728 x 90

ملامح التداخل المعرفي في المناهج النقدية الحديثة، حنان الركيك

ملامح التداخل المعرفي في المناهج النقدية الحديثة، حنان الركيك

ملامح التداخل المعرفي في المناهج النقدية الحديثة
تقديم
إن العلوم بمختلف تخصصاتها تشكل أيقونة متكاملة من حيث تصورتها ومنطلقاتها ومبادئها التي تؤطر استقلاليتها، فلا يوجد تخصص مستقلا بشكل كامل عن تخصص آخر، ولعل ذلك راجع إلى الارتباطات والمنطلقات المشتركة للتخصصات العلمية، والتي يكون مصدرها إما مرتبط بالإنسان في فكره وبنيته وتكوينه أو مرتبط بالكون الخادم له بأفلاكه ومجراته ونباتاته وكائناته المجردة والظاهرة.
ولعل هذا المشترك المتين ما يجعل التخصصات متداخلة ومتكاملة فيما بينها، رغم وجود محاولات جادة لإبراز استقلاليتها، تلك الاستقلالية التي تزكي طرحه وتعمق تصوراته وتطور سبله ونظرياته، لتصل في نهاية إلى حتمية وجودية أن لا تطور إلا في ظل الاحتكاك والتفاعل مع التخصصات الأخرى التي قد تدفع به إلى القمة وتفتح له آفاق أوسع إلى إثبات وجوده وذاته، و”تداخل المعارف ليس بالضرورة محو للتخصصات، ولكنها مجال معرفي خصب يسهل عملية التواصل المريح بين التخصصات، في إطار ضوابط معرفية ومنهجية جديدة” .
وبما أن الإنتاجات العلمية بمختلف تشعباتها هي إبداعات إنسانية قائمة على تراكمات علمية، فإن أي تخصص لا يمكن أن ينبثق من فراغ؛ بل لابد له من جذور نابعة من البيئة المحيطة أو من نسج خيال الإنسان.
وتبعا لذلك فإن التداخل بين التخصصات له أسسه المنهجية التي يرتكز عليها خاصة في المجال الأدبي، الذي هو نتاج إبداعي للإنسان يعبر به عن نفسه ومحيطه بصور خيالية أو واقعية.
وإذا كان الإنسان أبدع أجناسا أدبية شتى، وحاول النقد بمفاهيمه ونظرياته ومبادئه تصنيفها وتفتيت محتوياتها لتميزها وإبراز جماليتها، فـإن الناقد فطن مبكرا إلى إشكالية التداخل الخارجي لتخصص ما بالتخصصات الأخرى من جهة، والى التداخل الداخلي للتخصص المستقل الذي حاول وضع نظام خاص به، له تشعباته وأنواعه وتصنيفاته المنفصلة.
وقد عرف التداخل سجالا قويا تجاذبته مختلف العلوم بما في ذلك الدراسات النقدية القديمة والحديثة، التي لاحظت تداخلا لفظيا ومعنويا على مستوى الإنتاجات الأدبية، فأطلق عليه في النقد القديم اسم السرقة. ومن أبرز من أشار إليها عبد القاهر الجرجاني في “كتاب الوساطة” ، الذي تحدث فيه عن مراتب هذه الظاهرة بنوع من الوعي الذي لا يخفي نضج نقد الناقد بالظاهرة المحدثة التي اختلف حولها أدباء ونقاد ذلك الزمن.
وقد طرح الجرجاني تفسيرا للإشكال المطروح أنذاك، أقرب إلى المنطق والواقع حيث يقول: ”متى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى، يظنه غريبا مبتدعا ونظم بيت يحسبه فردا مخترعا، ثم يتصفح الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه، أو يجد له مثالا يغض من حسنه، ولهذا السبب أحضر على نفسي، ولا أرى لغيري بثَّ الحكم على شاعر بالسرقة” .
وظل الإشكال مطروحا في الساحة العلمية، تتجذابه أطراف النقاد والباحثين إلى القرن 19م، حيث لاحت في الأفق مصطلحات جديدة تعددت تسمياتها بتعدد روادها، لكن موضوعها واحد كالتداخل والتشاكل والتعالق والتناص والتلاص….
وسواء تحدثنا عن التناص بمصطلحاته الجديدة والواسعة، أو ما تحدث عنه النقاد العرب القدامى، فإن هذه الظاهرة سواء في بعدها الداخلي المرتبط بالنص وتداخله مع غيره، تعكس في بعدها الخارجي موسوعية صاحبها ومدى اطلاعه على مجالات معرفية أخرى، تكاملا معرفيا يؤكد أن الأدب “لا ينشأ في الفراغ، بل في حضن مجموعة من الخطابات الحية التي يشاركها في خصائص عديدة” .
النقد الأدبي استعار من التخصصات العلمية الأخرى مصطلحاته، وهذه الاستعارة خلقت بينهما علاقة تداخلیة وتفاعلیة ملموسة، وجعلت إمكانية تداخل المناهج الحديثة في ما بينها أمرا واردا، وتداخلها مع التخصصات العلمية الأخرى ممكن ولا يمكن تجاهله وتجاوزه.
لذا ستحاول هذه الورقة البحثية رصد التداخل في النقد الأدبي في ظل مناهجه الحديثة التي تكاد تكمل بعضها البعض فيما يشبه منظومة متكاملة، تتهافت في تفسير وإبراز جمالية الأعمال الأدبية من جهة وإبراز علاقاتها التداخلية مع التخصصات العلمية من جهة أخرى..
إذن هل يمكن رصد التداخل بين المناهج الأدبية والتخصصات العلمية الأخرى؟ وهل يمكن أن تتداخل هذه المناهج لتصل إلى حد التكامل المعرفي بينها؟
واقتضت المعالجة المنهجية للورقة العلمية صياغة محور يناقش التدخل بين المناهج النسقية والسياقية مع التخصصات العلمية، ومحور يرصد محاولات دمج وتكامل المناهج النقدية فيما بينها.

المحور الأول:التداخل المعرفي بين المناهج النقدية الحديثة والتخصصات العلمية
ظلت المناهج الأدبية سواء السياقية أو النسقية تتجاذب النص الأدبي بما يخدم بعضها البعض في شكل مقاربة منهجية تعنى بدراسة الأدب في تجانس مع العلوم والتخصصات المعرفية المختلفة، وبات من الصعب وجود منهج مستقل عن الإفرازات المعرفية الأخرى.
1. تداخل المناهج السياقية والتخصصات العلمية
إن العلوم بمختلف تخصصاتها ليست مستقلة في ذاتها ووجودها، “لأنها تدور في حلقة متشابكة مع بعضها البعض أو معتمدة على علم آخر أو عابرة إلى آخر” ، لذا فلا عجب أن ينهل المنهج التاريخي من الفلسفات السابقة التي لها ارتباطات قوية بتخصصات علمي أخرى لقرون عديدة، والسر في ذلك راجع إلى “أن الفلاسفة القدامى كانوا علماء كذلك، فكانت كتاباتهم تشتمل على مباحث فلسفية ومباحث علمية على حد سواء” ، فارتباط الفلسفة بالتاريخ شيئا بديهيا، وظهور مصطلحات “كفلسفة التاريخ” و”فلسفة الحضارة” في الساحة الفكرية ناتج عن العلاقة المتداخلة بينهما.
وبعيدا عن التاريخ المحض، ورجوعا إلى المنهج التاريخي في الأدب الابن البار للتاريخ عموما، لأنه يستقي حقله المفهومي ونظرياته ومبادئه من هذا العلم الذي يتداخل بشدة مع علم الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأنتربولوجيا والجغرافيا…غير أن المنهج يظل ابن زمانه؛ الذي يقول عنه روبنز: “من المألوف في علم اللغة أن يقال: إن القرن التاسع عشر كان عصر الدراسة التاريخية والمقارنة للغات، وبوجه أخص اللغات الهندوأوروبية، وهذا أمر مسوَّغ بشكل كبير، ولكن هذا لا يعني أنه لم تُجْرَ قبلَ هذا الوقت بحوث تاريخية تقوم على مقارنة اللغات” .
ولا ننسى أن الثورة العلمية التي عرفها الغرب في أوجه ازدهارها، وقد اقتحمت العلوم التجريبية العديد من المجالات بما فيها الأدب بأجناسه عموما والنقد خصوصا، فظهر العديد من النقاد استلهموا التوجه العلمي التجريبي في منهج دراستهم للأدب هم “ارنست دنيان” (1823- 1892) وكذلك “سانت بوف” ( 1804- 1869) و “تين” (1828- 1893) و”برونتير” (1849-1906) ” ولقد مضى هؤلاء النقاد ينكرون التذوق الأدبي والشخصي وكل ما يتصل بالذوق وأحكامه في مجال دراسة الأدب، وأخذوا يضعون قوانين ثابتة للأدب، ثبات قوانين العلوم الطبيعية، قوانين تطبق على كل الأدباء، كما تطبق قوانين الطبيعة على كل العناصر والجزيئات” .
وقد بلغ تأثر المنهج التاريخي بالعلوم التجريبية إلى حد إسقاط نظرية التطور على الأدب، فأصبحت الإشكالات المطروحة؛ كيف يتطور الأدب؟ وهل يتطور كما تتطور الكائنات الطبيعية؟
ولهذا يرى “برونتير” “تبعا لذلك أن كل جنس أدبي له زمان خاص به يولد وفيه ينمو ويموت، له حياة خاصة به على امتداد زمني، ولهذا فهو يدرس هذا الجنس الأدبي من منظور علاقاته مع مختلف الأجناس، تبعا لحركة الزمن الذي عاشه، وهذه العلاقات في رأيه تتوزع مفاهيمها التاريخية والفنية والعلمية” ، متناسيا أن الجنس الطبيعي أصلا تستمر حياته بالتوالد والتناسل، لا يموت ولا يندثر إلا في حالات نادرة إذا ما تعرض إلى الدمار أو الانقراض.
ولعل ما يؤكد هذه الاستمرارية انبثاق المنهج الاجتماعي عن المنهج التاريخي، مما يزكي نظرية التأثير والتأثر ويعمق البعد التكاملي للمعرفة، وينفي إمكانية استقلال العلوم عن بعضها البعض، مهما أجهدنا أنفسنا في سبيل تحقيق ذلك، فعلم الاجتماع؛ العلم الحديث الولادة استعار “بعض رموز وأدوات علوم أخرى غير التاريخ، وحقق معها تداخلا مثمرا، مثل: علوم التربية وعلم الاجتماع التربية وكذا العلوم اللغوية واللسانيات والبلاغة، في إطار ما يسمى بعلم اجتماع المعرفة” ، هذا بالإضافة إلى ظهور علوم أخرى متداخلة به كعلم الاجتماع السياسي، علم الاجتماع الإعلامي، علم الاجتماع الحضري، علم الاجتماع القانوني، اللسانيات الاجتماعية…..
وولادة المنهج الاجتماعي من رحم المنهج التاريخي، أفرزت تداخلا كبيرا بين المنهجين، فلا يمكن الحديث عن هذا المنهج دون استحضار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفرض نفسها في صلب الدراسات الأدبية، وإذا ما “استعملنا الأدب كوثيقة اجتماعية لمجتمع معين يمكننا جعله يرشح الخطوط العامة لمجتمع تاريخي في فترة معينة لأن الأدب في حقيقته ليس انعكاسا للعملية الاجتماعية فقط، لكنه أوسع من ذلك؛ لأنه جوهر التاريخ بأكمله وخلاصته وموجزه” .
إن اعتبار الأدب وثيقة اجتماعية تلامس كينونة المجتمع بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية، جعل الأدب انعكاسا للمجتمع الذي أفرزه “وظاهرة إنسانية لها مقوماتها وعناصرها وعلاقتها التفاعلية مع الظواهر الإنسانية الأخرى” ، قابلة للدراسة في المنهج الاجتماعي الذي أضحى منفذا مهما للدارسات الاجتماعية في المجال الأدبي والنقدي، وشاعت المقولة القائلة: “بأن العبء الملقى على عاتق النقاد هو وضع جسور بين المجتمع والفنون، وذلك من أجل تفسير ما تنطوي عليه”.
غير أن من المهم إبراز مدى تأثر المنهج بعلم الاجتماع الحديث آنذاك، والذي يعد إفرازا طبيعيا لثورة المجتمع الفرنسي على النظام السياسي، فكان من البديهي أن تنبعث أقلام تناهض الظلم والاستبداد والطبقية، ويعبر الجدال السياسي والصراع الطبقي بلغة العصر الذي نشأ فيه. وكان للأدب الحظ الوفير من ذلك، وما ظهور الرواية والمقالة إلا انعكاس واضح للعلوم الاجتماعية على الأدب والإبداع.
إن المنهج الاجتماعي نموذج للتداخل المعرفي بين العلوم، إذ تستشف العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والطبيعية من خلاله، مما يؤكد أن صعوبة استقلال العلوم بذاتها مهما بلغ ذلك العلم من استقلالية في الخصائص والمميزات عن غيره.
ثم إن التحولات الاجتماعية التي عرفتها أوربا والغرب عموما، قد أدت إلى الاهتمام بمنبع التغيرات التي خلقت اضطرابا في النظام العام وفي التقلبات السياسية الجذرية المرتكزة على الإنسان وما يخضع له من مخاض نفسي يدفعه إلى إحداث تغيرات جذرية في كيانه الداخلي، مما ينعكس سلبا أو إيجابا على المجتمع.
فالدراسات النفسية التي ظهرت مع فرويد على اللاشعور واللاوعي، انصب اهتمامها على تشخيص سريري لنفسية الإنسان من خلال مثلثه الشهير الهو والأنا والأنا الأعلى، فشملت الأعمال الأدبية والإبداعية عموما، وطبقت نظرية اللاشعور أو العقل الباطن على المبدع، باعتبار أنه الشخصية السريرية المريضة التي تخضع للتحليل والمعاينة عن طريق ما جادت به قريحته على الإنسانية من إبداع، فأصبح الأدب قيد الدراسة النفسية، نستشف من خلاله شخصية صاحبه تضم هواجسه ومكبوتاته وأفكاره النابعة من عمقه الذاتي.
فالمنهج النفسي سطر طريقه، ورسم ملامحه كجزء من علم النفس الذي يصنفه بعض الدارسين في قائمة “العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، ويعتبره بنتا كبرى للفلسفة، وعلى أرضه تتداخل فروع كثيرة ومتشابكة…” ولعل عملية تشخيص الأدب انطلاقا من علم النفس جعلته وسيلة تحيلنا إلى التداخل العميق بين الواقع الذي أفرز الإنتاج الأدبي، وما يعتريه من فوضى وثورات، وما ينتج عنه من صحوة فكرية ونشاط أدبي، وبين الأدب الذي هو سلاح ذو حدين، يقدم إبداعا فنيا يغري الألباب بسحره الجمالي الممزوج بالنضج والوعي الاجتماعي والسياسي…فكان من الضروري تشخيص هذا الأديب وأدبه لفهم درجة التقلبات وأسبابها وحلولها، ولعل هذا يعمق التداخل بين المناهج والعلوم المعرفية السائدة في عصرها.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه، أليس الإنتاج الأدبي لغة خالصة، واللغة في جوهرها متكاملة وكافية بما تحمله من أنساق دلالية تجعل الأبعاد النفسية والاجتماعية والتاريخية حاضرة في النص من خلالها؟
2. تداخل المناهج النسقية والتخصصات العلمية
تعد المناهج النسقية كالمنهج البنيوي والسيميائي والأسلوبي… مناهج نصانية لاحتفائها بجمالية النص الأدبية، وتركيزها على علاقاته الداخلية، من حيث البنية. وسنكتفي في هذا المقام بالمنهج البنيوي.
نشأ المنهج البنيوي في مجال النقد الأدبي مواكبا لمتطلبات العصر وثقافته وما توصل إليه العلم من نظريات وآراء لها دور كبير في تطويره، وظهرت لعلماء الغرب حقيقة وهي أن العالم كله مبني على أنظمة تسير عليها أموره جميعها، وأطلقوا مقولتهم المشهورة التي تقول: “لكي تستكمل معرفتنا عن العالم ينبغي أن نبحث عن بنية النظام” .
فالبنية هي لغة العصر ولم تكن حكرا على الدراسات الأدبية والنقد النسقي، بل مفهوم ولج العلوم بمختلف تخصصاته، “ولها امتداد في علوم كثيرة كالسياسة والاجتماع…، كما يتبين أن البنيوية مرتبطة أساسا باللسانيات؛ لأنها هي التي أتاحت للوعي أن يكشف خبايا اللغة الطبيعية، فاللغة هي المنشأ الأول للمنهج البنيوي” ، كما أن لها التأثير البالغ في النقد الأدبي الذي عرف تحولا جذريا في مساره، باهتمامها بالنص بذاته، للكشف عن القوانين الداخلية التي تتحكم به، من غير أن تعير أهمية كبيرة للسياقات الخارجية.
فالبنيوية تفسر الأدب عموما والنص خصوصا من خلال البنية التي “هي ذلك النسق المتكامل الذي يتألف من أصوات وكلمات ورموز وصور وموسيقى، ولذلك قيل إن التحليل البنيوي يحمل مدلولا مكثفا ومعقدا” .
إن اهتمام المنهج البنيوي باللغة والبنية الداخلية للنص من الناحية الصرفية والتركيبية والدلالية والمعجمية والإيقاعية …ومحاولة انغلاقه في دراسة النص من الداخل دون الحاجة إلى السياقات الخارجية، لا يلغي تأثره بالعلوم وتداخله مع المعارف السائدة التي تفرض ذاتها ونهجها وسيطرتها وسطوته بما تملك من قوة نافذة. فروح التكاملية تربط الظاهر بالباطن، ثم إن للغة ارتباطات علمية متشابكة ومعقدة، فبثنا نسمع عن علم اللغة الآلي والطبي والسياسي والعسكري…لأن “علماء اللغة في ارتباط وثيق مع خبراء الصوت والانثروبولوجيين، ومتخصصي الذكاء الاصطناعي، والمنطق الشكلي، وعلم النفس وعلم الاجتماع…” .
وعموما فإن تأثر المناهج الأدبية سواء السياقية أو النسقية بالعلوم، هو تأثر بارز يزيد إشعاعية هذه المناهج، ويضيف إليها آليات جديدة تجعلها مناهج حية ومتجددة تواكب مستجدات العصر، وتفتح بابا أوسع لتطوير ذاتها.
المحور الثاني:التداخل المعرفي بين المناهج النقدية
إن المناهج النقدية مثال حي على التداخل المعرفي الناتج أساسا على درجة تقارب هذه المناهج من جهة، وسعيها المتواصل إلى تطوير ذاتها، والذي لا يتأتى إلا بانفتاحها على بعضها البعض، إما عن طريق المزاوجة بينها أو السعي إلى خلق منهج جديد يجمع بينها.
1. التداخل المعرفي: المزواجة بين المناهج النقدية أنموذجا:
إن المناهج النقدية الأدبية سعت إلى إبراز خصوصيتها في دراسة الظاهرة الأدبية وتحليلها وفق نهج يفرض ذاته على النص والأدب عموما، فاختلفت المناهج في النظر إلى النص بين من انصب اهتمامه على الجوانب الداخلية، ومنهم من ركز على أطرافه الخارجية، إلا أن هناك من جمع بينهما “ففسر النص الأدبي انطلاقا من علاقاته الداخلية والتي تحيل إلى الجوانب الخارجية التي تحيط به”.
إن اعتماد المقاربة الأحادية التي تنظر إلى النص ممن جانب واحد ستبقى عاجزة عن بيان مقصد وغاياته النص، ذلك وإن كانت البنية الداخلية للنص قادرة على مد المتلقي بالخبايا الفنية والجمالية، فإن بمقدور الجوانب الخارحية استقصاء خباياه النابعة من حياة صاحبها ومكنوناته النفسية ومعاناته الواقعية في وسطه الاجتماعية والظروف التاريخية التي تؤطر ذلك النص والذي لا محال أنه يحمل شظايا زمانه وعصره مهما حاول المبدع التملص من أثرهما؛ ذلك “لأن النص متحرك مفتوح يؤثر ويتأثر، وله تفاعلاته الذاتية والموضوعية وهو أداة فنية تطبيقية، والإنسان كائن تاريخي زمني لا تزامني، وهو بهذا المعنى يسهم من خلال الأدب وغيره في تشكيل العالم وتفسيره وفق الشرط التاريخية والقوانين الاجتماعية التي تتحكم بصيرورة العالم، فالنص متغير وكذا الإنسان بل والعالم” .
وقد جنح عدد من النقاد إلى مقاربة تكاملية بين المناهج، إذ “الواقع يشهد أن كثيرا من النقاد العرب والغربيين أنفسهم لم يستطع أن يخلص لمنهج واحد لا يعدوه، وأنهم كانوا يزاوجون في ممارساتهم النقدية بين أكثر من منهج نقدي واحد؛ فممارسة التكامل النقدي، أو شبهه، متحقق عمليا عند أكثر من ناقد من النقاد الكبار.” ومن بينهم “جاك لاكان” الذي زاوج بين المنهجين النفسي والبنيوي، وأصحاب المنهج البنيوي التكويني مع كولدمان الذي أقر بضرورة دمج السياق الاجتماعي والتاريخي والنفسي في بنية النص اللساني، دمجا ممنهجا يراعي القوانين اللازمة للقيام بهذا الجمع.
2. التداخل المعرفي: المنهج التكاملي أنموذجا:
إن الجمع بين المناهج النقدية من خلال المزواجة بين منهجين أو أكثر هي إرهاصات أساسية تزكي طرح المنهج التكاملي الذي عرف مخاضا عسيرا وطويلا لم يسفر عن ولادة حقيقية لكيان جديد في المناهج للأدبية.
وقد لقي هذا المنهج استحسانا كبيرا في الفكر العربي والإسلامي، ويعتبر “سيد قطب” أول من استخدم هذا المصطلح، حيث خصص الفصل الأخير من كتابه للحديث عنه، بالإضافة إلى “جميل صليبا” ، و”شوقي ضيف” .
غير أن النقاد تناولوا المنهج التكاملي بشكل متضارب بين رافض ومناصر له، فالأول لا يعارض التكامل إنما للأسس التي انبنى عليها هذا الجمع، ولأنه لم يستطع خلق مرتكزات ثابتة مستقلة به، ولأن “هــذا التصـور لــم یكــن یملـك رؤیـة تاریخیــة ومعرفیــة بطبیعــة المنــاهج ولا بالعلاقـات التفاعلیــة القائمـة بینهمـا وبـین طبیعـة الأدب” .
ولعل هذا الرفض قائم على أسس منهجية تهدف إلى البناء وليس الهدم، فحميد الحمداني مثلا في رفضه للمنهج التكاملي، لم ينفي الترابط الحاصل بين المناهج وتكاملها، فهو يعتبر أن “الأدب لا ینفصـل عـن أوجهـه الثلاثـة الأساسـیة: الوجـه الـذاتي والوجـه التاریخي، الاجتماعي والوجه اللغوي والتعبیري، وأنه لا سبیل للفصل التام بین هـذه الوجـوه إلا فـي إطـار رؤیـة اختزالیـة للنصـوص الأدبیـة، أو فـي إطـار اسـتخدام الأدب لأغـراض براغماتیـة لا غیر”.
أما المناصرون له فيرون أن المنهج التكاملي هو “المنهج التعددي الذي يستفيد من كل منهج يراه معينا له على إصدار أحكام متكاملة على الأعمال الأدبية من جميع جوانبها” ، وأن الجمع بين المناهج يمكننا من حل إشكاليات عديدة في قراءة النص الإبداعي قراءة “تستقي قوتها من ممارسة نقدية مركبة تجمع بين المعطيات الفنية والتاريخية والأبعاد النفسية والاجتماعية والعقدية، أما الشرط الوحيد في بناء هذا المنهج هو الارتكاز على رؤية نقدية شمولية واحدة، والأخذ بكل أداة منهجية صغرى تستجيب لهذه الرؤية وتوظفها”.
خاصة أن هذه الرؤية تتماشى مع الدور الأساسي لعملية النقد ولوجود هذه المناهج، ألا وهي أن تكون أداة لتحليل ودراسة العمل الأدبي، وبيان ورصد التلاحم والانسجام الفني والجمالي والأدبي والنفسي والاجتماعي في بنية النص الداخلية والخارجية الخاصة به.
إن تعدد المناهج النقدية هو إبراز جلي للتكامل المعرفي القائم بين العلوم عموما والمناهج الأدبية خصوصا، والجدال القائم حول المنهج التكاملي هو دليل على هذا التكامل، لأن قراءة النص تحتاج فعلا إلى مقاربة متكاملة، تكشف عن خباياه بنضج وتبرز خصوصيته في ذاته بمعزل عن نص آخر، شأنها شأن الكائنات الحية التي لها خصوصيتها الخاصة، لكن هذه الخصوصية لا تظهر إلا في علاقتها وتفاعلاتها الخارجية التي تحقق لها وجودها وتبرز كينونتها، وإلا فهي وهم لا أساس لوجوده.
وعموما فالنص الأدبي في جوهره نص يقدم معرفة متشعبة وتجربة إنسانية فريدة وإبداع رمزي مركب، عن طريق اللغة التي تمثل شعاعا تمتد خيوطه لتربط نسقه الخارجي بالداخلي.
وأشير هنا إلى أن البحث ليس من غرضه الدفاع عن المناهج النسقية، ولا المفاضلة بينها، بل محاولة لإبراز التكامل المعرفي للمناهج النقدية، خاصة المناهج النسقية التي حاولت جاهدة عزل نفسها عن القوانين الخارجية، لكنها ما تلبث أن تجد نفسها داخلها، كما لا يلغي خصوصية كل منهج عن الآخر، لأن الخصوصية هي التي ساهمت في استكشاف ما يزخر به العمل الأدبي من رؤى وأفكار ومعارف أغنت العمل الأدبي والفكري.

خلاصات
● المناهج النقدية متعددة ومتنوعة تؤثر وتتأثر ببعضها البعض.
● المناهج تتداخل مع التخصصات العلمية الأخرى وهو أمر يجعل التكامل المعرفي حاضرا من الناحية الخارجية والداخلية للعمل الإبداعي عموما وللعمل الأدبي خصوصا.
● المناهج الأدبية تستفيد من التخصصات العلمية وتستخدم مفاهيمها وأدواتها لتطوير آلياتها وطرقها.
● المناهج الأدبية حتى وإن حاولت صنع نسق خاص بها، إلا أنها لا تستطيع الإخلاص له للتداخل العميق بينها من ناحية، ولارتباطها بالتخصصات العلمية من ناحية أخرى.
● تداخل المعارف في المناهج النقدية حقيقة جلية، لكن إقراره وتحقيقه يقتضي صياغة ضوابط منهجية ومعرفية واضحة.
● إمكانية المزواجة بين المناهج في النقد الأدبي هي طريق واضح للوصول إلى المنهج التكاملي لأن المزواجة تقتضي بالضرورة التكامل.
● التقارب والتشابه في الرؤية والغاية بين المناهج يسهل عملية التداخل والتكامل المعرفي بين المناهج النقدية.

المصادر والمراجع:
⮚ تزفيطان طودوروف، الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، ط:1، 2007م.
⮚ حمید الحمداني: الفكر النقدي الأدبي المعاصر مناهج نظريات مواقف، انفويرانت، ط:3، المغرب 2014م.
⮚ ر.ه. روبنز، موجز تاريخ علم اللغة في الغرب، ترجمة: أحمد عوض، عالم المعرفة، 1997م.
⮚ شكري عزيز الماضي، في نظرية الأدب، دار المنتخب العربي ط:1، بيروت 1993م
⮚ شكري عزيز ماضي، من إشكاليات النقد العربي المعاصر، المؤسسة العربية ط1، بيروت، 1997م.
⮚ شوقي ضيف، البحث الأدبي – طبيعته – مناهجه – أصوله، مصادره، دار المعارف، ط 6القاهرة، 1977م..
⮚ عبد الحميد بوزونية، ظاهرة التطور الأدبي بين النظرية والتطبيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزار، 1979م.
⮚ عبد العزيز الجرجاني،الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم و علي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، ط:1 بيروت،2006م.
⮚ عبد العزيز العتيق، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية، بيروت، 1972م.
⮚ علي جواد الطاهر، مقدمة في النقد الأدبي، المؤسسة الحربية للطباعة والنشر، بيروت.
⮚ فيصل دراج، نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، ط1 ،الدار البيضاء:1990م.
⮚ محمد عزام، تحليل الخطاب الأدبي في ضوء المناهج النقدية الحداثية، اتحاد الكتاب العرب،2003م.
⮚ محمد همام، تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي، دراسة في العلاقات بين العلوم، مركز نماء للبحوث والدراسات،2017م.
⮚ ميجان الرويلي، سعد البازغي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي ط4 ،2005م.
المجلات:
⮚ مجلة أصوات الشمال الثقافية، النقد التكاملي وإشكالية تطبيقه على الدراسة الأدبية، ديسمبر 2017م.
⮚ مجلة الأندلس، البنيوية النشأة والمفهوم _عرض ونقد _ ع:15 المجلد 16يوليو سبتمبر2017.
⮚ مجلة: مركز دراسات الكوفة، المنهج الاجتماعي في النقد نشأة وخصائصه، ع38 سنة 2015م.

1 تعليق

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

1 التعليق

آخر المقالات