728 x 90

العبيد والديمغرافيا التاريخية . هشام مرزوق

العبيد والديمغرافيا التاريخية . هشام مرزوق

 

  العبيد والديمغرافيا التاريخية

قراءة في مداخلة الأستاذ عبد الإله بنمليح “المظاهر الكمية للرق في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط”

 

نظم مركز “اختيارات مركز الحَسُّو للدراسات الكمية والتراثية” أمسية فكرية موسومة بـ “المظاهر الكمية للرق في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط” أطر هذه الأمسية المؤرخ المغربي عبد الاله بنمليح، وهو أستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. الأمسية الثقافية كانت من تسيير الأستاذة لمياء الغزاوي. وذلك يوم الجمعة 29 أكتوبر 2021.

 

استهل الأستاذ بنمليح مداخلته، بالتطرق للعنوان الذي اختاره مؤطرا لمداخلته، وانسجاما مع الخط التحريري لمركز الحسو. وهكذا فعنوان المداخلة يحيل إلى شطرين: الشطر الأول يحيل على المظاهر الكمية المستنبطة من المعطيات الأدبية التي تستعمل صيغا من قبيل: كثير، وفير وجم غفير… في حين يحيل الشطر الثاني من المداخلة الذي جاء بصيغة مركبة على المظاهر الكمية المستنبطة من المظاهر الرقمية الواردة في المصادر التاريخية (الأرقام، والأعداد…). من هذا المنطلق يرى الأستاذ بنمليح أن عمل المؤرخ يكمن في استنطاق النصوص والروايات متسلحا بالمنهج المقارن تارة، والمقابلة تارة أخرى.

انطلاقا من استهلال الأستاذ بنمليح الذي يجعل من أربعة أسئلة مهمة أي باحث يرغب في الخوض في موضوع الديموغرافيا التاريخية والدراسات الكمية، لابد لأي باحث يعمل على إعادة بناء حدث اجتماعي أو سياسي أو ديمغرافي، أن ينطلق من الأسئلة التالية:

  • هل تعبر المعطيات الأدبية عن معطيات رقمية يمكن أن تكون غائبة أو مغيبة؟
  • هل يمكن الاطمئنان إلى المعطيات الرقمية الواردة في المصادر والسجلات، باعتبارها صادرة عن السلطة السياسية وطابعها الرسمي (الحاكم، القاضي، المحتسب…)؟
  • ما هي الخلفية الكامنة وراء كل المعطيات الأدبية والمعطيات الرقمية؟
  • هل يمكن للتناقضات القائمة في المعطيات بشقيها الأدبي والرقمي أن تشكل في بعض الأحيان عملا للمؤرخ؟

في هذا الإطار سيستعرض الأستاذ بنمليح ثلاث خطوات رئيسية قي مداخلته:

أولا: تبيان مقتضب لأهمية المقاربة الديمغرافية ونجاعتها في حقل التاريخ؛

ثانيا: عرض لنماذج وتجارب متنوعة ورائدة في الاتجاه الكمي والدراسات الديموغرافية؛

ثالثا: الرقيق في الغرب الإسلامي الوسيط من زاوية كمية، من خلال ثلاثة مباحث رئيسية، السوق، الأسعار والعدد.

أولا: تبيان مقتضب لأهمية المقاربة الديمغرافية ونجاعتها في حقل التاريخ

  • سياق خاص: الديموغرافيا التاريخية بالمغرب

عمد الأستاذ بنمليح أولا إلى تبيان أهمية مقاربة الديموغرافيا التاريخية ونجاعتها في حقل التاريخ، حيث أرجع اهتمامه بحقل الديمغرافيا التاريخية إلى اهتمام شخصي أولا، ثم دعوة مجموعة من الباحثين بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة، من أجل التأسيس لمجموعة بحث تعنى بالديموغرافيا التاريخية سنة 1994.

وقد نتج عن هذه المبادرة تخصيص محور خاص بالديمغرافيا التاريخية ضمن المجلة التي تصدرها كلية الآداب بشكل دوري، وهو الأمر الذي كان جديدا على الساحة الثقافية عموما، والتاريخ على وجه الخصوص بالمغرب أنداك. ومباشرة بعد هذه الخطوة سيبدأ التفكير في مأسسة هذه الجهود وبلورتها في إصدار مجلة خاصة بالأبحاث الديموغرافية التاريخية وسمت بــ “كنانيش”، ومصطلح كنانيش يحمل أكثر من دلالة، خاصة في موضوع الديموغرافيا، هذه المجلة التي ستتوقف بشكل نهائي بعد إصدار العدد الرابع للأسف.

