728 x 90

الخيار، نص مسرحي، الدكتور عبد الله شكربة

الخيار، نص مسرحي، الدكتور عبد الله شكربة

أم كلثوم تغني من جديد
نص مسرحي في خمس لوحات
اللوحة الثانية: الخيار

الدكتور عبد الله شكربة

وعندما انفتح باب الأمل، كان الجيشان قد التحما في معركة الوغى، وكان علي أن أختار بين الطرفين، لأنظم إلى صفوفه. حزمت أمري وعزمت على اختياري. و حين أوشكت ولوج ساحة المعركة ناداني صوت لا أدري مصدره، ولا صاحبه، ولا منبعه؛ أصوت داخلي أم خارجي؟ صوت لا كالأصوات، قريب من الهمس، بعيد عن الجهر. تجتاحه رنة حنان تارة، ونبرة غضب أحيانا أخرى. تتغير الأحوال وتختلف الأزمان، وتعلو مقامات الأشخاص أو تنخفض، لكن الصوت لا يتبدل؛ تتزين مظاهره وتتسربل بعصره، إلا أنه يظل محافظا على جوهره.
الصوت: إلى أين؟
الذات: ساحة المعركة تنتظرني.
الصوت: وهل حسمت خيارك.
الذات: نعم، اخترت الفريق الفلاني.
الصوت: أنت في المكان الخطأ.
الذات: ومن أنت حتى تقرر الصواب والخطأ.
الصوت: لا يهم من أنا، المهم أنك في المكان الخطأ، ويهمني أن تعدل عن ذلك.
الذات: صوت مجهول يهمه مصلحتي، أليس حري بي معرفته حتى أعلم صدقه من كذبه؟
الصوت: أنا منك وإليك، قريب منك قرب القلب من صاحبه، والفكرة من عقله، مصلحتك من مصلحتي، وسعادتك سعادتي، وشقاؤك شقائي، أحب لك الخير ليس حبا فيك، بل حبا في نفسي.
الذات: حسنا. وما أدراك أنت بالخطأ والصواب؟
الصوت: لأنه الفريق المنهزم، فأنت اخترت الهزيمة على النصر، والموت على الحياة، لذلك أنت في المكان الخطأ، عليك أن تنظر بعين العقل، لا بعين العاطفة، وأن تسمع بأذن الحكمة لا بأذن الحماسة والتهور، قدِّر مصلحتك، فكر جيدا قبل أن تتخذ قرارا قد تندم عليه لاحقا، التريث حكمة، والحياد نباهة، والحماسة تهور، والتسرع طريق كل الشرور، تذكر أن القرار ليس لك وحدك، فخلف قرارك أقوام، ووراء خيارك أيام جسام لا نطيقها.
الذات: ارتبكت، وسكت أفكر في قوله، ألتمس منه بصيص الصواب، وأنقب عن الجواب. فأعدت شريط ألفاظه، وقرأتها بمجهر الحق والحقيقة، ثم فجأة انبعثت هذه الجملة من خزان ألفاظي، كانبعاث طائر “الفينيق” من رماده، “حتى صلاح الدين كان سيختار خياري.
الصوت: ( يبتسم بخبث دون أن يبدي اندهاشه بالجواب) صلاح الدين بطل، والأبطال دائما يختارون الفريق المنتصر، ثم يقودونه إلى النصر. الأبطال يعرفون متى يقبلون ومتى يدبرون.
الذات: (أرتبك مرة أخرى) قلت في نفسي: كلامه معجز لكنه غير مقنع، لابد من ثغرة في ألفاظه، منها أتسلل الى عرشه وأسقطه منه.
الصوت: ( مزهوا بجوابه وموقنا بنصره) ها ماذا قلت، أراك قد صمت، لا تتردد، الفريق الثاني يملك مفاتيح النصر؛ يملك القوة. احسم أمرك ولا تتردد.
الذات: ( ها هو قد سقط بين يدي، كشف عن ثغرة لا يستطيع سدها ) صلاح الدين كان يدافع عن قضية، والفريق الثاني يملك قوة دون قضية. ( أحسست بتأثير كلامي في نظرة عينيه، لكنه لم يبد ارتباكه).
الصوت: من امتلك القوة لا يحتاج إلى قضية، فهي تتكفل بكل شيء، هذه سنة الأولين والآخرين، القوة تصنع القضية، وتحقق العدالة.
الذات: عدالة القوة ظالمة، تنتصر حبا في النصر، حبا في إرضاء غرور النفس.
الصوت: صلاح الدين بالقوة حقق العدالة، ولولاها لكان نكرة في التاريخ والجغرافيا.
الذات: بل صلاح الدين آمن بقضيته، وهي من منحته القوة .القوة عدالة إذا وزنت بميزان الإنسانية.
الصوت: هذا ما ترى.
الذات: نعم الإنسان قضية، قالها غسان كنفاني في روايته “عائد الى حيفا”.
الصوت: وماذا كان مصير غسان؟ قل؟ هل نفعته قضيته؟
الذات: حتى باولو كويليو قال ذلك أيضا في الخيميائي.
الصوت: ذاك كلام أدباء، لا تنصت لهم. يحركون العاطفة ولا يخاطبون العقل. يسبحون في مثلهم العليا، يعيشون في مدينة أفلاطون، لا يعرفون حقيقة الواقع وإن عاشوا فيه. قلوبهم لينة، وعواطفهم جياشة، الهيام لا يفارقهم، يندفع الهيام من القلب الى العقل فيرى كل شيء بعين الحب، لذلك قيل “أعذب الشعر أكذبه”، فهم عن الحقيقة أبعد وللكذب أقرب.
الذات: أليس الأديب ابن بيئته، هو صوت الواقع، ونبض الشارع، ينتصر للمظلوم، ويظهر قضية المكلوم، هو القلب المرهف الإحساس، هو المرايا التي تعكس قضايا المجتمع؟
نعم قلوبهم لينة، وعقولهم غلب عليها لين القلب، لذلك يشعرون بألم الضعيف، ويزفون للغني أمل الفقير، ويخبرون الحاكم عن حال المحكوم، يبثون الشكوى، ويشجعون على النخوة.
الصوت: ( يضحك ضحكة يداري بها ارتباكه) ذاك رجل يبيع الأدب مقابل كسرة خبز، فقير يبحث عن رزقه، ومحروم يطلب شهوته، ومجهول يسعى وراء شهرته، الكلمة المرهفة وسيلته، يدغدغ بها العاطفة، يعزف على أوتار النفس، فيختار القضايا الملهمة، والمواضيع الثائرة.
الذات: ومهموم يجري وراء قضيته. أليس كذلك؟
الصوت: ( يضحك لكن ملامحه لم تستطع أن تخفي ارتباكها) بلى، ولكنهم قليل، صاروا كالكبريت الأحمر، فهم حالة استثنائية، والاستثناء لا يقاس عليه. هكذا قال الفقهاء. أليس كذلك؟
الذات: بلى. ولكن ألم تسمع المثل القائل “حفنة من نحل خير من قطيع ذباب” .
الصوت: ( يضحك) مثلك لا يستقيم يا حبيبي، فحفنة نحل لن تطعم صبيا، لذلك فإن أثَر قطيع الذباب أكثر بكثير من أثر بضع نحل.
الذات: إنك ذكي؛ تواجهني بحجتي.

ثم اشتد عود الحرب، وصار الجيشان بين كر وفر، والتحق الغبار بالسماء، وتعالت آهات الجرحى، وانطلق إنذار التراجع، واشتد لهيب التراشق بالنبل والرماح، وفجأة ظهر رجل ثلاثيني مقعدا، يقاتل فوق كرسي متحرك بمقلاع دون خوف أو جبن. فقلت للصوت الذي يلاحقني: انظر إلى هذا المشهد. ما الذي يجعل هذا المقعد يقاتل بشجاعة قَلّ نظيرها؟ أليس إيمانه بقضيته؟
الصوت: بل هذا رجل يطلب موته، تأمل معي كيف سيموت…
الذات: نعم لقد مات لكن البشرى تعلو وجهه، الابتسامة لا تفارقه، أكيد أنه يفرح الآن بإنجازه، فقد صنع بطولته، وخلد نفسه في التاريخ.
الصوت: التاريخ لا يعترف ببطولة الموت، بل يسعد ببطولة الحياة، هو الآن نكرة في التاريخ. لو اختار الضفة الثانية لكان أسعد الناس. لقد اختار الهزيمة والضعف، اختار المستحيل.
الذات: محمد بن أبي عامر حقق المستحيل.
الصوت: ذاك زمن مر والوقت غير الوقت. محمد بن أبي عامر استغل لحظة زمنية غير متاحة الآن.
الذات: رحِمُ الزمن حبلى بالأبطال الذين يصنعون الظرفية الزمنية ويقترحون أنفسهم على التاريخ.
الصوت: عدت للتاريخ مرة أخرى.
الذات: التاريخ هو عين المستقبل.
الصوت: وقد تكون هذه العين عمياء.
الذات: وقد تكون زرقاء.
الصوت: (يضحك) أنت تحلم، دعك من أحلام اليقظة، فالتاريخ يقتل أبطاله، وهو لا يعترف إلا ببطولة تصنع الحياة
الذات: حياة التاريخ تبدأ بعد الموت.
الصوت: إذا بقيت هكذا ستخرج من أبواب التاريخ الواسعة.
الذات: أو سأدخل من أبوابه الواسعة.
الصوت: فريقك ضعيف، وشعبك ممزق، وعتادكم لا يقارن بعدتهم، هم يصنعون ونحن نشتري ، يخترعون، فنقف منبهرين مندهشين من ذكاء عقولهم، يعيشون للمستقبل دائما، بينما أنتم وقعتم رهينة للماضي، لم تتخلصوا من ماضيكم. ثم تقول لي تريد أن تواجههم؟؟؟ بماذا؟ بأحلام اليقظة والأماني المعسولة؟؟؟
الذات: نعم أتفق مع الكثير مما قلت، وأخالفك في بعضه.
الصوت: ها أنت بدأت تصدقني.
الذات: دعني أتمم كلامي.
الذات: تشخيصك دقيق، وكلامك حقيقة. والحق أحق أن يتبع. لكن ألا ترى أن هناك شباب ناضج، علم الحقيقة، وتسلح بسلاح العلم، وتجهز بعتاد العمل، وتسربل بلباس الوعي، يفتح المجالات، يكتشف الطاقات، يحرر الإبداعات، يقاوم الإغراءات، وينشر البيانات والبلاغات، للسؤدد راغب، ومن الواقع غاضب، وللتحرر طالب، ومن الهزيمة هارب، يجدد العزيمة، ويقوي الشكيمة، ولا يهاب الشتيمة، شباب يافع، ولوطنه نافع، وعن أهله مدافع، يحب الخير وينبذ الشر.
الصوت: ( يضحك بخبث) نعم لكن كلمتهم مشتتة ووحدتهم ممزقة، لذلك فإن جهدهم يذهب هباء منثورا.
الذات: هم في بداية الطريق، يجددون الحياة، ويتجاوزون العقبات، ويبشرون بالخيرات. المستقبل صناعة، المستقبل يبدأ الآن، تذكر قولي، سيكون لهم ولنا معهم شأن عظيم. العبرة بالخواتيم.

2 تعليقات

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

2 التعليقات

  • بارك الله فيكم وجزاكم خيراً

    الرد
  • كيفية كتابة وإعداد الإطار النظري البحثي؟
    يعطي الإطار النظري البحثي للقارئ إحساساً بالهيكل العام للبحث العلمي، فيشرح الموضوع وطرق حل مشكلة البحث. حيث يشكل الإطار النظري للدراسة البحثية مخططها، ويعطي لمحة عامة عن سؤال البحث وعناصره المهمة.

    الرد

آخر المقالات