728 x 90

   الأمثال: مدخل تعريفي تأصيلي،  ذ. رشيد الراشيدي

   الأمثال: مدخل تعريفي تأصيلي،  ذ. رشيد الراشيدي

 

                          الأمثال: مدخل تعريفي تأصيلي

                 ذ. رشيد الراشيدي

              باحث في سلك الدوكتوراه

 

  • المثل تعريف وتأصيل
    • المثل في اللغة:

بالرجوع إلى مصنفات كبريات الكتب والمعاجم نجد أن اللغويين تطرقوا لمفهوم المثل وقدّموا له تعاريف متعددة ومتنوعة؛ ونحب أن نبسط أول تعريف انطلاقا من معجم لسان العرب لابن منظور بحيث يعرفه بقوله: “المثل مأخوذ من الجدر الثلاثي: م-ث-ل، مِثل – بكسر الميم- كلمة تسوية، يقال: هذا مثله، ومثَلُهُ –بالفتح- شِبهُه وشبهه بمعنى، قال بن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص…والمثل الشيء الذي يضرب لشيء مثلا فيجعل مثله، وفي الصحاح ما يضرب به من الأمثال، قال الجوهري: ومثل الشيء أيضا صفته، قال ابن سيدة: وقوله عز وجل من قائل: “مثل الجنة التي وعد المتقون” سورة الرعد، الآية 35، قال الليث: مثلها الخبر عنها”[1].

ومن التعريف أعلاه يتبين أن المثل يُرادِف عند بن منظور الشِّبه والمماثلة والضرب والصفة، وهذه المرادفات تنطبق على المَثَل. فعندما يقال في سياق معين فهو لا ينفك عن ضربه الأول الذي قيل فيه الأصل الأول. فيكون شبيهه في اللفظ وإن تعددت سياقات ضربه.

وهكذا عند استقصاء معاني المثل في أصله السّامي  نجد أنّ له معنى عاما وشاملا يُلخَصُ في معنى المماثلة، ومعنى العرض على صورة حسية[2]، كما تدل الكلمة ومشتقاتها في المعاجم العربية على معنى المشابهة ومعنى العرض، وهذا لا يعني أن هناك تعريفا موحدا يتفق عليه اللغويون بل نجد تباينا في التعريفات المقترحة للمثل، والذي يؤدي إلى تعدد التعريفات وتنوعها. وسنحاول في ما يلي أن نعرض مجمل التعاريف المقدمة للمثل في  المعاجم العربية.

ففي معجم الصّحاح؛ المثل هو: ما يُضْرَب به من الأَمثال. قال الجوهري: ومَثَلُ الشيء أَيضًا: صفته، ويقال: مَثَلُ زيد مثَلُ فلان، إِنما المَثَل مَأْخوذ من المِثال والحَذْوِ، والصفةُ تَحْلِية ونَعتٌ… وقد يكون المَثَلُ بمعنى العِبْرةِ؛ ومنه قوله عز وجل: )فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا.( سورة الزخرف، الآية: 56، فمعنى السَّلَفِ أَنا جعلناهم متقدِّمين يَتَّعِظُ بهم الغابِرُون… ويكون المَثَلُ بمعنى الآيةِ؛ قال الله عز وجل في صفة عيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: )وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيل( سورة الزخرف، الآية: 59.؛ أَي: آيةً تدلُّ على نُبُوَّتِه… والمِثالُ: المقدارُ، وهو من الشِّبْه، والمثل: ما جُعل مِثالًا، أَي: مقدارًا لغيره يُحْذَى عليه، والجمع المُثُل، وثلاثة أَمْثِلةٍ، ومنه أَمْثِلةُ الأَفعال والأَسماء في باب التصريف. والمِثال: القَالِبُ الذي يقدَّر على مِثْله… وتَماثَل العَليلُ: قارَب البُرْءَ فصار أَشْبَهَ بالصحيح من العليل المَنْهوك… ويقال: المريضُ اليومَ أَمْثَلُ، أَي: أَحسن مُثولًا وانتصابًا، ثم جعل صفة للإِقبال، وقد مَثُل الرجل، بالضم، مثَالةً، أَي: صار فاضِلًا، والطريقة المُثلى: التي هي أَشبه بالحق… وماثَلَ الشيءَ: شابهه. والتِّمْثالُ: الصُّورةُ… ومَثَّل له الشيءَ: صوَّره حتى كأَنه ينظر إليه، ومَثَّلْت له كذا تَمْثيلًا، إذا صوَّرت له مثاله بكتابة وغيرها، ويقال: امْتَثَلْت مِثالَ فلان: احْتَذَيْت حَذْوَهُ، وسلكت طريقته. ابن سيده: وامْتَثَلَ طريقته: تبِعها فلم يَعْدُها،  أَبو عمرو: كان فلان عندنا ثم مَثَل، أَي: ذهب. والماثِلُ: الدارِس، وقد مَثَل مُثولًا، ومَثَّل، كلاهما: نكَّل به، وهي المَثُلَة والمُثْلة، وقوله تعالى: )وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَت( سورة الرعد، الآية: 6. وتَمَثَّل منه: كامْتَثَلَ. يقال: امْتَثَلْت من فلان امْتِثالًا، أَي: اقتصصت منه، وقالوا: مِثْلٌ ماثِلٌ، أَي: جَهْدٌ جاهِدٌ، والمِثالُ: الفِراش، وجمعه مُثُل، والمِثالُ: حجَر قد نُقِر في وَجْهه نَقْرٌ على خِلْقة السِّمَة سواء، فيجعل فيه طرف العمود… فلا يزالون يَحْنون منه بأَرْفَق ما يكون، حتى يَدخل المِثال فيه فيكون مِثْله”[3].

هكذا يتبين أن هناك تباينا في التعاريف من لغوي إلى آخر فالصفة والحذو والعبرة والمقدار والآية والشِبه كلها ألفاظ تنسجم وتتماشى مع المعنى الذي وضع له المثل كقول سائر.

وعند الأزهري في تهذيب اللغة: “يقال: مَثَلٌ ومِثْل، وشَبَه وشِبه، بمعنًى واحد. ويكون تَمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به. واسم ذلك المُمثَّل: تِمْثَال”[4]. وعند ابن فارس: “المِثل أيضًا، كشَبَه وشِبه، والمثَلُ المضروبُ مأخوذٌ من هذا، لأنَّه يُذكَر عن مِثلِه في المعنى”[5]. وفي القاموس المحيط للفيروزآبادي: “والمَثَلُ: الحجَّةُ والحَديثُ… والماثِلَةُ: مَنارَةُ المِسْرَجَةِ. والماثِلُ من الرُّسومِ: ما ذَهَبَ أثَرُه”[6].

ومن خلال بسط التعريفات اللغوية أعلاه يتبين أن معنى المَثَل في اللغة لا يخرج عن معنى المماثلة ومعنى العرض على صورة حسية، كما يدل على معاني التسوية، والشبه والنظير، والمقدار والصفة والحذو، والعبرة، والنمط وغيرها من المعاني الحسية والمجردة.

  • المثل في الاصطلاح  

لا شك أن الأمثال هي جزأ لا يتجزأ من موروث الثقافة المُعبِّرة عن مختلف مظاهر الحياة السائدة عند المجتمع بكل تجلياته، فهي مرآة تعكس تفكيره ونظرته  للأشياء بشكل مقتضب موجز، يختلف عن باقي الأشكال في الصياغة والتركيب لذلك تجد أن المثل هو الأكثر تداولا على ألسنة العامة والخاصة، إذ لا يقتصر تداوله على فئة معينة، وهذا ما استنبطناه من خلال التجارب الميدانية عند جمع المتن الخاص بالأمثال.

كما يعتبر المثل ظاهرة متميزة، كونه انعكاس مباشر لحياة الشعوب وعُصَارَة تجاربهم وحكمة أجدادهم، وهو الصورة الصادقة والخلاصة المركزة لمعاناة الناس وشقائهم وسعادتهم وغضبهم، ويُعتبَر المثل من أرقى فنون القول بلاغة وفصاحة، وأكثرها إيجازا وانتشارا، وأفصحها تمثيلا لهوية المجتمع وثقافته، وأبلغها حديثا وإقناعا وتأثيرا.

 

وتختلف الدلالة الاصطلاحية من باحث لآخر في تعريفهم لمفهوم المثل وهذا ما سنوضحه من خلال تتبع مفهوم المثل، فالمبرد يعرفه بقوله: “المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه، فقولهم: “مَثُلَ بين أيديهم وانتصب” معناه أشبه الصورة المنتصبة، وفلان أمثَلُ من فلان أي أشبه بما له الفضل، فحقيقة المثل ما جُعِل كالعلم للتشبيه بحال الأول، قال كعب بن زُهير:

كانت مواعد عرقوب بها مثلا… وما مواعيدها إلاّ الأباطيل.

فالكلام إذا جُعِلَ مَثَلا كان أوضح للمنطق، آنف للسمع، وأوسع لشعوب الحديث”[7]. وبتأملنا في هذه التعاريف ندرك جوهر وماهية المثل المتمثلة في حالتين: حالة أولى هي الأصل وقعت فسارت متداولة على الألسنة زمنا طويلا وقيست عليها حالة ثانية، بمعنى أن المثل من حيث الدلالة هو تشبيه لحالة مستجدة واقعة بحالة ماضية.

والأصل في المثل هو الشِبه والقصر والإيجاز. وهذا ما يذهب إليه السيوطي في تعريفه للمثل حيث يقول: “والمثل جملة مقتضبة من أصلها، أو مُرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فَتُنْقَلُ عمّا وردت فيه إلى كلِّ ما يصح قصدُه بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يُوجِبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عنها”[8]،  فضربها وورودها على الألسنة في وقائع معينة لا تُحِيل بالضرورة على أن قائلها يعرف أصلها وأسباب ورودها وقصة وقوعها، بل نجد في أغلب الأمثال أن ضاربَها يجهل أسبابها وهذا ما يؤكده السيوطي أعلاه.

كما اعتبر المثل كل ما يجري على ألسنة البلغاء من أهل الكلام والأدب؛ ففي “الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة” لحمزة الأصفهاني يذهب إلى أن المثل هو: “أكثر ما يجري على ألسن الفصحاء، ويختلط بخطابة البلغاء، ويدخل في نوادر الأدباء وبدائع الشعراء”[9]، ويعتبره أبو عبيد القاسم بن سلام حكمة تجمع بين الإيجاز في الكلام والإحاطة في المعنى والجمال في التشبيه، يقول: “وهي حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تُعارض كلامها فَتَبلغ بها ما حاولت فيها من حاجاتها في المنطق، بكناية غير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خِلَال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه”.[10] وبذلك يجتمع في المثل ما لا يجتمع في غيره من أشكال القول.

وجاء أيضا في نفس سياق المعاني السابقة عند بن عبد ربه في “العقد الفريد” أثناء وقوفه على الأمثال قوله: “هي وَشيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحلْي المعاني، والتي تخيَّرتْها العربُ، وقَدَّمتها العجم، ونُطِق بها في كل زمان، وعلى كلِّ لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يَسِرْ شيءٌ مَسِيرَها، ولا عَمَّ عُمومَها، حتى قيل: أسير من مثل”[11].

ثم إن المثل لا يقتصر تداوله على فئة دون أخرى بل يشمل الخاصة والعامة من الناس، ويتنوع في معانيه وضربه حسب الحالة التي ضرب فيها؛  فوفقا لإسحاق الفارابي في “ديوان الأدب” المثل هو: “ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم، وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة “[12].

وقد جاء عند بن المقفع في الأدب الصغير؛ قوله: “إذا جُعل الكلامُ مثلًا، كان ذلك أوضحَ للمنطقِ، وآنف للسمعِ، وأوسعَ لشعوبِ الحديثِ”[13]؛ وذلك لما يتميز به من إيجاز في اللفظ وجمال في العبارة وكثافة في المعنى لهذا اعتبره علي المرزوقي  قول موجز يتسم بالقبول والكثرة في التداول لدى الناس حيث يقول: “المثلَ جملة من القول مقتضَبةٌ من أصلها، أو مرسلةٌ بذاتها، فتتَّسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتُنقل عما وردت فيه إلى كلِّ ما يصح قَصْدُه بها من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يُوجِبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني؛ فلذلك تُضْرب وإن جُهِلت أسبابُها التي خرجت عليها”[14] .

وتعريف بن رشيق أكثر تخصيصًا واصطلاحيةً حيث يقول: “سمي مثلًا لأنه ماثل لخاطر الإنسان أبدًا، يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر، والماثل: الشاخص المنتصب، من قولهم “طلل ماثل”… وفي المثل ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه”[15]، وهذه الخصائص لا يمكن أن يتميز بها غير المثل سواء كان شعرا أو شكلا نثريا آخر.

ومعلوم كذلك أن المثل تجربة وخبرة الشعوب وتعبير عن “عقلية العامة… التي لا تستدعي إحاطة بالعلم وشؤونه، ولا تتطلب خيالًا واسعًا، ولا بحثًا عميقًا، إنما تتطلب تجربة محلية في شأن من شؤون الحياة… وهي تدل على حياة العرب الاجتماعية” [16]. لذلك أصبح ظاهرة متميزة وصورة صادقة، وخلاصة مركزة لتجارب الناس، وإرثا لغويا متواترا من جيل لجيل، يُضرَب في سياق حالة شبيهة بالحالة الأولى التي ضُرِب فيها، وفي نفس هذا السياق يذهب المستشرق زلهايم فيقول: “يتحقق معنى المثل ومفهومه في اعتباره إحدى خبرات الحياة التي تحدث كثيرًا في أجيال متكررة، ممثلة لكل الحالات الأخرى المماثلة”[17].

وعموما تعرف الأمثال بعدة طرق “فيميل المثل لأن يعرف بصفة أكثر عمومية كمقولة يمكن تطبيقها على عدد كبير ومتنوع من السياقات، فالأمثال تغلق المناقشة وتعالج سوء الفهم وتخفي الجهل وتزين قضية خاسرة. وبالرغم من أنه لا يوجد تعريف مرض وشامل، فإنه يتم التعرف على الأمثال بسرعة من قبل المستخدم والمستمعين، ويمكن أن نصفها بأنها أقوال قصيرة ومختصرة تجسد ببراعة حقيقة معترفا بها أو اعتقادا قويا”[18]. وترجع الأمثال إلى ثلاثة مصادر وهي الشعر القديم، والإنشاء العالي، ولغة العامة التي تتسم بالإيجاز الشديد، ويكثر فيها الحذف والإيماء، وتتصف بمتانة السبك وجودة التقسيم”[19].

وأخيرًا نذكر رأي محمد أبو علي الذي حاول أن يستنتج تعريفًا للأمثال هو خلاصة لأقوال كل من تناول معنى المثل في صورة نقاط، يقول:

“إن المثل قول سائر، فقد يأتي القائل بما يحسن أن يُتمثل به في موقف ما، لكنه لا يتفق أن يسير، فلا يكون مثلًا، ولعل هذا ما يفسر لنا ورود بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في عداد الأمثال دون سواها؛ لأنها سارت على شفاه الناس، وسواها لم يسر.

إن المثل شكل من أشكال الأدب له عناصره المميزة، وسماته المحددة.

إن المثل يقوم على إسقاط تجربة سابقة على تجربة حالية.

إن الأمثال ليست وقفًا على فئة من الناس دون فئة، بل هي ما تراضته العامة والخاصة

إن الأمثال نقلت حكمة العرب التي عنوا بها، وخلاصة معرفتهم وتجاربهم في الحياة، بل لعلها تعني فلسفتهم في الحياة بعض الحاجات قد لا يعبر عنها صراحة، فيأتي المثل وسيلة تعبير تتوسل المداورة الإبلاغية، وفي ذلك جمع لشيئين: جمال أسلوب، وحسن تخلص.

المثل سريع الذيوع، واسع الانتشار، وهذا مما يغري الناس باللجوء إليه لتوطيد فكرة أو إشاعة مقصد”[20].

وما يميز الأمثال ويعطيها ميزة التفرد عن غيرها من أشكال القول هو جمال نسجها وتركيبها، وهذا ما ركز عليه تعريف بن عبد ربه في العقد الفريد حيث يقول: “الأمثال حلي المعاني التي تخيرتها العرب وقدّمتها العجم، ونطق بها من كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، ولم يسر شيء مسيرها ولا عمّ عمومها حتى قيل أيسر من مثل”[21].

والمتأمل فيما سبق يقف على أن المثل ينفرد بالتقدم عن غيره من الأشكال الأخرى في الانتشار بين الناس لسهولة ألفاظه وإيجازها وجمالها وسجعها، لذلك يرى بن عبد ربه أنه من الصعب تقديم جنس أو شكل أدبي عن الأمثال سواء كان شعرا أو خطابة، وهذا ما يؤكد الأهمية التي يكتسيها المثل وينفرد بها. وما كان ليكون كذلك لولا مقدار اهتمام العرب منذ القِدم بالمثل وتدوينه حتى لا يضيع مع توالي الأزمنة، فظل مرآة تعكس على الدوام تقاليدهم وعاداتهم وثقافتهم، فهو أدب منبثق من روح الشعب بامتياز، يجري على ألسنة العامة والخاصة فيتسع بذلك ليشمل كل فئات المجتمع، ليعبر عن خلاصة تجربة عامة ومشتركة. ولمَّا كانت الأمثال تتسم بهذه الخصائص فقد عُرفت في جميع العصور وعند جميع الثقافات دون استثناء، لا تخلو منها لغة من اللغات لما تجسده من طابع إنساني متميز.

 

  • كتب الأمثال: مرحلة التأسيس

ولما كانت الأمثال تمتاز بهذه الخصائص كان من الطبيعي أن تُؤلَّف كتب ومؤلفات كثيرة ومتعددة تُفسر علة السبق والتأليف في هذا الباب منذ القدم، ففي منتصف القرن الأول الهجري يشير محمد بن شريفة إلى أن بداية تدوين الأمثال العربية بدأ في القرن الأول الهجري، “ومن الرعيل الأول الذين تنسب إليهم كتب الأمثال العربية وأخبارها، عبيد بن شرية الجُرهُمي وعلاقة بن كرشم الكلابي، وصحّار بن العيّاش العبدي. وكتبهم مفقودة اليوم، ويبدوا أن بعضها ظل معروفا حتى آخر القرن الرابع. والظاهر أنها كانت مدونات صغيرة”[22].

وفي نفس السياق يذهب أبو يحيى عبيد الله بن أحمد الزجالي في معرض كتابه عن أمثال العوام إلى أن “أبو عبيد القاسم بن سلام أقدم من عنى بالإشارة إلى الأمثال السائرة على ألسنة الناس في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث، فقد ذكر في كتابه الأمثال نحوا من أربعين مثلا من أمثال العامة أو مما تمثلت به، وهو يأتي بها في أعقاب الأمثال المروية عن العرب”[23]. وهذا يدل على أن العرب منذ القرن الأول الهجري حازوا زمن السبق في تأليف الأمثال.

وقبل إتمام كرونولوجية كتب الأمثال نشير إلى ملاحظة جوهرية تتجلى في كون أغلب كتب الأمثال دونها وجمعها علماء اللغة فهي من وضعهم وتدوينهم، وهذا ما يشير إليه محمد رجب النجار بقوله: “كل عالم لغوي –غالبا- هو جامع أمثال، وكل جامع أمثال هو عالم لغوي بالضرورة طبقا لمعطيات هذه المرحلة المبكرة”[24] وهذا يدل على مكانة الأمثال في إظهار وكشف أسرار اللغة المتداولة في أي حقبة زمنية.

وبالرجوع إلى عناوين الكتب القديمة الخاصة بالأمثال منذ القرن الثاني الهجري نجد أن أول كتاب في الأمثال للعرب القدامى هو كتاب “أمثال العرب” للمفضل الضبي 168ه، وهو كتاب تأصيلي سردي يغلب عليه الطابع الأدبي يعتمد على سرد القصة لتوضيح وتفسير المثل، بحيث يشتمل على مائة وستين مثلا، فهو يسرد القصة ويختمها بمثل يؤصل لتلك القصة، وهذا الكتاب “يفيض بالقصص التعليلية للأمثال، وينقص كتاب المفضل الأسلوب العلمي، إذ يظهر فيه روح الأديب، الذي يهتم بالقصص المسلية. ففيه أحسن الأقاصيص والخرافات والأساطير التي تنتهي بعبارة مأثورة لأحد أبطالها. وهم في العادة من زعماء القبائل والعشائر وشيوخها وشعرائها”[25].

ومن أبرز الكتب التي تلت كتاب المفضل نجد “كتاب الأمثال” للغوي البصري أبو فيد مؤرج السدوسي، وقد ذكر رودولف زلهايم إلى أن هذا الكتاب يختلف عن كتاب المفضل في كونه دقيق في الإحالة على المصادر، والاعتماد على الاستشهاد بالأشعار التي يشرحها بواسطة الأمثال. وأنه كتاب يُولِي الاهتمام أكثر بالمسائل اللغوية عن القضايا الأدبية”[26].

ومن الكتب البارزة التي تلت هاذين الكتابين ظهر “كتاب الأمثال” لأحد كبار علماء اللغة في القرن الثاني الهجري أبو عبيد القاسم بن سلام، وكتابه هذا امتاز بالشمولية والدقة، ومن أبرز من شرحه أبي عبيد البكري في كتاب “فصل المقال في شرح كتاب الأمثال”، ويتضمن “كتاب الأمثال” ألفا وثلاث مائة وستة وثمانين مثلا، صنفها حسب موضوعاتها في الترتيب، وشرحها شرحا مفصلا مع ذكر القصة المرتبطة بكل مثل.

وبعد كتاب بن سلام ظهر “كتاب الأمثال” لأبي عكرمة الضبي، وهو كتاب يتضمن أشعارا متعددة إلى جانب اشتماله على ما يزيد عن مائة مثل. وبعده نجد كتاب “الفاخر” للمفضل بن سلمة بن عاصم ويتضمن أمثالا ومحاورات متعددة كانت تدور على ألسنة الناس ولم يكونوا يعرفون أصلها والمعنى الذي وردت فيه في المورد الأول.

ويستمر التدوين في مجال الأمثال، ويظهر كتاب “الزاهر في معاني كلمات الناس” في القرن الرابع الهجري لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، ثم “كتاب الجوهرة في الأمثال” الذي هو جزء من العقد الفريد للفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، ويعد هذا الكتاب من أبرز مصادر اللغة العربية، وقد بدأ كتابه هذا “بأمثال القرآن الكريم، وأتبعها بأمثال الحديث النبوي الشريف، قبل أن يورد باقي الأمثال”[27]. ولا ننسى أيضا في نفس القرن الرابع الهجري ظهرت كتب خاصة بالأمثال ومن أهمها كتاب “الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة” لحمزة بن الحسن الأصبهاني، ثم كتاب “جمهرة الأمثال” لأبي هلال الحسن العسكري، وقد تم تصنيف الأمثال في هاذين الكتابين حسب الترتيب الهجائي.

وفي القرن الخامس الهجري تطور التدوين والبحث في مجال الأمثال إذ بدأ يتخصص ويتفرع ليشمل موضوعات متعددة تجمع الأمثال التي قيلت في حقب زمنية معينة، وهذا ما نجده في كتاب “التمثيل والمحاضرة في الحكم والمناظرة” لصاحبه أبي منصور الثعالبي الذي يعتبر من أشهر الكتب في التصنيف الموضوعاتي، وهذا ما أشار إليه محمد رجب النجار إذ اعتبره “عمدة كتب الأمثال العربية القديمة في مجال التصنيف الموضوعي الدلالي”[28] وقد جمع الثعالبي في هذا الكتاب الأمثال الجاهلية والإسلامية والعربية والأعجمية والملوكية والسوقية وأمثال الخاصة والعامة مع المقارنة بينها، كما “يتميز الكتاب بالشواهد الشعرية التي نقّبَ عليها المُؤلِّف في بطون كتب الأدب العربي، فلكل مَثَل عنده ما يقابله في المعنى من الشعر، وخصوصا في قصائد الشعراء المشاهير”[29].

وفي نفس القرن الخامس الهجري ظهرت عدة مؤلفات في الأمثال نذكر منها “كتاب الوسيط في الأمثال” لأبي الحسن علي الواحدي، ويضم هذا الكتاب مائة واثنين وثمانين مثلا، ويسرد المؤلف المثل مقرونا مع قائله وقبيلته، ويورد للمثل القصص المرتبطة به. وقد أكمل هذ الصرح في مجال الأمثال أحمد الميداني النيسابوري تلميذ الواحدي إذ ألّف أكبر كتاب في عصره خاص بالأمثال وهو كتاب “مجمع الأمثال” إذ يحتوي على أكثر من ستة آلاف مثل، “واعتمد في جمعها على كتب الأعلام من قبله، وخاصة أبا عمرو بن العلاء، والمفضل بن محمد، وأبا عبيدة، والأصمعي، والمفضل بن سلمة، وغيرهم”[30].

وبعد كتاب النيسابوري ظهر كتاب “المستقصى في أمثال العرب” لأبي القسم محمود الزمخشري. وبعد هذا الكتاب نجد كتاب “تمثال الأمثال” في القرن التاسع الهجري الذي ألّفه أبو المحاسن محمد بن علي العبدري، وقد جمع فيه أربعمائة وواحدا وأربعين مثلا.

وعموما يصنف الباحثون الأمثال العربية بحسب تاريخها إلى أمثال قديمة تنتمي إلى العصر الجاهلي والإسلامي وَدُوِّنت في القرن 2 و3 ه، وأمثال مولّدة دونت في القرن 4 ه، وأمثال حديثة سجلها المستشرقون في القرن 19م، من الأقطار العربية، وأمثال عامية أو شعبية باللهجة تجرى على ألسنة العامة.

كما يتبين مما سبق أن التأليف في باب الأمثال بدأ مع اللغويين الذين حازوا شرف السبق في هذا المجال كأبي عمر بن العلاء المتوفي 154ه، والمفضل الضبي المتوفي 168ه، ومؤرخ السدوسي وأبو عمر الشيباني المتوفي 206ه، وعبد المالك الأصمعي المتوفي 216ه، وغيرهم. وهذا الزخم في التأليف يظهر ما كانت تمتاز به الأمثال من قيمة أعلت من شأنها وتفردها عن غيرها من الأشكال القولية الأخرى.

 

  • المثل والحِكمة

قبل الغوص في الفروقات الحاصلة بين الحكمة والمثل، نبسط تعريفا لغويا ساقه بن منظور في إحاطته بالجانب اللغوي الذي تطرحه كلمة حكمة، حيث يذهب أن  الحكمة “عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم…وعند الجوهري: الحُكم والحكمة من العلم، والحكيم العالم وصاحب الحكمة، وقد حكُم أي صار حكيما، قال النمر بن تولب:

وَأَبْغِض بَغِيضَكَ بُغْضا رُوَيْدا   إِذَا أَنْتَ حاوَلْتَ أنْ تَحْكُمَا

أي إذا حاولت أن تكون حكيما، والحُكْمُ: العلم والفقه، قال تعالى: وآتيناه الحكم صبيا، أي علما وفقها، هذا ليحيى بن زكرياء، والحديث “إن من الشعر لحكما” أي أن في الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، ويروى: “إن من الشعر لحكمة” وهو بمعنى الحكم. والعرب تقول: حكمتُ وأحكمتُ بمعنى منعت ورددت، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم، لأنه يمنع الظالم من الظلم…والحكمة أيضا العدل، ورجل حكيم: عدل حكيم، وأحكم الأمر: أتقنه وأحكمته التجارب على المثل، وهو من ذلك، ويقال للرجل إذا كان حكيما: قد أحكمته التجارب، والحكيم المتقن للأمور”[31].

فالمتأمل فيما سطره بن منظور في التعريف أعلاه يقف عن مجموعة من الدلالات المتعددة التي ترتبط بالحكمة، وأولها مطابقة الحِكمة للمعرفة العالمة التي تُدْرٍكُ علوم الأشياء فَتُقَدِّمُ فيها رأيها الذي يُوَافق ما تَرَابَطَ واتَّصَلَ بين الحادثة أو الواقعة وما يؤطرها من عين عالمة عارفة، كما تُطابق الحكمة مفهوم الإتقان، ذلك أن المتقن في أي مجال هو بالضرورة يمتلك حكمة أهّلته لكي يكون على ما هو عليه.

كما أن صاحب الحكمة يسمى بالحكيم الذي يعتبره بن منظور عالم وفقيه بحيثيات وتفاصيل الأشياء حتى صار فيها عالما حكيما.

وما يستفاد كذلك أن الحكمة ترتبط ودلالة الحُكم أي القضاء بين الناس بما توجبه الحكمة من صواب، فالمظلوم يعطى حقه والظالم يأخذ عقابه والحاكم بينهما حكيم يعرف منزلة الأشياء بما عرف من تجارب فأصبح يوافق الصواب.

ومنه نخلص أن الحكمة تدور في فلك معاني متعددة يحكمها الترابط ومنها: الإتقان، العلم، المعرفة، الفقه، التطابق، الموافقة، الصواب، الحُكم، التجربة، الإلهام. وهذه المعاني مجتمعة هي ما نجدها في سياق مجموعة من الآيات القرآنية كقوله سبحانه: “يوتي الحكمة من يشاء ومن يوتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”. سورة البقرة، الآية: 268.

وبالتعمق أكثر في الجانب الاصطلاحي لدلالة الحكمة نجد أنها ترتبط بجانب أخلاقي توجيهي يستمد مضمون قوله من لب العقل والتجربة، وهذا ما يذهب إليه حنا الفاخوري بحيث يعرف الحكمة على أنها: “من جوامع الكلم، تفيد المعنى الذي ترمز إليه الألفاظ مما هو شأن الأخلاق، كقولك مثلا: لسان العاقل في قلبه، قلب الجاهل في لسانه، فالحكمة بمقتضى هذا، هي نتاج تجربة، أو نظرة تحتكم إليها نظرة البشر، لأنها تعد مترجما على الإنسان وعقله ونفسه، فهذا الكلام يسمى حكمة، وهو كما ترى مرصوص العبارة يفيد بألفاظ قليلة، معاني كثيرة مرجعها إلى أن العاقل من ضبط لسانه فلم يطلقه من غير تفكيره، يضع لسانه من أن يبيح بالاسرار، إنك ترى أن هذه الحكمة تهذف إلى توجيه الحياة في طريق الفطنة وطريق الاستقامة”.[32]

وهنا يظهر التخصيص الذي تمتاز به الحكمة حيث أنها القول الصائب والعلم النافع والعمل المفيد الذي يخرج من أفواه الحكماء أولي الألباب من الخاصة فقهاء وشعراء وعلماء وفلاسفة، لذلك تجد الحكمة وأنت تقرأها وتسمعها تنحو هذا النحو؛ فهي “قول رائع موافق للحق، سالم من الحشو، وهي ثمرة الحنكة، ونيجة الخبرة وخلاصة التجربة”[33].

ولمّا كانت كذلك اختلفت عن المثل الذي يصدر عن الخاصة والعامة على حد سواء قد يحمل الصواب أو الخطأ الذي قد يكون بنسبة كبيرة عكس الحكمة بما هي “قول يتضمن حكما صحيحا مسلما به، والحكمة عبارتها قصيرة وبليغة، ولكن لها غاية في تأدية المعنى المقصود، وتكون نثرا أو شعرا، وهي ثمار ناضجة من ثمرات الاختبار الطويل والتجربة الصادقة والعقل الراجح والرأي السديد”[34].

وعليه يمكن أن نجمل جل الفروقات بين الحكمة والمثل في نقط كثيرة رغم ما يحكم المثل والحكمة من تداخل في بعض الخصائص، ومن هذه الفروقات نذكر ما يلي:

  • الحكمة غالبا ما توافق الصواب كما أشرنا سلفا، خاصة في التوجيه والإرشاد، فأغلبها صادر عن حكيم فهي “كلام يوافق الحق وتقبله العقول مع إيجاز في اللفظ وإصابة المعنى والكناية”[35]. عكس المثل الذي قد يحمل توجيها يناقض الصلاح والفائدة. وعليه ندرك مجموعة من نقط الاختلاف نوردها كما يلي:
  • المثل قائله مجهول ويرجع إلى الجماعة، في حين أن الحكمة قائلها معروف ويسمى بالحكيم.
  • الحكمة تتأسس على البرهنة والحجاج، عكس المثل الذي يتأسس على التشبيه والمقارنة، وهذا ما يشير إليه أمين اسماعيل توفيق بدران بقوله: “المثل يقع فيه التشبيه دون المثل، والمقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ”[36].
  • بعض الحكم تحتاج في فهمها إلى كثير من التأمل لفهمها وإدراك مغزاها للعمل بها، عكس أغلب الأمثال التي لا تتطلب جهدا فكريا لفهمها وإدراك معناها.
  • الحكمة غالبا ما تهذف إلى التعليم والتوجيه، وتتداول في الغالب بين خاصة الناس وليس عوامهم كما هو معروف في المثل.
  • يعتمد المثل على التشبيه، أي تشبيه مورده الأول بمضربه، في حين تفتقد الحكمة التشبيه، فهي الحكم الصائب في المعنى.
  • المثل يتصل ويرتبط بمصدر قصة وروده “وهذا الارتباط يجعله مقيدا أيضا بشخصيات ذلك المورد، وبالصيغة التركيبية”[37].
  • المثل يتصف بالقصر والإيجاز في أغلب الأمثلة السائرة، عكس الحكمة التي قد تطول في التركيب.
    • خصائص المثل:

لا شك أن للأمثال خصائص وسمات تنفرد بها عن غيرها، ويمكن إجمالها فيما يلي:

  • المثل قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول.
  • يقوم المثل على إسقاط تجربة سابقة على حالة جديدة.
  • المثل يعبر عن المعاني بالتلميح بدل التصريح، وفي ذلك نوع من حسن التخلص وإنكار الذات الفردية وتغليب الذات الجماعية. ومعنى التلميح أي أنه لا يصرح بالمعنى الذي يريده مباشرة، ولا يعبر عنه بالألفاظ المعروفة، وإنما يخفي تلك المعاني المراد التعبير عنها عن طريق الكناية والتلميح، و يعبر عنه بألفاظ أخرى هي ألفاظ المثل دون تصريح واضح.
  • المثل سريع الذيوع، واسع الانتشار، ثابت في التركيب والدلالة يقوم على الإيجاز في اللفظ.
  • الإيجاز: وهو من أبرز سمات وخصائص المثل التي ينفرد بها عن غيره من فنون القول، يقول البكري في هذا السياق: “والأمثال مبنية على الإيجاز والاختصار والحذف والاقتصار… والأمثال موضع إيجاز واختصار”[38]. ويورد القلقشندي متحدثا عن خاصية الإيجاز في الأمثال: “وأما الأمثال الواردة نثرا فإنها كلمات مختصرة تورد للدلالة على أمور كلية مبسوطة، وليس في كلامهم أوجز منها، ولما كانت الأمثال كالرموز والإشارة التي يلوح بها على المعاني تلويحا صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا”[39].
  • المثل يقوم الإيقاع، وهو من العوامل الأساسية التي جعلته يصمد أمام الزمن.
  • المثل مجهول المؤلف، لأن ذاتيته ذابت في الجماعة ما دام هو خلاصة تجربتها.
  • المثل يمتاز بحسن التشبيه كونه يشبه حالة أولى بحالة ثانية على أنها مطابقة للأصل الذي جرت فيه، ومعلوم أن التشبيه: “من أشرف كلام العرب، وبه تكون الفطنة والبراعة عندهم”[40]. وهذا ما جعل عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة يعتبر المثل يقع موقع السحر في التأيف والبيان وفي هذا السياق يقول: “…وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق، وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين”[41].
  • تجربة مشتركة تصدر عن الجماعة
  • الاستمرارية عبر الزمان
  • عموم الدلالة ووضوح المعنى
  • التداول في النقاشات الجدالية الخلافية
  • الاتصاف بالترادف أي الاختلاف في اللفظ والاتفاق في المعنى
  • السرعة في التلميح عوض التصريح أي أن المثل يقوم على “تفادي التعبير عن بعض المعاني صراحة. فيكون وسيلة تعبيرية تتوسل بالمداورة البلاغية. وفي ذلك جمع بين جمال الأسلوب، وحسن التخلص”[42]

ومن خلال بسط السمات التي يتميز بها المثل أعلاه يتبين أن قوته يستمدها من هذا التفرد الذي يعطي للأمثال قيمتها في كل زمان. وبذكر تعاقب الأزمنة أشار زلهايم إلى أن الأمثال من حيث تعاقبها الزمني تنقسم  إلى ما يلي:

     أ ـ الأمثال القديمة: وهي أقدم ما نعرفه من الأمثال العربية، وتبدأ بالعصر الجاهلي وتمتد حتى بداية العصر العباسي الأول، وقد دونت بعض الأمثال في نهاية العصر الجاهلي في صحيفة، واهتم شعراء ذلك العصر بها وحشو قصائدهم بالأمثال[43]. عني بجمعها وتفسيرها علماء اللغة. وهذه الأمثال قسمت إلى صنفين؛ صنف كتابي وآخر قولي شفهي يتصف بكونه عامي شعبي

ب ـ الأمثال المولدة: وهي الأمثال التي دونت منذ القرن الرابع الهجري، وقد قام بجمعها الميداني في كتابه مجمع الأمثال، وأفردها في نهاية كل فصل من فصول كتابه [44]. كما نجد كتابا خاصا بهذا الضرب من الأمثال، لم يسبق إليه في جمع الأمثال المولدة، وهو كتاب “الأمثال المولدة” لأبي بكر الخوارزمي، “وهذه الأمثال نشأت بعد الأمثال الفصحى وذلك أمر طبيعي فهي تعبير الشعب عن ذاته في العصر المتأخر وفي المدن المتحضرة”[45]، “وقد اتسمت هذه الأمثال بأنها تجنح إلى التحليل، أي بسط المعنى والاسترسال في الصياغة مع السهولة في اللفظ، وقد أنتج ذلك الأمثال الحوارية وهي تتألف من سؤال وجواب”[46].

ج ـ الأمثال الحديثة: وهي التي جمعها الأوروبيون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين من الأقطار العربية”.[47].

د- الأمثال الشعبية والعامية: وهي الأمثال التي تستعمل باللهجات المحلية.

[1] : ابن منظور، لسان العرب، ج: 11، دار صادر، لبنان، بيروث، ط: 1968، ص: 610-611.

[2] : الأمثال العربية القديمة، رودلف زلهايم، ترجمة: رمضان عبد التواب، ط 2، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1402هـ/1982 م ، ص 21،22.

[3]  ـ أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، ج: 8، (بيروت: دار إحياء التراث، د.ت)، مادة: مثل، 199-200-201-202-203.

[4] ـ  تهذيب اللغة، تحقيق: إبراهيم الإبياري، ج: 15، (د.م. دار الكاتب العربي، 1967م)، مادة: مثل، 98.

[5] ـ  معجم مقاييس اللغة، وضع الحواشي: إبراهيم شمس الدين، ج:2، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1420هـ- 1999م)، مادة: مثل، 498.

[6] ـ القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، ط: 6، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1419هـ- 1998م)، مادة: مثل، 1056.

[7] : الميداني أبو الفضل، أحمد بن محمد النيسابوري، مجمع الأمثال، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط2، ص:13.

[8] : السيوطي، المزهر في علوم الأدب وأنواعها، ج1، دار إحياء الكتب العربية، ص: 486.

 [9]: الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة، حمزة الأصفهاني، تحقيق: د/ قصي الحسين، (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 2003م)، 25.

[10]: كتاب الأمثال، أبو عبيد بن سلام، تحقيق: د/ عبد المجيد قطامش، الأمثال العربية، (دمشق: دار المأمون للتراث، 1400هـ-1980م) (من التراث الإسلامي- الكتاب السابع)34.

[11]: العقد الفريد، تحقيق: محمد عبد القادر شاهين، ج:3، (بيروت: المكتبة العصرية، 1426هـ- 2005م)، 5.

[12]: ديوان الأدب، إسحاق الفارابي، ج 1، ص 74، تحقيق: مختار عمر، مؤسسة دار الشعب للصحافة و الطباعة والنشر،القاهرة 2003 .

[13]: آثار ابن المقفع: الأدب الصغير، (بيروت: دار مكتبة الحياة، 1978م)، 326.

[14]: شرح الفصيح، أحمد المرزوقي، نقله جلال الدين السيوطي في، المزهر في علوم اللغة و أنواعها. ج 1/ ص 486، دار التراث، القاهرة.

[15]: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1422هـ- 2001م)، 279-280.

[16]: فجر الإسلام، ط:12، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1978م)، 60- 64.

[17]: زلهايم، الأمثال العربية القديمة، مرجع سابق، 27.

[18] : مينيكه شيبر، النساء في أمثال الشعوب، دار الشروق، الطبعة الأولى، القاهرة: 2008، ص: 36.

[19]:  انظر أنيس المقدسي “تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي”، ط: 6، (بيروت: دار العلم للملايين، د.ت.)، 87- 93.

[20]: أبو علي، الأمثال العربية، مرجع سابق، 42-43.

[21] : أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج 3، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ص3.

[22] : محمد بن شريفة، تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب، بحوث ونصوص. ج: 1، ص: 23.

[23]: أبو يحيى عبيد الله بن أحمد الزجالي القرطبي، أمثال العوام في الأندلس، تحقيق وشرح ومقارنة، الكتور محمد بن شريفة، القسم الأول، ص: 99.

[24] : محمد رجب النجار، الأمثال الشعبية في التراث العربي: دراسة في مناهج التصنيف.

[25] : رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة. ص: 52-53.

[26] : انظر رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة، ص: 80 وما بعدها.

[27] : محمد أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي. ص: 53.

[28] : محمد رجب النجار، الأمثال الشعبية في التراث العربي، دراسة في مناهج التصنيف.

[29] : انظر محمد أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي، ص: 55.

[30] : محمد بن شريفة، أمثال العوام الأندلس لأبي يحيى الزجالي، الجزء الأول، ص: 80.

[31] : بن منظور، لسان العرب، مادة – حكم – ج: 12، ص: 140.

[32] : حنا الفاخوري، الموجز في الأدب العربي، تاريخه، مج1، ص: 67.

[33] : أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي، دار النهضة، القاهرة، ط25، ص:18.

[34] : علي الجندي، في تاريخ الأدب الجاهلي، دار غريب، القاهرة، ط: 1998، ص: 75.

[35] : محمد جابر العلواني، الحكم والأمثال النبوية من الأحاديث الصحيحة، ص: 65.

[36] : أمين اسماعيل توفيق بدران، الأمثال وتوظيفها في الشعر الجاهلي، ج:8، ع:33، ص:10.

[37] : عبد المجيد قطامش، الأمثال العربية، ص: 19.

[38]  ـ عبد المجيد قطامش، ص: 19.

[39]  ـ  صبح الأعشى، القلقشندي، ج 1، ص 295.

[40]  ـ نقد النثر، قدامة بن جعفر، ص 58.

[41]  ـ  أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، ص 111.

[42] – محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي. ص: 42.

[43] ـ زلهايم، الأمثال العربية القديمة، مرجع سابق، 43-44.

[44] ـ نفسه، ص: 43.

[45] ـ أبو صوفة، الأمثال العربية ومصادرها في التراث، مرجع سابق، 19.

[46] ـ عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها بنظائرها، مرجع سابق، 181-182.

[47] ـ زلهايم، الأمثال العربية القديمة، مرجع سابق،43.

2 تعليقات

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

2 التعليقات

آخر المقالات