ثم وفي إطار الجهود المبذولة للخوض في موضوع الديمغرافيا التاريخية، ستعقد “الجمعية المغربية للبحث التاريخي” أيامها الوطنية سنة 1999 حول موضوع: “الديمغرافيا في تاريخ المغرب”.

هذه المبادرات في مجال الديموغرافيا التاريخية ستأتي أكلها وستحقق نتائج إيجابية، وهو ما سيتجسد من خلال حضور الديمغرافيا التاريخية في معظم البحوث والأعمال الأكاديمية التاريخية المغربية اللاحقة. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال التصفح السريع لعناوين المواضيع التاريخية والأطروحات الجامعية المنجزة، وحضور البعد الكمي في هذه البحوث.

  • سياق عام: نشأة الديموغرافيا التاريخية

بالنسبة لسياق نشأة الديمغرافيا التاريخية فهو سياق فرنسي محض، فقذ نشأت بصورة فعلية في فرنسا خلال منتصف القرن العشرين، حيث ولدت في المعهد الوطني للدراسات الديمغرافية (Institut national d’études démographiques)، وكان من بين الدراسات السباقة إلى اعتماد المنهج الكمي في هذا الباب دراسة مشتركة بين  لويس هنري (Louis Henry) وميشيل فلوري (Michel Fleury)، les registres paroissiaux à l’histoire de la population. Manuel de dépouillement et d’exploitation de l’état civil ancien حول موضوع الحالة المدنية، ويقوم هذا المنهج على تجميع العقود المتوفرة وفق أسماء النسب وتنزيلها في جذاذات أسرية تتضمن تواريخ الميلاد ومكانه وتاريخ الوفاة.

لقد تحققت هذه النتائج بفعل انفتاح الديموغرافيا على حقل التاريخ، وتبنيها للمقاربة التاريخية، فقوبل هذا الامر باهتمام كبير من قبل المؤرخين المهتمين بالديموغرافيا، وهذا التحول وقع مباشرة بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ومباشرة سيتأسس في فرنسا المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية INED)) سنة 1952، ولم تقف الاعمال المهتمة بالديمغرافيا التاريخية، بل تتابعت مع كل من بيير كوبير(Pierre Goubert)  ولويس هنري (Louis Henry) وميشيل فلوري (Michel Fleury) ومارسيل غينهارت (Marcel Reinhard)، وستتعزز هذه الجهود بإنشاء مؤسسة الديموغرافيا التاريخية سنة 1963 وإصدار المجلة المتخصصة “حوليات الديموغرافيا التاريخية les annals de démographie historique””.

سيكون من بين النتائج المهمة التي تحققت بفعل تطور الديموغرافيا التاريخية على مستوى الموضوع والمنهج وتأثر بلدان بلجيكا وسويسرا وكندا والولايات المتحدة الامريكية والبرازيل بهذا المنهج الكمي، وسيسهم هذا الامتداد المجالي والتلاقح بين الديموغرافيا والتاريخ ولادة الأنثروبولوجيا التاريخية، وتوطد علاقاتها بالديموغرافية التاريخية، وتجاوز النظر إلى التاريخ الكمي كموضة عابرة، بل سيتحقق تراكم مهم في هذا المجال.

ونتيجة لذلك، فقد تطور وعي المؤرخين الديموغرافيين، وأصبحت الرغبة كبيرة في توسيع مجالات موضوعاتهم، خصوصا المؤرخون الجدد الذين أولوا الاهتمام بشكل أكثر بمشاكل التمثيلية.

وبهذا تكون الديموغرافيا التاريخية قد راكمت أبحاثا مهمة خاصة خلال العقود الأخيرة، بالرغم من المشاكل والثغرات والسلبيات التي تعتري الديموغرافيا التاريخية، وهذا في حد ذاته دافع قوي لهذا الحقل، فبناء على نقط الضعف وليس القوة تتحدد التوجهات المستقبلية لكل حقل معرفي.

ومن بين السلبيات التي حصرها الأستاذ بنمليح يمكن الإشارة إلى:

  • فقدان الوهج والتوهج الأول لآليات إعادة تأسيس الأسر بناء على قياس الخصوبة الطبيعية التي تحولت إلى دراسة تهم زوجين في انعزال تام وعدم مراعاة توالي الأجيال؛
  • المفارقة القائمة بين التقنيات المفرطة في الدقة وبين بساطة التوظيف؛
  • الاحتكام لصالح توسيع البحث على المستوى الجغرافي على حساب بلدان أخرى وكرونولوجيا يمتد لحقب وعصور أخرى، وببليوغرافيا للاستفادة من جميع أنواع المصادر ومن تعدد التخصصات.

ويمكن تلخيص هذه السلبيات وسبل تجاوزها وعدم الوقوع فيها، في مقولة شاملة للباحث في الديموغرافيا التاريخية “جاك دوباكيي” وهو أحد الممارسين المرموقين للديمغرافيا التاريخية “إن الطريقة التي يتم بها تجاوز هذه الصعوبات هي الكفيلة بان تسهم بنصيب وافر في رسم مستقبل الديموغرافيا التاريخية”. ويقول أيضا “لقد أدخل لويس هنري في العلوم الاجتماعية التحليل المجهري المبني على مزواجة المعطيات الاسمية، وهو ابتكار يشابه في أهميته اختراع المجهر في العلوم الاجتماعية”.

ويختم الأستاذ بنمليح هذا المحور بالتطرق لمجمل التقنيات المعتمدة في الديموغرافيا التاريخية.

  • إعادة تشكيل الأسر اعتمادا على جذاذات عائلية تضم جميع المعلومات المتعلقة بزواج ما، فهي تتيح إمكانيات عديدة لحساب عمر الزوجين وحصر مدة الترمل وعمر المرأة ومدة الزواج، ثم توظيف تلك التحليلات في قياس السلوكيات ورصد الظواهر البيولوجية.
  • معالجة المواضيع خاصة التي تتعلق بإحصاء السكان وتعدادهم بصفة عامة، وبفئة او شريحة منهم بصفة خاصة.
  • الاتجاه نحو نسب الوفيات والزيجات والهجرات.

ثانيا: عرض مقتضب للنماذج الكمية وتجارب متنوعة ورائدة في الاتجاه الكمي

استعرض الأستاذ بنمليح في هذا المحور مجموعة من الدراسات والأبحاث اعتبرها رائدة في تبني المنهج الكمي. وأشار بداية كون هذه النماذج اجمعت في مقدمات بحوثها عن العجز وقصر ذات اليد، لكن ورغم ذلك تبنت المنهج الكمي والديموغرافيا التاريخية.

هذه الدراسات والأبحاث التي اختارت الخوض في قضايا تدعو إلى التسلح بمناهج علمية دقيقة لفك رموزها وما استغلق من اشكالاتها، قضايا سواء تعلقت بمواضيع الكوارث الطبيعية أو الحروب أو الهجرات الجماعية، فإن مفارقات غريبة تعترض سبيل الباحثين، من قبيل الحضور الديني في التأليف والتأريخ لحدث ما وهو الامر الذي ينفي في العديد من الأحيان غياب الأرقام والأعداد.

  • النموذج الأول: الانهيار الديمغرافي في بلاد المغرب من القرن 11م إلى القرن 15م. محمد الطالبي، تونس.

قدم الأستاذ بنمليح دراسة محمد الطالبي باعتبارها دراسة رائدة في تبني المنهج الكمي والديموغرافيا التاريخية، بالرغم من الصعوبات التي أبداها الباحث التونسي، وهي نفسها الصعوبات التي لاتزال قائمة إلى يومنا هذا، مادام الثابت هو الطابع الأدبي الوصفي السائد على المصادر التاريخية العربية والإسلامية، والمتغير هو أدوات البحث ومناهجه. ثم الفراغ المسجل في المصادر التاريخية المغاربية في هذا المنحى، كون الخلفية التي تحكمت في كتاباتها لا تعير أهمية للرقم والعدد.

هذا الضعف ومن أجل تجاوزه سيلجأ الباحث التونسي إلى الدراسات الديموغرافية التاريخية الاوربية عامة، والفرنسية خاصة.

هذا الانحباس الذي تفرضه المصادر التاريخية التقليدية على كل باحث أراد التسلح بالمنهج الكمي، سيفرض على الأستاذ بنمليح أن يفتح أفقا جديدا لتجاوز هذه العراقيل من خلال القيام بالخطوات التالية:

العمل على قراءة مصدرية متأنية بغية الوصول إلى الأهداف المرحلية التالية:

  • استخلاص التعابير الأدبية ذات الصبغة الديموغرافية التي احتوتها المصادر الديموغرافية؛
  • تصحيح بعض القضايا الديموغرافية اعتمادا على آليات وأدوات جديدة؛
  • تنويع المصادر المعتمدة في البحث التاريخي، والانفتاح على أخرى قد تفيد في ملء البياضات التي تتركها المصادر التاريخية التقليدية.
  • النموذج الثاني: عرض لتجربتين: الأولى منهجية والثانية معرفية
  • التجربة المنهجية: عبد الله العروي نموذجا.

تطرق الأستاذ بنمليح في هذا المبحث لتجربة عبد الله العروي، باعتبارها تجربة ذات طابع منهجي صرف، وذلك من خلال تفكيك القسم الثالث المعنون بــ “تاريخيات (الاسطوغرافيات)”، من كتاب عبد الله العروي “مفهوم التاريخ”، هذا القسم الذي يضم عشرة فصول (التاريخ بالخبر، التاريخ بالعهد، التاريخ بالتمثال، التاريخ بالأثر الطبيعي، التاريخ بالعدد، التاريخ بالموروث، التاريخ بالمفهوم، تاريخ أم تورايخ، درس التاريخيات)، وقد ركز الأستاذ بنمليح على الفصل الخامس الموسوم بــ “التاريخ بالعدد”. وذلك من خلال تقديم عناصر أساسية معتمدة اليوم في الدراسات الكمية، يمكن إجمالها في ستة مراحل او خطوات.

المعطى الأول: تكشف قراءة هذا الفصل عن المعطيات المنهجية التي تروم فك صعوبات اعتراك القضايا ذات البعد الكمية، وذلك من خلال دور اختراع الحواسيب الإلكترونية في إحداث تطور مهم في الكتابة التاريخية وتجاوز الهاجس الكمي، حيث اختصرت الحواسيب عمل فرق من الباحثين في عمل فردي وفي وقت وجيز؛

المعطى الثاني: تدشين الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الطفرة، ومنها انتقلت إلى إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، ثم إلى بلدان أخرى، تملك وثائق رقمية كثيرة ومنسقة بحسب تعبير العروي؛

المعطى الثالث: وجود تيارين يتجاذبان الولوج للبحث في الميدان الكمي؛ التيار الأول يلح على امتلاك الباحث طوابير من الأعداد المتناسقة تشكل مادة قابلة للمعالجة الإحصائية. أما التيار الثاني فيرفض هذه الشروط بدعوى أنها تحد من حرية البحث ومن محاولة تطبيق المناهج الإحصائية؛

المعطى الرابع: بروز ثلاثة مستويات للتاريخ بالعدد، حيث في المستوى الأول ضرورة دراسة الإنتاج والمبادلات، ثم الانتقال لدراسة التسكان وحياة الأسر في المستوى الثاني، وفي المستوى الثالث العمل على دراسة النفسانيات والعقائديات.

وللانتقال من مستوى إلى آخر، فالأمر رهين بالزمن أولا، وطبيعة الوثائق المتوفرة ثانيا، وبتأويل النتائج الإحصائية ثالثا؛

المعطى الخامس: جاء هذا المعطى على شاكلة تساؤل مركزي: ماذا يعني العدد المستعمل في الدراسات الكمية؟ هل هو رمز مباشر لشيء ملموس -كما هو الحال في الطبيعيات- أم هل هو رمز بواسطة؟ والواسطة هنا هي عمل المؤرخ، وإذا كان كذلك، فإلى أي حد يجب أن نقف للمحافظة على القدر الأدنى من الارتباط بالواقع؟؛

المعطى السادس: توقف الأستاذ بنمليح هنا عند ثلاثة مراحل تطرق لها العروي منتقدا المنهج الكمي في هذا الفصل (التاريخ بالعدد)، مرحلة التعبئة تهم الترجمة من لغة الألفاظ إلى لغة الأعداد، ثم مرحلة التأويل التي تهم الترجمة العكسية من لغة الأعداد إلى الواقع، والمرحلة الثالثة فهي تقع بين التعبئة والتأويل.

ويخلص العروي في الأخير إلى أن التاريخ بالعدد لا يطرح قضية التأشير، ولا يقصد هنا إلصاق رقم بمعلومة تاريخية، بقدر ما يطرح قضية المنطق الإحصائي.

  • التجربة التطبيقية: المؤرخ السوداني عز الدين عمر موسى نموذجا

يستعرض هذا المؤرخ في كتابه “وقفات منهجية مع المفاهيم والمنظور والأساليب” انطلاقا من الفصل الموسوم بـ “علماء المدينة المنورة خلال العصر الأموي من خلال طبقات خليفة بن خياط نموذجا”، وبذلك فقد عمد هذا الباحث السوداني إلى الانطلاق من ثلاثة أسئلة مركزية: أليس من الممكن أن يعود مؤرخ التاريخ الإسلامي إلى اعتماد المنهج الكمي الذي ثبتت قيمته الكبرى في سائر العلوم التجريبية والتطبيقية والإنسانية، نتيجة للثورة التقنية المتسارعة المتصاعدة؟ وفي التساؤل الثاني يقول: وماذا لو عدله إلى أسلوب إحصائي يتناسب مع الثروة العظيمة التي تزخر بها كتب التراث؟ ويختم بالسؤال الثالث حول إمكانية ظهور استثمار نتائج التطبيق في حقائق جديدة قد تؤكد ما افترضه سابقا في السؤال الأول.

في مقالة للمؤرخ السوداني حول علماء المدينة المنورة، يعلن صراحة ومنذ البداية كونه لا يعلق أمالا كبيرة على المنهج الإحصائي المعتمد في أوربا، لذلك سيلجأ إلى تعديل المنهج من أجل مواكبة ومسايرة طريقة تأليف المصادر التاريخية الإسلامية.

فأثناء عمل المؤرخ عز الدين عمر موسى على كتب تراجم الرجال لردح من الزمن، فقد كان يصفها بمقولته المشهورة “هي كثيرة وجفاف المعلومة”، لذلك فهو يشير إلى أن المنهج الإحصائي، حتى لو لم يعطي نتائج حاسمة فهو يقدم فرضيات جديدة كالنظر فيما سبق بحثه بالأساليب التقليدية.

في الأخير يناقش الأستاذ بنمليح الخلاصات التي خرج بها المؤرخ السوداني حول الأسلوب الإحصائي وتطبيقاته، مؤكدا نجاح المؤرخ السوداني في تسطير الجداول الإحصائية التي حددت عدد التابعين وطبقاتهم وتوزيعهم فئويا وقبليا وتتبع مسألة الحلفاء، ودلالتها، وقضية الولاء، وأبعادها.

كما يشير المؤرخ السوداني نفسه في خلاصاته إلى ضرورة عدم الأخذ بالنتائج كمسلمات جديدة لأنها تعبر عن الصورة البصرية بعيون خليفة بن خياط، فلابد من إجراء إحصاءات مشابهة على مصنفات أخرى ومدن مغايرة.

ويحسب لهذا العمل أنه أثار نقاشا حول عدد من المسلمات المتداولة عن الحياة العلمية في العصر الأموي.

ثالثا: الرقيق في الغرب الإسلامي الوسيط من زاوية كمية، من خلال ثلاثة مباحث رئيسية، السوق، الأسعار والعدد.

في بداية التطرق لهذا المحور والأخير من مداخلة الأستاذ بنمليح، نبه إلى نقطتين رئيسيتين هما: إثارة المظاهر الكمية المرتبطة بالرقيق، ثم الحديث عن الزاوية الكمية للرقيق الذي لن يستقيم من دون الحديث عن الفضاء (سوق الرقيق).

  • أسواق الرقيق

بالرغم من شح المادة المصدرية حول أسواق الرقيق في المغرب والأندلس خلال التاريخ الوسيط، إلا أن الأستاذ بنمليح تمكن من الخوض في هذا المجال من خلال مؤشرات دالة وعناصر أساسية تهم الرقيق، منها ما هو متعلق بالزمان أو المكان من قبيل مساحة السوق والسلع “المعروضات” ثم عدد أيام انعقاد السوق وفترات انعقاده، ثم دور الدلال أو النخاس وشروط توليته لهذه المهمة أو الحرفة.

ثم العنصر الآخر الذي يتعلق بالسلطة السياسية “نموذج السلطة الموحدية”. انطلاقا من المراسلات المتوفرة إلى الولاة والقياد بخصوص الرقيق ضمن المجال الذي يتحكمون فيه، وأخيرا ممارسة النخاس لبعض الحيل والخداع قبل عملية البيع، وهي عملية تجويد وتزيين وتنميق الرقيق من أجل بيعه.

  • أسعار الرقيق

تطرق الأستاذ بنمليح لهذا العنصر من خلال عرض مجموعة من الجداول (18 جدولا) أربعة جداول رئيسية من خلال تحليلها وشرح مستويات التناول فوقف أولا على:

  • آليات السوق من عرض وطلب؛
  • حالة الرقيق ووضعيته (الجنس والسن والقدرة الجسمانية)؛
  • محدد القدرة الشرائية، للراغبين في اقتناء الرقيق ومدى الحاجة إليهم؛
  • حيل وخداع النخاسين لتجميل “السلعة أو البضاعة” الرقيق.

ثم سينتقل الأستاذ بنمليح لعرض مجموعة من المعطيات تخص سعر الرقيق وتباينها من مكان لآخر وتفاوتها عبر فترات زمنية، لذلك سيعمد الأستاذ بنمليح إلى تفسير الأرقام كلما تطابقت، وحينما تختلف الأسعار يلجأ إلى الفترة الزمنية المدروسة للبحث عن الأسباب المفسرة (السنة ثم العقد)، لتفسير تلك الظاهرة وفك التناقض الحاصل، وضمن الجداول الأربعة مجموعة خانات نجملها في (رقم العبد أو الأمة، الجنس، الأصل، مكان البيع، الزمان، السعر، المصدر، ملاحظات تفسر ثمن البيع).

ج- أعداد الرقيق

أجمع جل الباحثين وأولهم الأستاذ بنمليح على الصعوبة التي تعترض أي باحث يرغب في الخوض في موضوع عدد الرقيق بالمغرب، على الرغم من أهمية الصعوبة التي تنبعث من غياب معطيات رقمية عددية تهم الرقيق، والأمر لا ينطبق على فئة الرقيق بل على سكان المغرب في مرحلة ما قبل الاستعمار.

من هذا المنطلق يرى الأستاذ بنمليح أن صعوبة إعطاء أرقام محددة حول أعداد الرقيق بالمغرب والأندلس، كون المحاولة تنطوي على مجازفة ربما تحمل مغالطات تاريخية، لذلك اكتفى بنمليح بإثارة مجموعة من المؤشرات الرقمية من خلال الاعتماد على دراسات علمية حديثة تعد مادة خصبة لبحوث تهم الجانب الديموغرافي لتاريخ المغرب والأندلس بشكل عام وتاريخ الرقيق على وجه الخصوص.

عرض الأستاذ بنمليح مجموعة من الإشارات التي تخص الرقم وأعداد الرقيق كما وردت عند مجموعة من الدراسات المصدرية المهمة، من قبيل الإشارات الواردة عند ابن بطوطة الذي عاين بشكل شخصي أثناء رحلته إلى مدينة التوات خلال القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي أن هذه القافلة ضمت حالي 600 خادم أسود. ويضيف الباحث “ريمون موني” أن الحد الأدنى للرقيق الذي يصدر سنويا من بلاد السودان يقارب 20 ألف أسود، وهو رقم مبالغ فيه بشكل كبير جدا، وهناك دراسة حديثة حول التجارة الصحراوية صححت هذه الأرقام والمفاهيم بين المغرب وبلاد السودان، إلى كون عدد العبيد الذي كان يحل بالمغرب خلال الفترة الفاصلة بين أواسط القرن الخامس الهجري إلى حدود القرن الثامن الهجري لم يكن يتجاوز بضع مئات من الرقيق سنويا. وذلك يرجع لعدة أسباب من بينها: طول ومشرفة الرحلة التي تعبر الصحراء وما قد يتعرض له الرقيق من أمراض، أو الموت وارتفاع الأسعار، مما كان لا يحفز على الاتجار بهم بكثرة، كون معظم الرقيق لم يشكلوا يدا عاملة مختصة، بل إن أغلبهم عمل في الزراعة وتربية المواشي وبعض الحرف البسيطة السائدة آنذاك أو في قصور السلاطين وبعض البيوتات.

أما ابن أبي زرع في روض القرطاس فإنه يشير إلى أن عدد حرس الخليفة الموحدي من الذين ماتوا في معركة العقاب سنة 1212م /609هـ ما يزيد عن 10 آلاف أسود، ويرتفع الرقم عند صاحب نفس المؤلف إلى 30 ألف. كما يضيف أن عدد العبيد السود في البلاط المرابطي انتقل من 2000 سوداني كان قد اشتراهم يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف حضروا معركة الزلاقة.

وفي الأخير أكد الأستاذ بن مليح على ان النتائج المحصل عليها من خلال الدراسات الديموغرافية والكمية تبقى قابلة للنقاش والتطور لترقى إلى مستوى الدراسات الديموغرافية، خاصة إذا تمت الدراسة بشكل تراكمي لفئة الرق عبر الفترة الوسيطية ثم الحديثة وصولا إلى الفترة المعاصرة.

 

 

 

 

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات