي من أواصر التواصل بين التخصصات أم ستعمق الهوة فيما بينها خصوصا إذا كانت الأسس النظرية والمنهجية والإيديولوجية للعلوم مختلفة ومتباينة ؟

إن هذه التساؤلات تخفي من ورائها حسب بهلول حقيقة مفادها أن لا داعي لعبور التخصصات” وكل الخطاب المستفيض حوله لا يفضي إلا لتعميق البون بينها، فالرؤية  المعرفية التكاملية التي يراهن عليها المدافع عن فلسفته ظلت مطمحا تعجيزيا أو لنقل هدفا مستعصيا طالما تختلف الحقول المعرفية وتتباين في أنظمتها المنهجية والقيمية، لذا لا مناص من العودة إلى التخصصية لتمكين أسسها النظرية والميثودولوجية وتطويرها لتجيب عن الأسئلة الشائكة والمبهمة التي تطرحها. أما البحث في الرحلات العابرة فهو أمر ثانوي حسب رجا بهلول[23].

إن موضوع التكامل المعرفي الذي تستند إليه المقاربة العابرة للتخصصات بات موضوعا غامضا ولا يفارقه الالتباس، مما يجعل تفعيله والعمل به في الأوساط الأكاديمية والمؤسسات الجامعية رهانا صعبا ومعقدا[24]، وبالتالي فاستعارة المفاهيم والنظريات والمناهج لعلوم معينة وتوظيفها في مجال تخصصي مغاير، يسائل صلاحيتها ويكشف كذلك عن قيمتها وتأثيرها العلمي، سيما في ظل الاختلافات الجذرية التي توجد بين التخصصات. وإذا كان لابد من عبور التخصصات لتسليط الضوء على جوانب موضوع الدراسة، فإن حدود التواصل بين مختلف المقاربات النظرية المستقاة من علوم مغايرة تظل مبهمة وأحيانا متنافرة في منطلقاتها وخلفياتها.

خاتمة:

من خلال ما درجنا على ذكره في هذا المقال يتبين أن التكامل المعرفي لم يعد فقط رهانا ابستيمولوجيا للعلوم الاجتماعية لتطوير أنساقها وعلاقاتها البينية وتشييد أسسها المنهجية على التكاملية الناجعة، بل يبقى كذلك ضرورة حضارية ومجتمعية، لما يمكن أن يحققه من أهداف جليلة على مستوى فهم الواقع الاجتماعي المعقد وتفكيك ألغازه واستيعاب ديناميته وتسليط الضوء على ظواهره الكثيرة.

لكن رغم هذه الأهمية، التي وسمت تكاملية العلوم  الاجتماعية  في اللحظة المعاصرة، إلا أنها لم تسلم من النقد والتمحيص لأنها ظلت مقاربة معرفية غير قادرة على تأكيد حجيتها في مجال العلم المعاصر ونسقه، ومن ثمة توضيح منطقها وفلسفتها، وإجلاء حدود العلاقة بين الحقول المعرفية المتعددة التي تتأسس عليها. فإذا كانت هوية هذه التخصصات مختلفة ونظرياتها ومفاهيمها وأسسها الإبستيمية أحيانا متعارضة، فإن الوصل بينها يمكن أن تحول دونه حوائل منهجية، وبالتالي يظل سؤال تفعيل فلسفة التكاملية في الدراسات الاجتماعية موضوعا شائكا، لا يزال يحتاج إلى مزيد من الكتابات والإسهامات العلمية الرصينة لنفض غبار الغموض عنه من جهة، وتوفير البيئة المعرفية المناسبة لتطويره، ليسهم في تطور العلوم والمجتمع العلمي على حد سواء..

 

 

المراجع:

  • الحبابي، محمد عزيز، من الشخصانية إلى الغدية، مجلة المناظرة، 1989..
  • دنيا الأمل، إسماعيل، دور التعليم في تعزيز الهوية الوطنية، مجلة فلسطينية، العدد10/12. رابط المجلة: http://yaf.ps/server/uploadedFiles/docs/palasinians-issuse12/10.pdf
  • رجا بهلول، محاضرة حول مفهوم عبور التخصصات، برنامج السيمنار الأسبوعي الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الأربعاء 14 آذار/ مارس 2018.
  • عزمي بشارة، “في أولوية الفهم على المنهج”، مجلة تبين، العدد30/8، خريف 2019.
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ“ تحديات امام العلوم الاجتماعية والإنسانيات في السياق العربي“ المحاضرة الافتتاحية للسنة الدارسية 2017-2018.
  • قسطاني بن محمد، في سوسيولوجيا السوسيولوجيا المغربية، تنسيق عياد أبلال، باحثون، يونيو 2019.
  • همام، محمد. مفهوم التكامل المعرفي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1،
  • ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي: دراسة في العلاقات بين العلوم، مركز نماء للبحوث والدراسات، 2017.

 

  • Boyer, Ernest, Scholarship reconsidered: Priorities of Professoriate. Princeton, NJ:Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching, 1990.
  • Edgar Morin, relier les connaissance : le défi du XXl éme siècle, Seuil, Paris, 1999.
  • Klein, Julie Thompson, Crossing Boundaries: Disciplinarities and Intedisciplinarities. Charlottesville: University of Virginia Press.
  • Mottae Dogan et Robert Pahre, l’innovation dans les sciences sociales, la marginalité créatrice, PUF, 1981.
  • Said, Edward. Traveling Theory in the World: the Text and the Critic. London :Faber and Faber, 1983.
  • Wasserstrom, Jeffrey N. Expanding on the I-Word,Chronicle of Higher Education, v.52,n.20, 2006.

 

 

[1]  باحث في السوسيولوجيا، وأستاذ الفلسفة بالثانوي التأهيلي-المغرب.

[2]Said  Edward. Traveling Theory,.In The World, the Text, and the Critic. London: Faber and Faber, 1983, p 234.

[3]محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي: دراسة في العلاقات بين العلوم، مركز نماء للبحوث والدراسات، 2017، ص68.  

[4]  محمد همام، مرجع سابق، ص7.

[5] رجا بهلول، محاضرة حول مفهوم عبور التخصصات، برنامج السيمنارالأسبوعي الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الأربعاء 14 آذار/ مارس 2018. اطلعت عليه على الرابط الآتي: https://www.dohainstitute.org/ar/Events/Pages/Bahloul-Seminar-Interdsciplinarity-in-Social-Sciencies.aspx يوم 06/11/2019.

 

[6] Boyer, Ernest. Scholarship reconsidered: Priorities of Professoriate. Princeton, NJ:Carnegie Foundation for the Advancement of Teaching, 1990.p16.

[7] رجا بهلول، محاضرة حول مفهوم عبور التخصصات، مرجع سابق.

[8]همام، محمد، مفهوم التكامل المعرفي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1،2012، ص55-108.

[9]الحبابي، محمد عزيز، من الشخصانية إلى الغدية، مجلة المناظرة، س ،1ع ،2جمادى الأولى،1989، ص17.

[10]همام، محمد. مرجع سابق، ص60.

[11] قسطاني بن محمد، في سوسيولوجيا السوسيولوجيا المغربية، تنسيق عياد أبلال، باحثون، يونيو 2019، ص67.

[12]  عزمي بشارة، تحديات أمام العلوم الاجتماعية والإنسانيات في السياق العربي، المحاضرة الافتتاحية للسنة الدراسية 2017-2018، منشورات مركز الدوحة، ص1.

[13]  بشارة، مرجع سابق، ص 2.

[14]Edgar Morin, relies les connaissance : le défi du XX éme siècle, Seuil, Paris, p : 471.

[15] محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص، مرجع سابق، ص84.

[16] عزمي بشارة، “في أولوية الفهم على المنهج”، مجلة تبين، العدد30/8، خريف 2019،  ص10.

[17]Klein, Julie Thompson,  Crossing Boundaries: Disciplinarities and Intedisciplinarities. Charlottesville: University of Virginia Press.1996.

[18]Mottae Dogan et Robert Pahre, l’innovation dans les sciences sociales, la marginalité créatrice, PUF, 1981.

[19] محمد همام، مرجع سابق، ص 85.

[20] محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي، مرجع سابق، ص88.

[21]عزمي بشارة، المحاضرة الافتتاحية بعنوان تحديات أمام العلوم الاجتماعية والإنسانيات في السياق العربي، منشورات معهد الدوحة للدراسات العليا، 2017-2018، ص3. https://www.academia.edu/37441038/%D9%85%D8%B9%D9%87%D8%AF_hk!v

[22] رجا بهلول، مرجع سابق، ص17.

[23] رجا بهلول، مرجع سابق، ص 14.

[24]Wasserstrom, Jeffrey N, Expanding on the I-Word, Chronicle of Higher Education, v.52,n.20, 2006, p85.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات