728 x 90

التجديد التربوي وإشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا في المنهاج الجديد للفلسفة

التجديد التربوي وإشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا في المنهاج الجديد للفلسفة

التجديد التربوي وإشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا في المنهاج الجديد للفلسفة، مقاربة تحليلية

حكيمة أغريس

الملخص:

هدفت الدراسة إلى الوقوف على إشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا في إطار المنهاج الجديد لمادة الفلسفة، وعلى إبراز أهمية التجديد التربوي، ومساهمته في تجاوز الصعوبات والإكراهات التي تحول دون تحقيق الأهداف والغايات المسطرة.

ولبلوغ هذا الهدف، كان لابد من الوقوف على مواقف متباينة أثارت نقاشا فكريا حول مدى حاجة الفلسفة إلى بيداغوجية خاصة بها، ومدى نجاعة المنهاج الجديد للفلسفة في تحقيق الإئتلاف والإنسجام بين مقارباته النظرية والمنهجية وبين الفلسفة كنمط فكري معرفي متميز.

خلصت النتائج إلى أنه بالرغم من المواقف المعارضة لوجود بيداغوجيا خاصة بالفلسفة، وبالرغم من إكراهات واقع الدرس الفلسفي، إلا أن درس الفلسفة قد عرف تطورا بيداغوجيا ملحوظا في ظل المنهاج الجديد للفلسفة والذي استند على التوجهات والاختيارات التربوية المنصوص عليها في المرجعيات الوطنية لإصلاح منظومة التربية والتكوين.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة والبيداغوجيا، التجديد التربوي ومنهاج الفلسفة، الفلسفة ومنهاجها الجديد. 

مقدمة:

إذا كانت التربية هي وسيلة لإعداد الأجيال الناشئة للاضطلاع بمسؤوليات المستقبل والمشاركة الفعالة في تحقيق أسباب التنمية الشاملة للفرد والمجتمع في جميع المجالات، فإن ذلك يتطلب تغيير نمط التربية ليساير أسباب التنمية وتحقيق التقدم.

إن الحديث عن الإصلاح هو رهان على الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلباته؛ فعندما لا تكون المدرسة بمنتوجها المعرفي والمهاري والقيمي في مستوى المجتمع بانتظاراته وتحولاته ورهاناته تكون الأزمة حاضرة، لذلك يلح الميثاق الوطني في اختياراته وتوجهاته التربوية العامة على العلاقة التفاعلية بين المدرسة والمجتمع باعتبار المدرسة محركاً أساسيا للتقدم الاجتماعي وعاملا من عوامل الإنماء البشري المندمج.

تعتبر البرامج والمناهج من بين الركائز التي تقوم عليها المنظومة التعليمية، وقد عرفت هذه البرامج والمناهج عدة إصلاحات؛ وفي هذا الإطار تميز المنهاج الجديد لمادة الفلسفة بمراجعة شاملة للبرنامج السابق، على المستوى النظري والمنهجي المرتبط بطبيعة المادة وما عرفه تدريسها من تطور وتجديد. وبالتالي فالتطورات التي عرفتها الوضعية الجديدة لتدريس الفلسفة انعكست بدورها على طرق وأساليب تدريسها، مما أدى إلى إعادة النظر في استراتيجيات وتقنيات وأساليب تقييمها.

إن المراهنة على التفكير الفلسفي هي مراهنة على فكر تتجدر فيه قيم انسانية كونية من شأنها أن تساهم في تكوين مواطن مسلح بمبادئ التفكير النقدي الحر وبقيم التسامح والانفتاح والإيمان بالاختلاف…، مما يسعفه على مواجهة مختلف التحديات (الانغلاق، الكراهية، التطرف…).

وإذا نظرنا في وضعية الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب سنجد أن هناك مجموعة من الإكراهات والمعيقات التي تواجه حضورها داخل المؤسسات التعليمية وخارجها. وعليه فإن إشكالية الدرس الفلسفي هي إشكالية العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة(بين الحرية والقانون).

وفي هذا السياق تأتي هذه المداخلة للتساؤل عن إشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا في إطار المنهاج الجديد لمادة الفلسفة.

إشكالية الدراسة:

إن إصلاح نظم التربية والتعليم بمجتمعاتنا، وتأهيلها سواء فيما يتعلق بالمؤسسات أو التوجهات وبظهور الاهتمام بالمسألة البيداغوجية، لاسيما في مجال تدريس الفلسفة، ساهم في انتقال مبادرات الأساتذة من الاهتمام بتطوير المحتوى المعرفي للعملية التعليمية (أي الاهتمام بالمضامين وإشكالية الدروس) إلى الاهتمام والعناية بالجوانب المنهجية والبيداغوجية والتقنية والأداتية لمعالجة النصوص التي يقترحها المقرر الجديد، وبالتالي أصبح الاهتمام موجهاً نحو الطرق والوسائل الديداكتيكية.

غير أن العناية بالجوانب المنهجية والبيداغوجيا المعتمدة في تدريس الفلسفة قد أثارت ولازالت تثير جدلا فكريا حول مدى حاجة الفلسفة إلى بيداغوجيا خاصة بها.

فهناك مواقف متباينة حول هذا الموضوع:

الموقف الأول: لا يقر أصحابه بضرورة وجود بيداغوجيا للفلسفة، ومبرراتهم في ذلك كون الفلسفة كنسق فكري وكمتن معرفي لها علاقة مباشرة بالحياة اليومية للإنسان، وبالتالي فهي لا تحتاج لمنهجيات التدريس لتقنين مضامينها ومحتوياتها، مادام السؤال يشكل وضعية انطلاق لولوج عملية التفلسف، لأن عملية تنميط الدرس الفلسفي في صيغة هندسة ديداكتيكية جاهزة من شأنه أن يفقده جدليته وحيويته.

-أما الموقف الثاني: فيؤكد أصحابه على ضرورة وجود بيداغوجية للدرس الفلسفي اعتماداً على شكلين منهجيين:

  • الشكل الأول: له مستوى نظري بيداغوجي، وهو يرى أن كل تعليم مستهدف داخل المؤسسات العمومية في حاجة إلى أن يكون مصاحبا وموجها بأفكار واختيارات ثقافية وإيديولوجية، كما أن كل ممارسة قائمة في مجال التكوين يجب أن تكون مبرهنة ومراقبة من حيث الأهداف والطرائق والموضوعات، وآليات التقويم المستهدفة في المنظومة التربوية التكوينية، عوض الاعتماد على برامج مفتوحة.
  • الشكل الثاني: ويتعلق بخصوصية الفلسفة، حيث يطرح هذا الشكل إشكال تموقع ديداكتيك الفلسفة بالنسبة للفلسفة العامة، بمعنى هل هذا الديداكتيك يجب أن يتبلور خارج نطاق الفلسفة أم من داخلها.

تأسيسا على ما سبق فإن إشكالية الدراسة تتمحور حول التساؤل التالي:

  • هل الفلسفة في حاجة إلى منهج ديداكتيكي معين لما لهذه المادة من خصوصية سواء فيما يتعلق بمنهجية التدريس أو المحتوى المعرفي؟ أم أن الفلسفة لا تحتاج إلى نظريات بيداغوجية، لأنها تتضمن ديداكتيكا خاصا بها؟

أهمية الدراسة:

تكمن أهمية هذه الدراسة فيما يلي:

-إبراز الدور الهام للبرامج والمناهج البيداغوجية في تدريس الفلسفة شريطة الحفاظ على خصوصية الفلسفة المتمثلة أساسا في فعل التفلسف.

-الكشف عن أهمية التنظيم التربوي والبيداغوجي لمادة الفلسفة والذي من شأنه أن يساعد المتعلم على فهم منطق الفلسفة والغاية من وجودها، ويدفعه إلى التفكير في القضايا والأسئلة الأساسية لوجود الإنسان وإلى الرقي بثقافته وتنمية حسه الأخلاقي والإنساني في أفق تحقيق التطور والتقدم الحضاري.

-إلقاء الضوء على أهمية الوعي النقدي في ترسيخ قيم الانفتاح والتسامح والتفكير الحر المستقل والتحرر من كل أشكال التفكير السلبي…

-إبراز دور الفلسفة كفكر نقدي ينير الذات في التعامل مع قضايا الواقع ومع الآخرين ومع قضايا العالم المعاصر.

أهداف الدراسة:

تهدف هذه الدراسة إلى ما يلي:

  • تحديد مكانة الفلسفة ودورها في تطوير نوعية الثقافة المدرسية والجامعية لدى المتعلم وانعكاسها على ثقافة المجتمع وتطوره.
  • المساهمة في الاهتمام والعناية بالجوانب المنهجية والبيداغوجية التي يقترحها المنهاج الجديد من أجل تجاوز الصعوبات التي يطرحها تدريس الفلسفة.
  • المساهمة في إثراء النقاش حول ما تدعو إليه الفلسفة كفكر وكمبادئ تؤسس لثقافة حقوق الإنسان وترسيخ التربية عليها تفكيراً وسلوكاً.
  • إلقاء الضوء على مدى أهمية ربط الدرس الفلسفي بالحياة، وعلى مدى جدواه وطبيعة انعكاساته على شخصية المتعلم.

تحديد المفاهيم:

  • الفلسفة والبيداغوجيا: إن علاقة الفلسفة بالبيداغوجيا ترتبط بقضية تبليغ الفلسفة وإيصالها إلى المتلقي، وهي مسألة تعود إلى نقاشات فلسفية قديمة، برزت بالخصوص مع الفلسفة الأفلاطونية ضمن مقولات النضج الفلسفي وسن التفلسف، وقد استمرت هذه المسألة عبر تاريخ الفلسفة لتتبلور بشكل أكثر وضوحا مع كل من “كانط” و”هيجل” و”نيتشه”، وصولا إلى “دولوز” و”دريدا”. وقد أثيرت في إطارها علاقة الفلسفة بالمؤسسة كإنتاج للمعارف وللحقائق، وكذا علاقة حرية الفرد في التفكير وإصدار الأحكام، بالضرورة البيداغوجية والديداكتيكية[1].
  • التجديد التربوي ومنهاج الفلسفة: في ظل الأوضاع التي أفرزتها المنافسة العالمية بين الدول في الإنتاج والتسويق، ومن ثم توجهت الأنظار إلى إدارة الجودة باعتبارها أفضل وسيلة لكسب رهان تحقيق السيادة واحتكار السوق العالمية… فاتجه الاهتمام إلى تحسين نوعية الأنظمة التعليمية، على اعتبار أن تكوين العنصر البشري ينبغي أن يتصدر أولوية السياسات والاستراتيجيات التنموية، ولذلك أصبح الاستثمار في مجال التربية مشروعاً تزداد عوائده أضعافاً مضاعفة، لكون نتيجته تتمثل في تنمية الموارد البشرية في مختلف جوانبها العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية[2]. إن إصلاح نظم التربية والتعليم بمجتمعاتنا، وتأهيلها سواء فيما يتعلق بالمؤسسات أو التوجهات وبظهور الاهتمام بالمسألة البيداغوجية، لاسيما في مجال تدريس الفلسفة ساهم ذلك في انتقال مبادرات الأساتذة من الاهتمام بتطوير المحتوى المعرفي للعملية التعليمية (أي الاهتمام بالمضامين وإشكالية الدروس) إلى الاهتمام والعناية بالجوانب المنهجية والبيداغوجية والتقنية.
  • الفلسفة ومنهاجها الجديد: تعتبر الفلسفة في منهاجها الجديد؛ مادة مدرسية متفاعلة مع بقية المواد الدراسية المقررة في التعليم الثانوي التأهيلي ومتكاملة معها في التكوين الفكري والمنهجي والثقافي للتلاميذ. وإذا كانت بعض المعاجم الفلسفية تعرف الفلسفة على أنها “تلك المعرفة التي تتميز بالشمول والوحدة والتعمق في التفسير والتعليل”[3]، فإن الفيلسوف الألماني “ايمانويل كانط” يؤكد بأننا لا نتعلم الفلسفة وإنما نتعلم التفلسف، حيث يقول في هذا السياق: “إن الطالب الذي يتخرج من التعليم المدرسي قد تعود على التعلم. إنه يفكر الآن بأنه سيتعلم الفلسفة، وهذا أمر مستحيل لأنه يجب عليه من الآن فصاعداً أن يتعلم التفلسف”[4]. إن هذا ينسجم مع ما يتجه إليه المنهاج الجديد للفلسفة الذي ركز على تعليم التفلسف كأحد المبادئ الأساسية لتدريس مادة الفلسفة، حيث أوضح أن تعليم التفلسف يقوم على “تنمية الوعي النقدي والتفكير الحر والمستقل…”[5]. كما حدد هذا المنهاج القيم والكفايات المستهدفة من تدريس هذه المادة، إلى جانب تحديده لمراحل وخطوات بناء الدرس الفلسفي والمتمثلة في التحضير والإنجاز والتقويم.
  1. I. علاقة الفلسفة بالبيداغوجيا:

إن الحديث عن علاقة البيداغوجية بدرس الفلسفة هو في جوهره تساؤل عن طرق التعلم وهذا يعني أن مقاربة علاقة البيداغوجيا بدرس الفلسفة يؤدي إلى معالجة أهداف تدريس الفلسفة وممارسات المدرس التعليمية والأنشطة التعلمية للتلميذ، وبالتالي فإن التفكير في علاقة الدرس الفلسفي بالبيداغوجيا يحيلنا على عدة مواقف ومقاربات تتراوح بين مؤيدين ومتحمسين لضرورة قيام بيداغوجيا خاصة بالفلسفة، وضرورة انفتاحها على النظريات البيداغوجية وعلوم التربية، وبين مواقف رافضة لكل بيداغوجيا خارجة عن الفلسفة ذاتها، مبررين ذلك بكون النظريات البيداغوجية تقوم على تقنيات وآليات جامدة، وتحكمها غايات تتعارض مع الماهية العقلانية والنقدية للفلسفة وهذا يطرح مسألة الغرض من الدرس الفلسفي: هل التفلسف أم الفلسفة؟ وكيف يمكن تجاوز التعارض المحتمل وجوده بين طبيعة التفكير الفلسفي (النقدي التساؤلي…) وبين الشكل المؤسسي الذي يصاغ من خلال الدرس الفلسفي؟

انطلاقا مما سبق يمكننا أن نستحضر ثلاثة مواقف أثارت نقاشاً عميقاً حول كيفية تدريس مادة الفلسفة. ويتعلق الأمر هنا بمواقف كل من “كانط” و”هيجل” و”ميشيل طوزي”.

1.البيداغوجيا الكانطية: تعلم التفلسف

لقد ميز “كانط” بين مفهومين للفلسفة: المفهوم المدرسي والمفهوم الكوني. حسب المفهوم الأول، ليست الفلسفة سوى نسق للمعرفة، وهو نسق مطلوب لذاته، دون هدف آخر غير تلك الوحدة النسقية للعلم، وبالتالي فغايته تحقيق الكمال المنطقي للمعرفة. أما بحسب المفهوم الكوني فالفلسفة هي “العلم بالعلاقات بين جميع المعارف والغايات الأساسية للعقل الإنساني؛ والفيلسوف حسب هذا المعنى، ليس فنان العقل بل المشرع له”[6]. وبهذا الاعتبار تكون الفلسفة هي”العلم الوحيد الذي نحصل بواسطته على ذلك الرضا الباطن، لأنها تقفل الدائرة العلمية تقريباً ولأنها تزود العلوم بالنظريات”[7].

وعليه فإن الاستراتيجية الكانطية تقوم على تعلم التفلسف باعتباره عملية نقدية، وتساؤل عن معنى وقيمة الحقائق، إنه ممارسة يقوم فيها العقل بالتخلي عن كل أشكال الاعتقاد الدوغمائي ومتابعة المساءلة باستمرار؛ وذلك بنقد كل الأحكام المسبقة وكل حقيقة تدعي الإطلاقية، فمن خلال المساءلة يتضح بأن “تجربة البحث عن الحقيقة تبين أن المعارف محدودة ونسبية وقابلة للتجديد والتغيير”[8]. بل إن النقد الكانطي يذهب بعيدا ليبين الحدود التي يجب أن يقف عندها استعمال العقل. إن التفلسف إذن هو تعلم التفكير وممارسته، وليس تعلماً لمحتويات أو لأنساق، إنه استعمال نقدي للعقل وهذا الاستعمال يقوم على أساس الحرية.

2.هيجل وتعلم الفلسفة:

بخلاف “كانط” فإن “هيجل” يرى أن السعي وراء تعلم التفلسف في غياب  تاريخ الفلسفة سيؤدي إلى تكوين أذهان فارغة، ولأن فكر المتعلم ناقص ومتعثر مليء بالأوهام فإن تعلم محتوى الفلسفة سيملأ فراغاته، ويجعل الحقيقة تحل مكان الفكر الوهمي، يقول “هيجل” «إنني أصاب بفزع عظيم كلما عاينت النقص الكبير في ثقافة ومعارف الطلبة الذين يدرسون بالجامعة …» [9]  ومن ثم فإن تعليم تاريخ الفلسفة سوف يمكن الطالب من أن يضع المسائل الفلسفية في سياقها الحضاري المناسب، فتاريخ الفلسفة هو بمثابة الفضاء الذي يتنفس داخله الفكر، وبالتالي فإن هذا التاريخ سيوفر للمتعلم إمكانية التساؤل وطرح المشكلات الفلسفية الأساسية.

إن موقفي “كانط”، و”هيجل” من إشكال تعلم الفلسفة أو التفلسف يعكسان، حسب بعض الدارسين لديداكتيك الفلسفة، تصورين مختلفين للدرس الفلسفي، يقوم أولهما على إعطاء الأولوية لفعل التفلسف وما يرتبط به من إعمال لآليات المساءلة والتحليل والتركيب والنقد والاستنتاج وما إلى ذلك… بينما يتأسس الثاني على أولوية المضامين الفلسفية من أطروحات ومواقف ومفاهيم… وإذا أردنا الربط بين الماضي والحاضر قلنا إن التصور الكانطي أقرب إلى ما يسميه “ميشيل طوزي” بالنموذج المؤشكل في تعلم التفلسف paradigme problématisant في حين سنجد بأن تصور “هيجل” هو ذاته البراديغم التاريخي paradigme historique.

3.موقف مشيل طوزي من تعلم التفلسف:

حاول “ميشيل طوزي” وآخرون تأسيس بيداغوجية الفلسفة انطلاقاً من قناعات تقتضي ضرورة “الانتقال من ممارسة عفوية تلقائية، إلى ممارسة واعية بذاتها محسوبة ومنظمة، والتي تكون بفضل ذلك قابلة للنقل والتداول أكثر من الممارسة السابقة”[10]. هذا بالإضافة إلى العمل على تأسيس بيداغوجيا خاصة بالفلسفة كغيرها من المواد الأخرى، ثم الاعتماد على الملاحظات الوصفية (عمل الأستاذ وإنتاجات التلاميذ). هكذا دعا “طوزي” إلى حوار هادئ بين المتحمسين والرافضين لبيداغوجيا الفلسفة، وإلى التأمل في المشاكل التي تطرحها العلاقة بين الخطاب الفلسفي وديداكتيك الفلسفة، بين قول الفيلسوف وقول مدرس الفلسفة. ولذلك وضع “طوزي” “فرضية ديداكتيكية للتفلسف قائمة على التمييز بين التعليم والتعلم(…)، حيث يجب التأمل في الوسائط الضرورية بين التفلسف الذاتي وتعليم وتعلم الفلسفة للآخرين”[11].

يتحدث “ميشيل طوزي” عن البعد العلمي والتعليمي لديداكتيك الفلسفة التي تركز على المتعلم أكثر من المدرس، لأن تعلم التفلسف المتمثل في تنمية مهارات أساسية لدى التلميذ (من أشكلة ومفهمة وحجاج)، يخضع لتوسط مجموعة من المواقف الديداكتيكية التي لا يشكل خطاب المدرس سوى شكلا من أشكالها الممكنة[12].

إن ما يثيره إدخال أو إقحام الهاجس البيداغوجي في الدرس الفلسفي إذن هو كيفية إمكانية الجمع بين شيء يسعى إلى بناء “المطلق” ، وشيء يحاول الإبقاء على استمرار بناء “النسبي” (الديداكتيك)، وهل هناك انسجام بين التفلسف كضرورة وبين الطرق البيداغوجية كاختيار )اختيار الأستاذ لطريقة ما؟)؛ فالأول يحيل إلى الانخراط الذاتي والشخصي والثاني يترك الافتراض مفتوحا.

  1. II. التجديد التربوي ومنهاج الفلسفة:

في سياق عالمي يتسم بسرعة التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تبقى المنظومة التربوية اليوم مدعوة لرسم أهدافها الحقيقية وتحديد التحديات التي ينبغي رفعها. إن حجم هذه التغيرات يضع المنظومة التربوية أمام تحد كبير يتمثل في القدرة على إعداد مواطن من أجل التغيير، وتعزيز استقلاليته في اكتساب تعلمات مفيدة ومهارات ملائمة لاستيعاب هذه التغيرات على نحو صحيح. ولمواجهة هذه التحديات في المغرب هناك حاجة ملحة إلى إيجاد وتنفيذ الحلول الممكنة لتطوير منظومته التربوية والتي أصبحت تشكل عاملا أساسيا في تنميته السوسيو-اقتصادية، وفي الحفاظ على تماسكه الاجتماعي، وتنافسيته وفي توظيف رأسماله البشري. وهو التوجه الذي صارت عليه بلادنا والمتجلي على الخصوص في الاهتمام الذي توليه لهذا القطاع الحيوي والإستراتيجي. وفي إطار إصلاح المنظومة التربوية انطلق المنهاج التربوي المغربي من مرجعية أساسية، تتمثل في الميثاق الوطني للتربية والتكوين(2000) والكتاب الأبيض(2002) الذي حدد الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة وبناء المناهج والبرامج(2007)، متخذة من بيداغوجيا الكفايات سبيلا لتنمية الكفايات التربوية والتكوينية. وقد عرف منهاج الفلسفة، شأنه شأن باقي المناهج الدراسية الأخرى، إصلاحا شاملا انتقل من التركيز على المقاربة التقليدية القائمة على المحتويات الدراسية إلى التركيز على التخطيط البيداغوجي لعملية التعليم والتعلم، المتضمن للأهداف والمحتويات والأنشطة ووسائل التقويم.

وهكذا عرف درس الفلسفة تطوراً ملحوظاً في ظل المنهاج الجديد، حيث تعرف الفلسفة، كباقي الحقول المعرفية الأخرى، دينامية دائمة، يتطور معها محتواها، الشيء الذي يفرض ضرورة تطوير أدوات تدريسها، وابتكار طرق تفاعلية جديدة بين مختلف الفاعلين التربويين لجعل الدرس الفلسفي، ورشة تربوية منفتحة ومتجددة، قادرة على تجويد نقل الخطاب الفلسفي النقدي العقلاني إلى المتعلم، مع مراعاة نموه النفسي والعقلي والمعرفي. واعتماد مبدأ التدرج في اكتساب مهارات التفكير النقدي، إلى جانب إيلاء أهمية خاصة لحقل البيداغوجيا من أجل تطوير تعليمية الفلسفة.

III. الفلسفة ومنهاجها الجديد:

لقد ارتبطت الفلسفة بالحرية واستقلالية التفكير وممارسة التأمل الذاتي الواعي والتدقيق في الأشياء وماهيتها وقوانينها. فرغم ارتباطها بكل مشارب المعرفة، إلا أنها تظل متفردة عنها، إذ توصف أحيانا بأنها “التفكير في التفكير” أي التفكير في طبيعة التفكير والتدبر في الأسئلة التي يطرحها الكون والوجود. إن الفلسفة هي طريقة للتفكير القائم على تأمل التجربة الإنسانية وتحليلها ونقدها، وأخذ مسافة تأملية بين ما هو قائم والسعي للتحرر من المسلمات والبداهات. وأمام جملة التحولات الدولية والمحلية التي عرفها المغرب، إضافة إلى تزايد الاهتمام بتنمية القدرات الميتامعرفية للمتعلم، في مقدمتها التفكير النقدي، باعتباره أحد أهم الكفايات الممتدة والمشتركة بين جميع المواد خصوصا في مادة الفلسفة، عمل المشرع التربوي المغربي على بناء منهاج جديد يهدف إلى “التربية الفكرية”، من حيث هي تربية تسعى لتنمية القدرات العقلية للمتعلم وإكساب مهارات وأنشطة فكرية تأهله لأن يصبح فاعلا إيجابيا.

انطلاقا من هذه المعطيات يمكننا طرح السؤال التالي: ماهي الإصلاحات التي جاء بها المنهاج الجديد للفلسفة على المستوى النظري والمنهجي لتجاوز الإكراهات والمعيقات التي تحول دون تحقيق الأهداف المسطرة؟

لقد تميز المنهاج الجديد لمادة الفلسفة “بمراجعة شاملة للبرنامج السابق، على المستوى النظري والمنهجي المرتبط بطبيعة المادة وما عرفه تدريسها من تطور وتجديد”[13].

1.المستوى النظري:

تتأسس المبادئ التي وضعها المنهاج الجديد على تعلم التفلسف، باعتباره عملية نقدية ذاتية تستدعي المساءلة والبحث عن حلول، بعيداً عن مختلف أشكال التفكير الدوغمائي والسلوكي الآلي اللاواعي. كما ينبني المنهاج على مبدأ الشمولية لتجاوز ثنائية “الفكر الإسلامي” و”الفلسفة” وإدراجهما تحت عنوان “الفلسفة” لكونها تمثل الفكر الإنساني ككل. وضمانا لملائمة الفلسفة لمستويات المتعلمين العمرية والعقلية والنفسية، فقد تم اعتماد مبدأ التدرج في المستويات الثلاث(الجذع المشترك، سنة أولى باكالوريا، والسنة الثانية باكالوريا).

أما فيما يتعلق بالمرتكزات فقد ركز المنهاج الجديد للفلسفة على المفاهيم، باعتبارها مادة للاشتغال والتفكير الفلسفي على نحو إشكالي[14] يستحضر الفكر النقدي وينمي قدرات وكفايات نوعية تتطلب عمليات ميتامعرفية. إلى جانب ذلك اعتمد المنهاج على التدريس بالمجزوءات كضرورة تسعى لإضفاء طابع المرونة والوضوح. كما استند المنهاج الجديد للفلسفة على مدخل الكفايات، بغية تنمية الكفايات النوعية والمستعرضة في إطار من التكامل والانسجام، الكفيلة بترسيخ وعي المتعلم بذاته وبالغير، مضطلعا بمسؤولياته، إلى جانب اكتسابه آليات التفكير الفلسفي الأساسية كالفهم والأشكلة والحجاج…

 

2.المستوى المنهجي:

بني منهاج مادة الفلسفة على ضوء المقاربة الفلسفية التي تهدف إلى “تعليم التفلسف”، من جهة، كما تأسس على “التربية على القيم”، من جهة أخرى، وفق ما هو منصوص عليها في الميثاق الوطني للتربية والتكوين والوثيقة الإطار. فعلى المستوى النظري، بطرحها للتفكير والتأمل والوعي بها. وعلى المستوى العملي، بممارستها والتدرب عليها من خلال العمل الدراسي الفردي والجماعي[15]، لتحقيق الانسجام والتكامل بين التفكير الفلسفي والممارسة الواقعية لهذا التفكير في الحياة اليومية للمتعلم. وتبقى التربية على الاختيار مقاربة تعكس مدى قدرة المتعلم على ممارسة حرية التفكير المنطقي العقلاني البعيد عن التبعية والنمطية المعرفية، والقدرة على بناء مشاريع حياتية مستقبلية تخدم الفرد والمجتمع بشكل واع.

إلا أنه وبالرغم من أهمية التجديد الذي عرفته التوجيهات التربوية وبرامج تدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي فإننا نسجل حضور مجموعة من الإكراهات التي تؤثر سلباً على تطبيقها، وبالتالي تحول دون تحقيق الغايات والأهداف التي صاغها المشرع التربوي المغربي، فاختيار بناء النصوص الفلسفية على ضوء المفاهيم، يؤدي إلى إهمال المقاربة التاريخية لقضايا الفلاسفة. كما تطرح مقولة “أستاذ الفلسفة، فيلسوف في قسمه، والتلميذ فيلسوف متعلم”، مشكلة في التقييم. ويمكن إرجاع إشكالية التقويم إلى التباين الحاصل بين الأساتذة لأسباب ذاتية تتعلق بالأستاذ ذاته. هذا بالإضافة إلى صعوبة الاشتغال بالكفايات نظراً لتداخل مكوناتها(المتعلم، المدرس، المناهج، التقييم…) وارتباط بعضها ببعض. إلى جانب الإكراهات السابقة الذكر يمكننا إضافة إكراه ضيق الحيز الزمني المخصص لإنجاز الدروس والذي يشكل عائقا أمام فعل التفلسف وممارسة التفكير النقدي الحر.

خاتمة:

نستنتج مما سبق على أنه بالرغم من التطورات التي عرفها منهاج الفلسفة، في إطار الإصلاحات التي عرفتها المنظومة التربوية فإن إشكال العلاقة بين الفلسفة والبيداغوجيا ظل يثير صراعا فكريا محتدما حول البراديغم الديداكتيكي الذي يتعين تبنيه في مجال تدريس الفلسفة وتعليمها، بالمرحلة الثانوية على وجه الخصوص. إن هذا الصراع لازالت أثاره واضحة لدى المشتغلين بالفلسفة وتدريسها. فهناك من المدرسين من يرفض كل تقييد للفلسفة بقيود الديداكتيك، لأن في ذلك ضياعا لخصوصيتها وحطاً من قيمتها وزهداً فيما يجب أن تتسم به من حرية. وهناك فريق آخر من المدرسين يرى أن الفلسفة، وككل المواد، يتعين عليها أن تلتزم بشروط المؤسسة التعليمية، وعلى رأس هذه الشروط الاستفادة من علوم الإنسان عامة، وعلوم التربية خاصة. ولاشك أن هذا الصراع قد انعكس سلبا على صعيد الممارسة الديداكتيكية للفلسفة، حيث أصبحت الفلسفة هي أقل المواد المدرسة استفادة من الديداكتيك، والأشد اضطرابا في النتائج، والأكثر عجزاً عن ممارسة نقل ديداكتيكي يضع خطاً فاصلا بين الفلسفة كمعرفة عالمة والفلسفة كمادة للتعليم.

المصادر والمراجع

  1. المراجع باللغة العربية:
  • جميل صليبا، “المعجم الفلسفي“، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، بيروت، 1979.
  • سعيد الراشدي، “النظام التربوي المغربي، دراسة تحليلية للقيم الموجهة للسياسة التربوية بالمغرب ما بين 1956-1999“، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الرباط، 2008.
  • عز الدين الخطابي، “مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا“، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، المغرب،2002.
  • محمد الشبة، “مقالات ديداكتيكية في تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي“، الطبعة الأولى، المغرب، 2012.
  • المكي المروني، “البيداغوجيا المعاصرة وقضايا التعليم النظامي“، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة بحوث ودراسات رقم (3) ،1993.
  • المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، “التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي“، مطبوعات مديرية المناهج،2007.
  • المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، الوثيقة الإطار لمراجعة المناهج التربوية وبرامج تكوين الأطر، مارس 2001.

ميشيل طوزي وآخرون، ” الدراسة الفلسفية للموضوعة وللنص“، ترجمة عزيز لزرق وآخرون، المطبعة المغاربية،  سلا، 1996.

  1. المراجع باللغة الأجنبية:
  • E, “Annonce du programme des leçons de ME. kant durant le semestre d’hiver“, traduction de M.fichant, Edition, vrin ,1765-1766.
  • E, “Critique de la raison pure” , Traduction Française, A.tremesaygues et B.Pacaud, P.U.F,France,1968.
  • M,” Contribution a l’élaboration d’une didactique de l’apprentissage du philosopher“, revue français de pédagogie , n 103 , avril, mai, juin, 1993.

 

[1]– عز الدين الخطابي، “مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا”، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، المغرب،2002، ص.67.

[2] – سعيد الراشدي، “النظام التربوي المغربي، دراسة تحليلية للقيم الموجهة للسياسة التربوية بالمغرب ما بين 1956-1999، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الرباط، 2008، ص.9.

[3] – جميل صليبا، “المعجم الفلسفي“، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، بيروت، 1979، ص.160 .

[4] – Kant. E, “Annonce du programme des leçons de ME. kant durant le semestre d’hiver“, traduction de M.fichant, Edition, vrin ,1765-1766, pp.68.69.

[5] – المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، “التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي“، مطبوعات مديرية المناهج،2007، ص.4.

[6] – Kant.E, ” Critique de la raison pure ” , Traduction Française, A.tremesaygues et B.Pacaud, P.U.F,France,1968, p.p .561-562.

[7] – Kant.E, ” Critique de la raison pure” , 1968, ibid, p.563.

[8] – عز الدين الخطابي،” مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا“،2002، مرجع سابق، ص. 82.

[9] – عز الدين الخطابي،”مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا “،2002، المرجع نفسه، ص.85.

[10] – ميشيل طوزي وآخرون، ” الدراسة الفلسفية للموضوعة وللنص“، ترجمة عزيز لزرق وآخرون، المطبعة المغاربية،  سلا، 1996، ص.24.

[11] -Tozzi.M,” Contribution a l’élaboration d’une didactique de l’apprentissage du philosopher “, revue français de pédagogie , n 103 , avril, mai, juin, 1993, p. 20.

[12] –  Tozzi.M,” Contribution a l’élaboration d’une didactique de l’apprentissage du philosopher“, 1993, ibid,p. 23.

[13] – التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي،2007، مرجع سابق، ص.3.

[14] – التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي،2007، المرجع نفسه، ص.5.

[15] – التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي،2007، المرجع نفسه، ص.9.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

آخر المقالات