728 x 90

الخطاب الديني : مقاربات في التناول ومناهج في التحليل، محمد الريمي

الخطاب الديني : مقاربات في التناول ومناهج في التحليل، محمد الريمي

     الخطاب الديني :   

مقاربات في التناول ومناهج في التحليل

 

  • محمد الريمي – جامعة ابن طفيل – القنيطرة -(مختبر اللغة والمجتمع ) –  المغرب
  • د. فاطنة الغزي – جامعة ابن طفيل (مختبر اللغة والمجتمع) – القنيطرة – المغرب

تقديم:

أنه ومنذ انبثاق  أولى مفردات الخطاب الديني  المؤسس لشريعة الإسلام    (إقرأ) [1]صدر التفاعل التــاويلي المباشر  معها   و اشتغل التحليل الدلالي لها من لدن أول متلق له حينما أجاب معلقا (ما أنا بقارئ)..وتوالت  أشكال التفاعل الحي ومحاولات إنجاز عمليات  الفهم والـتأويل  واستراتيجيات الاستيعاب والتنزيل .

وهكذا وعلى امتداد العصور الإسلامية، استمر تفاعل المسلمين مع النداء العلوي  ؛ تفسيرا وتأويلا، وقراءة تحلـيلا ، فتعددت مسالك استنباط الدلالة وتنوعت أنساق توليد المعنى و تولدت المناهج وتأسست القواعد والاصول وتشكلت المدارس وبدت الاختلافات وظهرت الفرق والطوائف لاختلاف المشارب والخلفيات وزوايا النظر .

.ثم توالت على الأمة الإسلامية أزمنة خيّم فيها الجمود على العقل الإسلامي وسُد باب الاجتهاد  وحالت بين العقل المسلم  وبين الخطاب القرآني النبوي رُكامات متراكمة من انتاجات الأولين ومكتوباتهم وانشغل علماء الإسلام بتبجيل هذا الموروث “التليد” والاكتفاء باجتراره وتنضيده وتبويبه دون الانتباه إلى تغيرات الزمان الموار وتسارع أحداث العالم الغامرة وتحدياته ،فاتسعت الهوة وضاع منهم قصب السبق وشرف الريادة.. واستفاق المسلمون ولسان الحال فيهم يتساءل مُندهلا : “لماذ تخلف  المسلون وتقدم غيرهم” .[2]

وصار صدى السؤال المؤرق يلح على كل المسلمين: بأي عقل وبأية إرادة نتعامل مع الدين الإسلامي ووفق أية منهجيات نجدد تفاعل العقل المسلم مع أسس الخطاب الإسلامي.؟؟

لقد أصبحت قضية تجديد الخطاب الديني من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإسلامي في العصر الحديث،  كما أثارت مجموعة من المشاريع الفكرية التي حملت شعار تجديد الخطاب الديني سـجالات صاخبة  وجدالات ساخنة بين من يرون  ضرورة  تجديد الخطاب الـديني وفق خلاصات البحث العلمي  واستحضار نتائج التطورات السريعة  التي يعيشها العالم   مع الحفاظ على ثوابت الدين وأصول الشرع ، وبين خطابات حملت نفس العنوان داعية إلى تجاوز نصية الخطاب الديني والتعامل  مع النصوص الدينية باعتبارها نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها.. محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنص “التراثي” [3]

كما سعت هذه القراءات “الحداثية” إلى  الخروج بالخطاب الديني  من دوائر الأسطرة والتقديس إلى ساحات النقد والتداول البشري من خلال تجاوز”ما حاول البعض إضفاء طابع القداسة والتبجيلية على المعنى الواسع المرسل من قبل الله ووحدانيته بالإضافة إلى تكريس دوغمائية القيم الأخلاقية والدينية”[4]، فإذا كانت مجمل الدراسات التي انشغلت بتحليل ودراسة إواليات الخطاب الإ سلامي ركزت جهودها واهتماماتها على مضمون الخطاب وفحواها ، فأن قلة من الدراسات العلمية هي التي حاولت إثارت سؤال المنهج في تناول قضايا الخطاب الديني –  فبأية  منهجية ووفق أية استرلتيجيات نقرأ الخطاب الديني ؟

 وما هي أهم الاشتغالات المنهجية التي عبرت عن نفسها كأطر منهجية لتناول الخطاب الديني ؟

  1. تحليل الخطاب : سياقات النشأة و أسئلة المنهج

كان للأعمال التأسيسية في  اللسانيات على يد اللغوي السويسري فردينان دي سوسير، أثر كبير في تطور مناهج لغوية ونقدية تُعنى بينية النص ذاته وبمعايير بنائه، وكان للتمييز  بين اللغة ” Langue “ والكلام ” Parole أثره في تحليل النصوص الأدبية من الداخل، و تركيز البحث على  بنية العمل ذاته، وكانت رؤيته منطلقا لأعمال اتجاهات لغوية ونقدية متعددة لعل أبرزها في أوربا حلقة «كوبنهاجن، بزعامة بروندال وهيلمسليف، وحلقة براغ  بريادة رومان جاکبسون . وبتطور العناية بالنص نشأ ما عرف بنحو النص؛ الذي خرج من رحم البنيوية الوصفية القائمة على نحو الجملة في أمريكا، وهكذا سينشر(ز، هاريس z. Harris) ولأول مرة  سنة  1952 في مجلة ( Languages )في عددها الثالث عشر بحثا علميا مُؤسسا اكتسى  أهمية منهجية خاصة  في تاريخ اللسانيات الحديثة تحت عنوان” تحليل الخطاب” والحقيقة أن هاريس يعد من أوائل اللسانيين   الذين  عدّوا  الخطاب موضوعا شرعيا للدرس اللساني، واهتم بتوزيع العناصر اللغوية في النصوص، والروابط بين النص وسياقه الاجتماعي، مستخدما في ذلك  إجراءات اللسانيات الوصفية بهدف اکتشاف بنية النصوص ..

بهذا الصدد يؤكد ز. هاريس z. Harris أنه بالإمكان تصور تحليل الخطاب انطلاقا من الاشتغال على قضيتين مركزيتين، ترتبط إحداها بضرورة تجاوز حدود الجملة الواحدة والانفتاح على ما بعد الجملة، وأما الثانية فترتبط بتفهم العلاقات الترابطية بين اللغة والمجتمع..

لقد كان من نتائج هذا الاشتغال الاعتراف – انطلاقا من منتصف الستينات – بنحو النص بديلا منهجيا عن نحو الجملة، مما فسح للدرس اللساني فضاءات أرحب كان لها أبعد الأثر في دراسة اللغة وظائفها النفسانية والاجتماعية والفنية والإعلامية والثقافية ..

بالإضافة إلى ما قدمه هاريس توالت  جهود متنوعة اشتغلت على  دراسة التماسك النصي و النظر إلى النص باعتباره حمّالا لعناصر اتساقه وأنه وحدة دلالية وليست الجمل إلا وسيلة يتحقق بها، وأهم هذه الدراسات ما قام به هاليداي ورقية حسن، “Michel A.K Halliday et Ruqaiya Hasan سنة 1976

Cohesion in English“ (الاتساق في اللغة الانجليزية)، وما قدمه تون فان ديك T. Van Dijk“ في كتابين له أولهما ” some expects of texte grammar (بعض وجوه نحو النص)، والثاني ” Text and context“) النص والسياق)..

وحتى تتمكن  اللسانيات من كسب مواقع متقدمة في مجالات البحث اللغوي كان لزاما أن تطور براديغماتها التفسيرية وتنفتح على “تحليل الخطاب” بما يعنيه ذلك من الانتقال التدريجي من منطق التقوقع على الجملة والنص والتفاعل بشكل  أكثر عمقا ودقة  -شأنها في ذلك شأن سائر  العلوم الانسانية- على قضايا الخطاب،     ومن ضمنها موقع تحليل الخطاب داخل منظومة  الدرس اللساني، وكذا الشروط العامة والمحلية  التي تحدد سياقات إنتاج الخطاب وتلقيه، سواء ما ارتبط منها بالأبعاد المعرفية أو النفسيية  أو الشروط  السوسيو تاريخية..

في هذا السياق جاءت نظرية التلفظ لتتجاوز هذا الموقف  الاختزالي، وتردّ الاعتبار للعناصر الخارجية المكونة للفعل اللغوي ، وقد شكلت جهود إميل بنفنيست (Emille Benveniste) طفرة نوعية في هذا المضمار.

