728 x 90

واقعية الرواية وهندسة البناء في رواية حلم تائه لعبد الله شكربة. عبدالسلام العروصي

واقعية الرواية وهندسة البناء في رواية حلم تائه لعبد الله شكربة. عبدالسلام العروصي

واقعية الرواية وهندسة البناء في رواية حلم تائه لعبد الله شكربة.

تقديم:

تعد الرواية جنسا أدبيا متميزا، كونها تستطيع أن تسلط الضوء على مختلف القضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية…وغيرها من الموضوعات الحساسة، لذلك فهي وحدها قادرة على أن تسبر أغوار المجهول لتعالج المعلوم.

والرواية المغربية كغيرها من الروايات العربية والغربية، اتسمت بنوع من الجرأة ، وبدأت تعري الواقع، وتكشف الغطاء عن المستور، وتعري الواقع وتفضح تشوهاته الطبقية وتناقضاته -التي ما تلبث أن تتجذر فيه- لتحظى ببالغ الرعاية والاهتمام من لدن القراء والنقاد و كل المهتمين بالدراسات السردية.

وإننا إذ نغوص في عوالم الرواية فإننا نستجد البحث في مصائر شخصياتها، ودراسة قضاياها، وخصائصها الفنية، وطرح سؤال جدوى الكتابة، وقد قررنا العزم على تسليط الضوء نحو رواية حلم تائه للروائي عبد الله شكربة، كونها رواية راهنية كتبت بوعي سردي كبير.

ويمكن أن نؤطر دراستنا ضمن المقولة الباهرة التي كرسها الدكتور عبد الفتاح كيليطو في مصنفه الأدب والغرابة، “إننا نبدأ في السرد حينما لا يكون بد من ذلك ويصبح السرد الوسيلة الوحيدة للخروج من ورطة أو موقف صعب”. والورطة يمكن أن تختلف من مبدع لآخر فقد تكون ورطة وجودية أو سيكولوجية أو سوسيولوجية وبالتالي كانت الرواية الملجأ والحضن الدافئ الذي ارتمى في كنفه الكاتب.

العتبات النصية:

إن أول ما يصادفنا عند قراءة الرواية عتباتها النصية، هذه الأخيرة التي أصبحت تتبوأ مكانة كبيرة من لدن الدارسين والنقاد، وذلك باعتبارها صدر كل عمل أدبي وواجهته التي تغري القارئ وتستدعيه للإيغال في عوالمها وأفضيتها، فإن أجاد الكاتب توظيفها وأحسن ترصيعها بما يوافق مزاج القارئ وهواه فقد أحسن تشبيك الشباك التي تنتظر القارئ لكي تقع عينه على النص- الذي لا يكتمل معناه إلا بقارئ متلهف يتفاعل معه ويستجدي البحث عن معانيه الثاوية والغافية داخل كل عمل أدبي إبداعي- كان ذلك حقيقا بدفع القارئ إلى عمق النص ومتنه، ونحن نطالع الرواية يباشرنا عنوانها الذي كتب بلون أحمر قان، كدلالة على نوع من التمرد والألم والمعاناة والنزيف إلى آخر لحظة. فالعنوان وإن كتب بصيغة المفرد (حلم تائه)  فإنه يحيل على أحلام جيل بأكمله، جيل شرب مرارة اليأس وتجرع الخيبات جرعا حتى استوفى كل آماله في الخروج من ربقة الواقع المعيش الذي ينذر بشؤم الحال وسوء المآل، ومع ذلك فالكاتب قد خضب غلاف روايته بأصفر فاقع اللون، وأزرق سماوي يحيل على زرقة سماء صافية في دلالة على التشبث بخيط رفيع من الأمل، واستجداء لمستقبل زاهر وسط عاصفة من المعاناة والمقاساة من أجل البحث عن لقمة عيش، وقد وصف الكاتب أن هذه الأحلام تتلاشى وتتيه فلا يبصر صاحب الحلم طريقه إلى حلمه بجلاء.

وتحمل الرواية غلافا له من الدلالة والرمزية والحمولة الثقافية الشيء الكثير، وذلك حينما نلحظ شخصا يقطع عرض الصحراء بدون ملامح واضحة تبدي محياه، فالكاتب لا يريد أن يقصد شخصا بعينه وإنما يمكن أن يتجلى ويتقمص ويتجسد هذا الدور أي شخص كان أو سيكون، إنه داخل صحراء مقفرة قاحلة بدون معالم للحياة وبدون مسلك واضح يؤدي إلى البغية والغاية المرجوة. وبالتالي فإن كل من يدخلها يصاب بنوع من التيهان والتصلف، وحتى تلك الآثار التي يخلفها وراءه تنمحي كما ينمحى الإنسان من الوجود كأنه لم يكن كائنا.

مصائر الشخصيات وتقاطعها.

لقد سعى الكاتب في روايته إلى توظيف ثلاث شخصيات رئيسة، كل واحدة تنفرد بحكايتها، وتنسج خيوطها، فأبطال الرواية سعوا إلى الكشف عن همومهم ومشاكلهم الاجتماعية التي حاولوا أن يتشاركونها مع بعضهم البعض دون مواراتها، حتى إذا كابدوا الهم كابدوه جماعة، وقد اختار لهم أسماء من صميم الواقع، متلظية به، وفي هذا الشأن يقول ديفيد لودج في كتابه الموسوم بالفن الروائي “وفي الرواية، لا تكون الأسماء بلا دلالة، فهي دائما تعني شيئا ما حتى ولو كان المعنى السطحي العادي، ويفضل الكتاب الواقعيون الأسماء العادية ذات الدلالات المناسبة، وتسمية الشخصيات هي دائما جزء مهم من عملية خلقها، وينطوي على اعتبارات  جمة” وقد عمد الروائي إلى السير على نفس النهج ولم يحد عنه، فسمى شخصياته بأسماء دالة، أولها حميد: شخص يحمل أحلاما كبيرة، وغاية بعيدة، مصحوبة بمتمنيات العائلة، دافعة إياه إلى بلوغ الذروة خصوصا بعد حصوله على البكالوريا الذي ظن أنها ملاذه لتحقيق أحلامه، فلم تكن له نية لإكمال الدراسة في الجامعة، وذلك بسبب ما كان يتناهى إليه من بعض الناس، فظن أن الجامعة هي ملاذ كل فاشل سيرمى بنفسه إلى قعر النسيان، ولكن لم يكن له بد غير دخول مغارمها دون سعي لمغانمها. وقد استقر أمره على دراسة شعبة الفلسفة ليمنع بشكل لبق من دراستها وذلك لأعذار واهية من قبل الإدارة، فخاض سفينة النضال التي لم ترس على مرساة مادام الوضع في تأزم وتفاقم، أما الشخصية الثانية فقد أسماها: عزيز ، عزيز على الجميع قانع بما قسم له فلم يرفع سقف طموحاته أكثر من اللازم، فقرر دراسة الجغرافية، وأخذ الإجازة لينضم إلى جحيم العطالة الذي يملك سعة صدر كبيرة أكثر من المسؤولين، فلا يرد أحدا خائبا، وما يلبث أن يظهر في حياة الصديقين وتتقاطع حكايتهم مع وافد جديد هو صديقهم مصطفى، الذي اصطفاه الجميع ليكون كلمتهم وعزوتهم في الدفاع عن ملفاتهم المطلبية العادلة، فقد كان مناضلا صنديدا يعرف ما له وما عليه، أجيز ثم أكمل دراسته ليغوص في بحر النضال من أبوابه الواسعة إلى أن عين أستاذا، فظن أن زمن الفقر والبؤس والمأساة قد ولى وأدبر، ليصطدم بحال أشد مرارة مما كان عليه.  وقد لجأ الكاتب إلى نوع من المحايدة السردية حينما لم يضع بطلا واحدا يهيمن على الرواية، بعيدا عن هيمنة الشخصية الواحدة على السرد، منتأيا بنفسه عن التشرنق حول الذات وتسييجها، فالرواية لا تعول على شخص واحد في القيام بنهضة اجتماعية من أجل التغيير وبناء المجتمع المنشود بل تعول على جماعة.

إن رهانها قد انصب نحو ثلاثة شخوص رئيسية تتراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات، الجيل الذي يحمل وعي التسعينات وبداية الألفية الجديدة، وهنا التركيز على سرديات الشباب، خصوصا الشباب الذي يعتبر استمرارا جيليا لجيل الثمانينات.

 

 الالتزام الاجتماعي:

لا يختلف اثنان على أن الكاتب مهما ادعى ابتغاء الحياد، والنأي بنفسه عن الحبكة الروائية، وانفصاله التام عن شخصياته الروائية، إلا أن ذاته جزء لا يتجزأ من الذوات الأخرى، بل يتماهى وينصهر فيها، وقد يرتدي قناع إحداها للإفصاح السردي، وجدير بالذكر أن الروائي استلهم شخصياته من الواقع الاجتماعي الذي يحتجن بداخله، مختلف الأطياف، والعلائق والتناسجات الاجتماعية، التي تدور في شبكة من الأوعية السردية الثاوية في جوف المتن الروائي.

فالراوية متحت قالبها الحكائي وشخصياتها من الواقع العياني، حتى ليجد القارئ نفسه في خضم الرواية وقد تتقاطع حكايته مع حكاية شخصية من الشخصيات، فهي مكتوبة بوعي  طبقي في محاولة لفضح التراتبية الاجتماعية التي استفحل أوارها، وزادت حدتها، خصوصا في عصر تنامي المجتمع الرأسمالي واستفحاله، لقد آمن الروائي بأن سفينة النضال وحدها قادرة وكفيلة على أن تنتشل المجتمع من براثن الجهل والخنوع والتشوهات الطبقية المتفشية فيه، وقد التزم الكاتب بقضايا المجتمع بكل ما تحمله كلمة التزام من شحنة دلالية لوكاتشية.

إنها تعرض التناظر بين مجتمعين بينهما هوة صارخة وساحقة. كما أن البناء السردي يصرح بمجموعة من الثنائيات المتقابلة والمتناظرة التي صرح الكاتب ببعضها وأضمر بعضها الآخر وذلك من قبيل، الأمل واليأس، الحزن والفرح، الحاكم والمحكوم، الجنة والنار، وإنها إذ تعرض هذه الثنائيات فإنها تقحم القارئ في خضم هذه المتقابلات فيستجلي الحقائق الكامنة خلفها، ويؤسس فهمه بناء على قدرة الكاتب في تحوير الأحداث وتطويع اللغة لتخدم البناء الفني للرواية.

الخصائص الفنية للرواية:

لا مشاحة في أن كل خطاب أدبي يتفاعل مع المتلقي بواسطة عنصر اللغة، ومع ظهور تيار الحساسية الجديدة تم تهديد بنيتها المكرسة، ورميها نهائيا خارج متاحف القواميس، وتوسيع دلالة الواقع، وقد نحا الروائي هذا المنحى فجاءت روايته عكس باقي الروايات التي تعاني ضخما إنشائيا ووجدانيا فرواية حلم تائه مكتوبة بغنائية أقل متخلصة من الاستغراق العاطفي والحذلقة الأسلوبية التي لا تجدي نفعا، كما أن الرواية تعتمد على نوع من الربط المنطقي الذي يضمن سلاسة الأفكار وانسيابية التعبير مما يتيح التماسك السردي الذي يخلو من الهلهلة والبدع السردية. ويضفي المرونة والاسترسال ويتفادى إرباك القارئ. وصحيح أن الروائي يجنح في أحايين كثيرة إلى لغة التقرير والسرد المباشر الخالي من الشعرية. لكن وجب القول إن المؤلف يقدم روايته بلغة مركزة دقيقة ورشيقة، تجذب القارئ وترمي به في شباك النسيج السردي المحبوك والممهور. وكما هو معلوم فإن الرواية باعتبارها جنسا هجينا يسمح بتخلل مختلف الاجناس، وذلك لقدرتها الكبيرة على الاستيعاب، والملاحظ أن تخلل هذه الاجناس ساهم في التئام عناصر الرواية واتساقها مع انسجام بنائها دون هدمه وتشتيته عكس الكتابة المستفحلة في التجريب السابحة في التعالي اللغوي والسردي البعيد عن الواقع العياني.

وقد اتسمت  الرواية بمجوعة من السمات الفنية الأخرى التي تتجلى في هيمنة السرد الذاتي بمختلف أنواعه (الفردي، المتعدد، والمتنوع)، تنويع الرؤى السردية، تكسير خطية السرد، تعدد المحافل السردية، تداخل الأزمنة الحكائية وتشابكها، تقليص حضور السارد الكلي المعرفة، تداخل الخطابات، والأجناس الأدبية، توظيف التناص، تنويع المحكيات وتداخلها، تعدد الأصوات (الحوارية)، شعرنة الخطاب الروائي، انفتاح النص الروائي، تعليق النهايات الحكائية، العودة إلى التراث الديني والإسلامي مما يدمغ الكتابة بهاجس ديني طهراني. واللجوء إلى عتاقة اللغة من حين إلى آخر وذلك عن طريق الاستفادة من ثراء اللغة وتنوعها، بالتفكير في الصيغ والأساليب القديمة، والبحث عن لغة تستطيع نسج نسق لغوي خاص يستقي مادته الخام من التراث الثقافي والفكري العربيين كالشعر والنثر، بالإضافة إلى تصيد تراكيب ومفردات تفصح عن نبرات لغوية لها نكهتها الخاصة وعبقها الخاص تعبيرا عن تداخل الأزمنة وتشابكها، وكأن الروائي يستوحي فضاء هذا الأسلوب الحكائي التراثي فيقيس عليه ويستفيد من الكتابات التاريخية لنسج خيوط لغة عتيقة تسمو بالذوق إلى مدارج التأنق والانتقاء، “وقد يلجأ إلى الاقتباس المطول لكي يثبت صحة نصه وفاعليته  وتنويع الصيغ السردية إلى غير ذلك من الآليات الحكائية الأخرى الهادفة لتكسير القوالب القديمة، وتوسيع هامش تحرك القارئ للمساهمة بفعالية أكثر في إغناء الممارسة الروائية والدفع بها نحو أفق أرحب. ومن هنا يتبين لنا بما لا يدع مجالا للشك “أن الرواية تحيد بشكل ظاهري عن الطرق المألوفة، لتصوير الواقع إما في تنظيم عملية السرد أو في الأسلوب أو في كليهما من أجل تكثيف إدراكنا لذلك الواقع أو تغيير هذا الإدراك.

وختاما يمكن القول إن رواية حلم تائه لعبد الله شكربة رواية من قلب الواقع كما صرح بذلك الكاتب بنفسه ذات أمسية ثقافية، فهي مكتوبة بحرص شديد على استجلاء القضايا الاجتماعية الشائكة داخل المجتمع الذي يعج بالصراعات الطبقية والتفاوت الصارخ الذي ينخر عظام المجتمع وينهشه، وقد زاوج الكاتب بين مضمون الرواية الراهني وشكلنته حداثيا مستندا في ذلك بالدراسات النقدية الحديثة في مجال الرواية المتعلقة بالتجريب، وتقنيات كالتناص وشعرية الكتابة.

 

 

 

1 تعليق

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

1 التعليق

آخر المقالات