ينطلق بنفنيست، في بناء تصوره، من تجاوز الجملة بوصفها وحدة كبرى، والاستعاضة عنها بمفهوم جديد هو الخطاب، يقول : ” فمع الجملة نترك مجال اللسان بوصفه نظاما للعلامات، وندخل في عالم آخر، هو اللسان بوصفه أداة للتواصل، حيث التعبير هو الخطاب[5]. ولا شك أن هذه الطفرة الانتقالية من ساحة الجملة إلى فضاء الخطاب ستفتح آفاقا جديدة للبحث اللساني، وتؤسس منظورا مغايرا في التعامل مع الظاهرة اللغوية تنظيرا وتطبيقا، وذلك بالاعتماد على عناصر خارج لسانية تتحكم في إنتاج الخطاب.

ويمكن اكتشاف الملامح الأولى للتصور الجديد من خلال تعريف الخطاب من منظور بنفنيست، إذ يعرفه بقوله: “هو كل تلفظ يفترض متحدثا ومستمعا بحيث يكون للطرف الأول نية التأثير في الطرف الثاني بشكل من الأشكال”[6]. يتبين من هذا التعريف أن  بنفنيست ركز  على العمق التواصلي للخطاب وعلى خاصية التأثير التي يتميز بها ومن ثم ميز بنفنيست بين التلفظ Enonciation بوصفه عملية إنتاج الكلام؛ أي فعل القول الذي يقوم به المتكلم، وبين الملفوظ Enoncé باعتباره نتيجة لعملية التلفظ أي القول أو الخطاب الذي ينتجه المتكلم في سیاق معين أمام مخاطب (ين) معين (ين)،

والملاحظ لهذه  التحديدات أن نظرية التلفظ قد أسست بشكل من الأشكال  لمنطق التحرر من النزعة المعيارية التي لازمت البحث اللساني، وذلك من خلال استدماج العناصر التواصلية الخارج لسانية في بنيات الخطاب وآليات إنتاج المعنى . داخل الملفوظ، بحيث يغدو الوقوف عندها أمرا لا غنى عنه في استجلاء الإطار المرجعي المتحكم في سيرورة الخطاب، وتتلخص هذه العناصر في طرفي العملية التلفظية: المخاطب والمخاطب، وسياق التلفظ المتعلق بالزمان والمكان. وذلك وفق المعادلة التالية :

إن بنفيست وإن كان يركز كثيرا  على مركزية الفاعل المتلفظ في الخطاب ، إلا أنه يعد ممن قدموا  إسهامات معتبرة في إدخال عالم الخطاب الى اللسانيات وجعله من الموضوعات الجديدة في حقل دراسات اللسانيات المعاصرة ، التي ما فتئت تعرف استكشافات علمية ، وصعوبات منهجية . وهكذا تم توسيع نطاق موضوع اللسانيات ولاسيما عملية التلفظ وصلتها بالخطاب بالشكل الذي  حفز الدراسات اللاحقة على البحث في قضايا  مناهج تحليل الخطاب وإعمال هذه المناهج في اكتشاف خطابات من أصناف ..

بناء على ذلك أقام باختينM.Bakhtine    ربطا منهجيا بين نظرية التلفظ وتحليل الخطاب، لأن   أي تحليل للخطاب في تصوره هو تحليل لمتن التلفظ الحي.والذي هو سمة من السمات المحسوسة لأفعال الكلام، ليخلص أن معظم  المقولات  اللسانية لا يمكن تطبيقها في حالتها هذه إلا داخل مجال التلفظ/ الخطاب…

جاء تحليل الخطاب ، إذن ، في سياق تجاوز القطائع والانحسارات التي عرفتها لسانيات الجملة ولسانيات النص، وهي ظاهرة طبيعية من منظور تراكمية التجربة العلمية وتطورية النظريات المعرفية،  بيد أن تحليل الخطاب سرعان ما أضحى  مقاربة علمية ونموذجا منهجيا عابرا للتخصصات ومقتحما للحقول المعرفية  وصارت تشتغل على مبادئه مجالات واسعة من الأنشطة الاجتماعية والنفسية والأسلوبية والتداولية  “إنه في استفاضة دائمة موضوعا ، مجالا ، علما ، منهجا يسعى في اجتماع جزيئتيه اللتين ساهمتا في  تكوينه إلى تحليل وفك شفرة الخطاب من أجل فهمه على اختلاف أنواعه ( أدبي ، شعري،  نثري ، سياسي ، إشهاري ، اجتماعي ، نفسي ، تعليمي ، علمي، ديني..  وذلك حتى لا نقف أمام الخطابات  مكتوفي الأيدي وعاجزين لا نملك آليات التحليل ولا القدرة على القراءة والتأويل ، باعتباره خطابا متماسكا غاية في التعقيد والتشابك”[7]

في محاولاتنا لتحرير مفهوم تحليل الخطاب واستكشاف محدداته ، واجهتنا صعوبات  جمة نابعة أساسا من ارتباطه –تداوليا-   بمجال اللسانيات مقابل ظهور تخصصات تدّعي أن الخطاب هو موضوعهُا الرئيس بالإضافة إلى سعة الاستعمالات التداولية وسرعة الانتشار في الحقول المعرفية التي اكتسبها خلال فترة قصيرة كانت كفيلة باصطباغه بألوان مختلفة واشتباكه بمفاهيم مُحايثة، حيث أن الخطـاب وتحليـل الخطـاب سيصـبحان أهلا  لكــل المجالات والاختصاصــات.

بهذا الصدد انطلق مشروع بحثي جاد وعميق قاده كل من باتريك شارودو دومينيك منغنو الذيْن اشتغلا طويلا على إنجاز  إعداد معجم (موسوعي) لتحليل الخطاب ضمّناه مختلف المفاهيم والقضايا والإشكالات التي يثيرها الخطاب وتحليل الخطاب في أبعادهما التداولية واستعمالاتهما في مختلف الحقول المعرفية،  وقد أشارا في مقدمة مشروعهما هذا إلى أهم القضايا الــتي يثيرهــا تحليــل الخطاب هي :

  • استعارة أدواته من مجالات عديدة مثل الدلالة و التلفظ
  • تعدد التعريفات التي يُقدم بها الخطاب حسب المدارس والدارسين مما يجعله مفهوما مطاطيا يصعب تحديد مضمونه ومنهجه وجهازه المفهومي
  • اخـتلاف المنطلقـات الفكريـة لدارسـي الخطـاب وتحليلـه، وتباعـد مجـالات اختصاصـهم، حيث يبدو أن المشكل أكبر من قضية ألفاظ وتعريفات بل يمس  أساسا  المقتضــيات الــتي تقــوم عليهــا الأبحــاث وسياقات إنتاج المعرفة العلمية  “فالأبحـاث في تحليـل الخطـاب لا تنمـو في القـارة الأوروبيـة، وبصـفة أخـص في فرنسـا في التربـة الـتي تنمـو فيهـا في منـاطق أخـرى مـن العـالم فهـو – أي تحليـل الخطـاب – يقـوم فيهـا، وفي الآن نفسـه على تقاليد في دراسـة النصـوص طويلـة تركـت فيهـا البلاغـة، والهرمينوطيقـا الأدبيـة أو الدينيـة، وفقـه اللغة آثارا عميقـة، وعلـى تـاريخ أقـل منهـا طـولا بكثـير، تـاريخ العلـوم الإنسـانية والاجتماعيـة وعلـم النفس التحليلي أو الفلسفة”[8].
  • اشـتراك المصـطلح الواحـد بـين أكثـر مـن ميـدان حيث يؤكدان أنه سرعان ما تبـين لنـا أن بعـض المصطلحات كانت وقفا على ميـدان مـن الميـادين…و أن بعضـها الآخـر كـان مشـتركا بـين ميـادين كثـيرة، في حـين يمكنـك اعتبـار قسـم آخـر منهـا مخترقـا ميادين كثيرة  ولـذلك كـان علينـا حـتى نتجنـب كثـرة التشـتت أو الوقـوع في التكـرار، والإعـادة أن نـوزع المسـائل توزيعـا متوازنـا، وأن نحـتفظ لأنفسـنا بـأكثر الألفـاظ المخترقة، والعمل أحيانا، وفي المدخل الواحد على وضع أكثر من تعريف وجها لوجه[9]

في سياق مواز درس  الناقد المغربي محمـد مفتـاح في” كتابـه التشـابه والاخـتلاف نحو منهاجية جديدة” الأسباب التي أدت إلى حدوت الاختلافات والتباينات في تحديد دلالات المفهوم واستعمالاته التداولية ، حيث  حاول  البحـث عـن المفـاهيم الـتي تشـكل قضايا جوهرية في تحليل الخطاب مثل: الدينامية والتماسـك والتفاعـل والوظيفـة، مـن خـلال عـرض أهم النظريات اللغوية وغير اللغوية التي تناولت الموضوع ،  كما قام بتتبع  استعمالاته في الحقول المعرفية المختلفة ليخلص إلى أن  الاشتغال على تحليل الخطاب كمفهوم من جهة وكموضوع ومنهج من جهة أخرى تعترضه مجموعة من الإشكالات  من قبيل :

أ-إشكال التمييز بين الخطاب والنص.

ب-إشكال التمييز بين أجناس الخطاب وأنواعه وأصنافه.

ج-إشكال الخصائص المُحايثة والخصائص المشيدة.

د-إشكال استجابة القارئ.

ه-إشكال اختلاف القراءات والتأويل[10]

  1. الاشتغالات المنهجية على تحليل الخطابات الدينية

لقد أصبحت قضية تجديد الخطاب الديني من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإسلامي في العصر الحديث،  كما أثارت مجموعة من المشاريع الفكرية التي حملت شعار تجديد الخطاب الديني سـجالات صاخبة  وجدالات ساخنة بين من يرون  ضرورة  تجديد الخطاب الـديني وفق خلاصات البحث العلمي  واستحضار نتائج التطورات السريعة  التي يعيشها العالم   مع الحفاظ على ثوابت الدين وأصول الشرع ، وبين خطابات حملت نفس العنوان داعية إلى تجاوز نصية الخطاب الديني والتعامل  مع النصوص الدينية باعتبارها نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها.. محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنص “التراثي” [11]

كما سعت هذه القراءات “الحداثية” إلى  الخروج بالخطاب الديني  من دوائر الأسطرة والتقديس إلى ساحات النقد والتداول البشري من خلال تجاوز”ما حاول البعض إضفاء طابع القداسة والتبجيلية على المعنى الواسع المرسل من قبل الله ووحدانيته بالإضافة إلى تكريس دوغمائية القيم الأخلاقية والدينية”[12]

فكان منهم  من وضع أسسا  نظرية وضوابط منهجية في التعامل مع الخطاب الديني بغية تجديد أشكاله وآلياته مع احترام روحه وقضاياه ليتلاءم مع روح العصر   ومنهم من سعى إلى  إعمال مجموعة من المناهج الحديثة  كالبنيوية والسيمائيات والتفكيكية والتداولية والتأويلية بالخصوص  ، بغرض الكشف عن البنيات اللغوية لهذا الخطاب وكشف الشبكات المفهومية والدلالية فيه ، فنتج عن ذلك قـراءات تعلن عن نفسها أنها قراءات حداثية  للخطاب الديني تتجاوز بذلك المناهج التقليدية المتوارثة في تفسير النصوص الدينية  أثارت مجموعة من ردود الأفعال المتباينة ولا زالت ، مثل قراءة محمد أركون ، ونصر حامد أبو زيد ، وطيب تيزيني ، ومحمد شحرور ، وحسن حنفي وغيرهم ..

في مقابل ذلك لا زالت فئات معتبرة تعتبر قضايا تجديد الخطاب الديني مجرد حملات مغرضة لتشويه الدين وعلمنة الشريعة بل اعتبرها البعض امتدادا للحروب الوجودية على الإسلام والمسلمين داعين إلى مزيد من التمسك بنصوص الشريعة والوفاء لمضامينها والثبات على عقيدة السلف..

من أجل ذلك، فإننا نرى أن الخطاب الإسلامي اليوم أضحى بحاجة ماسة، ولربما أكثر من أي وقت مضى، للخروج به من هذه التقاطبات الحدية والمعارك الإيديولوجية إلى مساحة معقولة وساحات معتدلة بين طرقي نقيض :

جمود مُقلدة يلتصقون بحرفية بفتاوي متوارثة واجتهادات مظروفة بزمان ومكان ولا يدركون أن  الذين اجتهدوا قبلنا كانوا يدافعون عن قضايا ربما تكون الآن اندثرت، وكانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة، في مواجهات معينة، بوسائلهم الممكنة، لأهداف ممكنة. كانوا يجتهدون في نسبية تضع اجتهادهم مواضعه في الزمان والمكان والأهمية، فيضعون في مكانة المطلق ويصير اجتهاد المجتهد وفتوى الفقيه نفسها حجابا بينهم وبين الأصل الأصيل فيقعون ويوقعون في دروب التحجر والانغلاق والتعصب وضيق الأفق.

استخفاف طائفة أخرى بجهود واجتهادات معتبرة لعلماء الإسلام وما أسسوه من متين القواعد في علم التفسير وعلم أصول الحديث وعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين، يضربون بكل ذلك عرض الحائط ومعه ضرب – بتصريح أو بتلميح- لقدسية الوحي و ربانية الخطاب، ويعتبرون أنهم بذلك «يخدمون» القرآن في زعمهم يفسرونه تفسيرا حداثيا، ويضعون المنهجيات لفحصه وترتيبه على مداخل ومناهج  العلوم الإنسانية. فعن ذاك المشرب يُتَرْجِمون، لا ينتهي إعجابهم بالحضارة المعاصرة، ولا يملكون من التمييز ما به يدركون عُوارَها كما يدركه العقلاء من أهلها أنفسهم. حيث القرآن عندهم مجرد “كتاب حضارة” أو “مدونة أساطير”أو “سجل  إعجازات لغوية ” أوموسوعة “قصص وحوادث تاريخية مدهشة “…

خاتمة :

يبدو أن ساحات تحليل الخطاب الديني – والخطاب الإسلامي – على وجه الخصوص –  قد عاش وسيعيش  فترات مديدة من حالات الشد والجذب بين من يرى بمنظار التقليدويحاول أن  يفرض على الذهنية الإسلامية   المثقلة بجراحات التنابز الكلامي حتى أضحت ذهنية منشطرة، صورا من الماضي الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف لحاضر المسلمين علاجات انتهت صلاحيتها وانقضى مفعولها، وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها، وهي التناقض والتفاهة ،وبين من يشتغل بمنطق الافتتان بمناهج وآليات لم يخضعها للتبيئة والتكييف ولم يراع فيها قدسية النص وخصائص الوحي .

بين هذا وذاك يجدر بالباحث الحصيف  أن يتعامل – بحذر شديد- مع الخطاب الإسلامي وفق رؤية متوازنة تحترم الوحي وترعى الحُرمة  التي يحيطه  بها عموم المؤمنين عبر الأزمنة والأمصار، كما لا يغمض عيني فكره وبصيرته عن المدارك المشتركة والعلوم الحديثة والمناهج المعتبرة ولا يستنكف عن التعلم من الحكمة الإنسانية المشتركة ولا يترك آلة البحث والاستفهام والتأويل والغوص في المعاني المتأصلة وتوليد معاني متجددة  كيلا يفوته ركب الحياة الدنيا، ويقعد مع القاعدين العاجزين. وذلك نقص من حقه، وقصور عن فهم رسالة الوحي الذي أنبأ بأن الله سخر لنا الكون وأمرنا أن نسير في الأرض ونعمرها ونستخلفه فيها ..

وفق هذا المنظور تتجلى، إذن، أهمية مشروعية التمرس على الاشتغال بأدوات تحليل الخطاب الديني باعتبارها وسائل لا غايات وبغية كشف عوالم جديدة ومساحات غير مأهولة، مع الاحتفاظ بنسبيتها ومحدودية نتائجها تبعا لسياقات توظيفها وطبيعة المضامين التي يتم الاشتغال عليها وكذا مستوى حنكة مستعمليها.

[1]  في كناية عن نزول أول ىيات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حار ،كما روى ذلك البخاري في صحيحه عن عائشة .

[2]  في إحالة إلى الكتاب الشهير، الذي الفه شكيب أرسلان  .

[3]   نصر حامد ، أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، ط 7، الدار البيضاء المغرب، بيروت لبنان، 2005، ص 6

[4]  أركون، محمد.، الفكر الإسلامي، قراءة علمية.، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1996.، ص.55

[5]  E. Benveniste, Problèmes de Linguistique Générale, Gallimard, T1,p130

[6]  Ibid, P.2

[7]  نعيمة سعدية ، التحليل السيميائي والخطاب ، عالم الكتب الحديث ، ط 1 ، الأردن ، 2016 ، ص .3

 [8] باتريك شارودو ودومييك ماغونو (وآخرين): معجم تحليل الخطاب، ترجمة عبدالقادر المهيري، وحمادي صمودي مراجعة صلاح الدين الشريف ،دار سناترا، المركز الوطني للترجمة،تونس،دط،2008.ص 6

[9]   المرجع نفسه ، ص 7

 

 [10]  ينظر : محمد مفتاح ، التشـابه والاخـتلاف نحو منهاجية جديدة، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط1 ، 1996

[11]   نصر حامد ، أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، ط 7، الدار البيضاء المغرب، بيروت لبنان، 2005، ص 6

[12]  أركون، محمد.، الفكر الإسلامي، قراءة علمية.، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 1996.، ص.55

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات