728 x 90

بول بوولز في مرآة محمد شكري: التمثُّل والاستيعاب، د: عبد القادر الدحمني

بول بوولز في مرآة محمد شكري: التمثُّل والاستيعاب، د: عبد القادر الدحمني

 بول بوولز في مرآة محمد شكري: التمثُّل والاستيعاب

 

عبد القادر الدحمني[1]

 

شكل لقاء محمد شكري بالكاتب الأمريكي بول بوولز منعطفا حاسما في حياته الأدبية، فقد كان هذا اللقاء بوّابته نحو الشهرة وذيوع اسمه في عالم الكتابة، من خلال إطلالته الأولى باللغة الإنجليزية، فقد جرى توقيع عقد الترجمة والنشر مع الناشر الأمريكي بيتر أوين بمنزل بول بوولز باقتراح من بول بوولز، وتم الاتفاق في غياب النسخة التي يود بوولز ترجمتها من “الخبز الحافي”، فقد كان شكري يكتب بالنهار، ويترجم إلى الإسبانية ليفهم عنه بشكل جيد بوولز، ثم يترجم هذا الأخير إلى الإنجليزية، وقد وُعِدَ شكري بتسلم مئة جنيه تسبيقا ماليا عند الفراغ من الترجمة، لكن ذلك التسبيق سيكون هو المبلغ الثابت والنهائي الذي سيناله شكري مقابل سيرته الذاتية التي ظهرت في أمريكا سنة 1973، تحت عنوان “من أجل الخبز وحده”.

“شكري يتحدث”، برنامج رافقناه في إذاعة طنجة، وسمعنا شكري يتجول في أصقاع الفكر والأدب والحياة، وقد ألف كتبا عن بعض أصدقائه ومعارفه، كما يتحدث تماما، يجادل ويحاور، يعترض ويستدرك، يصرح ويفصح ويفضح أيضا، وقد نال بول بوولز نصيبه الوافر من حديث شكري وكتابته، من خلال مؤلفه “بول بوولز وعزلة طنجة”، ولذلك ارتأينا أن نستطلع في هذا المقال صيغة تمثل محمد شكري لبول بوولز، ومختلف الأفكار التي استند إليها في تقديم تلك الصورة، خاصة عن مثقف وأديب مثله، لكنه يحمل في “صفته” ذلك البعد الغربي الذي شكل “مثالا” يري أن يقدِّم نفسه للعالم ونموذجا في التعاطي مع الكتابة والحياة بشكل عام. فكيف تمثل شكري بوولز؟ وما هي أهم المستندات التي اتكأ عليها في أحكامه وتصوراته؟ وبأية عين رأى شكري بوولز وهو قرين الأدب والفكر و”البويهمية”، ورفيق طنجة المسكون بها مثله تماما؟

  • طنجة بين السياق الزماني والمكاني لحلول بول بوولز:

عاشت مدينة طنجة وضعا استثنائيا إبان الاستعمار الفرنسي والإسباني للمغرب، فقد كان من نتائج الصراع على المغرب بين الدول الاستعمارية أن حازت على وضع خاص استثناها من الوقوع تحت سلطة أية دولة، لتصبح ذات بعد دولي أهّلها لتكون قبلة لكل الأجناس والأطياف والأعراق والأديان، وهكذا قصدها العديد من الكتاب والأدباء من مختلف دول العالم بدءًا من الثلاثينات، وكان منهم أمريكيون وفرنسيون خاصة، وقد شكلت بفضل هذا الوضع الخاص، إضافة إلى قربها من أروبا، فضاء خصبا لاحتكاك مجموعة من الثقافات وتفاعلها سلبا وإيجابا، ولذلك تُعدّ حيزا مكانيا وزمنيا مناسبا لدراسة التفاعل الحضاري بين الأدب العربي وغيره من الآداب، ومنه تسليط الضوء على كيفية تمثل بعض رموزنا الأدبية العربية لنظرائهم المنتمين لثقافات أخرى، مع ما يحيط بعملية التمثّل ويحكمها من خلفيات معرفية وثقافية واجتماعية معينة، وما قد يدخل فيها من مؤثّرات حضارية وزمانية ومكانية مختلفة، ولذلك فإن الوقوف على “صورة بول بوولز عند محمد شكري” يعدّ عيّنة جد مناسبة لقياس درجة التفاعل الثقافي بين أدبنا العربي والآداب الغربية، بين أدبائنا والأدباء الأجانب، خاصة وأن الروائي الأمريكي بول بوولز أقام في طنجة بدءًا من ثلاثينات القرن الماضي إلى غاية وفاته.

إضافة إلى ما سبق، نجد أن من مميّزات السياق الزمني الذي يشكل وعاءً لدراستنا، أنه يغطي فترة الاستعمار الفرنسي/ الإسباني للمغرب، كما يمتد إلى فترة الاستقلال، بل إلى غاية منتصف التسعينات، وهو مجال زمني يمكّننا من رصد مجموعة من التحولات التي طرأت على التفاعل الثقافي موضوع الدراسة.

كما تشكل الفترة حيّز الدراسة مرحلة زاخرة بالأحداث والتقلبات الاجتماعية والسياسية، غير أنها تعتبر كذلك فترة زاهية، عرفت انتشارا كبيرا للأفكار والتوجهات الأدبية والمدارس الفلسفية والإيديولوجية، ومن ثمة فإنها تغدو فترة ملائمة لتسليط الضوء على أشكال التماس الحضاري والتفاعل الثقافي بين الشعوب والأمم، ولو في حدود عينية على المستوى الشخصي لروائي مترجم مثل بول بوولز، عشق طنجة وعاشر أهلها وتعلّم الدارجة وعمل على نقل العديد من القصص المغربية إلى الإنجليزية أو الفرنسية.

يحاول هذا المقال التركيز على كيفية تمثّل محمد شكري لصورة بول بوولز، ولن يسعى إلى قراءة كيفية تمثل بول بوولز لمحمد شكري أو غيره، ذلك أن هدفه تحدَّدَ في دراسة مدى استيعاب مثقف مغربي لِمَثِيلِهِ من ثقافة مغايرة ومختلفة، ولذلك تمّ حصر البحث في موضوعات محددة وردت في كتاب محمد شكري عن بول بوولز “بول بوولز وعزلة طنجة”.

  • نبذة عن حياة بول بوولز:

ولد بول بوولز في نيويورك أواخر 1910، من أب كان يعمل طبيبا للأسنان وأم عازفة بيانو، لكنّه تأثر في تربيته بعمّته “إيما” التي شجّعته على كتابة الشعر، فأصبح مولعا بالشعر السوريالي، كما اهتم بالموسيقى وبرع في العزف على البيانو هو الآخر، بل إنه تمكّن من التأليف في الموسيقى، خاصة موسيقى المسرحيات، وأصبح ناقدا موسيقيا، بحيث أنه، ومنذ حلوله بطنجة، كان هو من يؤلّف موسيقى المسرحية السنوية التي يعدّها طلبة المدرسة الأمريكية بطنجة.

غادر بول بوولز نيويورك إلى أوروبا، واستقر بباريس لبعض الوقت عند جرترود ستاين، “تلك المرأة شديدة التملك”، كما يصفها همغنواي، التي كانت تمارس ما يشبه الوصاية على الأدباء الأمريكيين الذين يحلّون بباريس، وسيتأثّر بوولز بهذه المرأة عبر مساره الشخصي والأدبي، بحيث أنها هي التي ستنصحه بالسفر إلى طنجة عندما رأت حدّة اكتئابه.

حلّ بول بوولز بطنجة سنة 1931، على متن باخرة قادمة من مرسيليا مرفوقا بصديقه الموسيقي آرون كوبلان، وأقاما صيفا كاملا في ضيافة الشمس الحارة ومتعة ليالي جهجوكة[2]، وكانت طنجة حينها مرتعا للتهريب والجاسوسية وتجارة الممنوعات، لكنها كانت مع ذلك مدينة نظيفة، يستطيع الإنسان أن يتواصل فيها بكل اللغات، نظرا لطابعها الدولي، كما أن الحياة فيها كانت رخيصة قياسا إلى العواصم الأوروبية.

لكن بول بوولز سيعيد استئناف مغامراته وسفرياته عبر المدن والموانئ لمدة تزيد على العشر سنوات، قبل أن يعود إلى طنجة من جديد، وخلال تلك المدة سيتزوج سنة 1938 بالكاتبة جين آور (1917 ـ 1973).

ولعلّ أثر زيارته لطنجة وهو في العشرين من عمره ستجعله يقرر الرحيل إليها سنة 1947، بنية الإقامة هذه المرة، بحيث سيستقر بأحيائها الشعبية، لكنه بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، سيغادر السكن في الأحياء الشعبية ويستقر في شقة بالطابق الرابع بإحدى عمارات المدينة الحديثة، مع حرصه الدائم على عدم تجهيزها بالهاتف أو التلفزيون وغير ذلك، مما كان يعتبره ترفا لا حاجة له به، فيما سيواصل حياته المعتزلة التي نذر لها نفسه بعيدا عن الضوضاء والازدحام، لكنه بدأ ينخرط خلال مدة إقامته بطنجة في حياتها الاجتماعية، وحاول التطبّع ببعض عادات أهلها، فأقبل على تدخين الكيف بنهم، وحاول مخالطة العامّة، رغم احتفاظه ببعض الحذر.

كان بول بوولز يكتب في كل الأمكنة والأزمنة، فقد كتب كتابه (“شاي في الصحراء”، 1949) خلال عبوره للصحراء الإفريقية بين 1947 و1948، وألف كتابه (“بعد الطوفان”، 1952) وهو يبحِر على ظهر سفينة تعبر المحيطات، ووضع خاتمته على يابسة مدينة طنجة. وفي طنجة بدأ كتابه (“بيت العنكبوت”، 1955) وأنهاه في جزيرة بسيرلانكا، أما مؤلفه الرابع (“فوق سطح العالم”، 1966) فقد اكترى ليكتبه منزلا على حافة المحيط الأطلسي بطنجة، وحرّره خلال جولاته الصباحية في الغابة المجاورة على صفحات دفتر يحمله بيده ويكتب عليه بسرعة وتلقائية .

وخلال الخمسين سنة التي قضاها بوولز في مدينة طنجة (من 1947 إلى 1999)، تمكّن من حيازة مكانة معتبرة في خريطة الإبداع العالمي، شاعرا وكاتبا وموسيقيا وصاحب أعمال طبوغرافية، وأكثر من ذلك، فقد أتيح له خلالها أن يخلق عالمه الحياتي الخاص الذي تميّز على الخصوص بوفائه لمدينة طنجة التي قضى فيها أكبر حقبة من حياته، وبنمط حياته التي اشتهر بها بين عموم “العالميين” الذين اتخذوا طنجة مستقرا وأبدعوا فيها العديد من الأعمال التخييلية والتوثيقية المعتبرة.

  • بول بوولز وطنجة “الزمكان”:

يذهب محمد شكري إلى أن من أهم العوامل التي جعلت بول بوولز يحبّ طنجة ويُؤْثِرُ الاستقرار والعيش فيها، أنه وجدها مناسبة لتخيّلاته عنها، وهو ما يجعلها في مخياله الغربي أقرب ما تكون للتمثّلات العجائبية الفانطازية المتأثرة بعوالم “ألف ليلة وليلة”، يقول بوولز: “من بين أسباب بقائي هنا هو أكيد أنه عند وصولي وجدت شعبا منسجما مع تخيلاتي”[3]. ولذلك سحرته طنجة، ووجد نفسه أسيرا لعوالمها بعدما أشبعت فضوله وحققت نشوته، يقول: “مثل أي رومانسي، كنت دائما مقتنعا، في غموض، أنه ذات يوم سأجدني في مكان ساحر يكشف لي عن أسراره ويهب لي الحكمة والنشوة، وربما الموت”[4]“. لقد جاء بول بوولز إلى طنجة صحبة آرون كوبلاند، كما يعلق شكري، بمثابة تلميذ يتبع أستاذه ويروي عنه، وكانت الكاتبة طوكلاس هي من نصحت بوولز بهذه الرحلة وشجعته عليها، كذلك جيرترود شتاين، لتكون رحلة استقرار لا رحلة سياحة مؤقتة فقط، ويتساءل شكري عن الأسباب الحقيقية التي كانت وراء استقرار بوولز بطنجة قائلا: “لكن بول ماذا أبقاه فيها بقية عمره؟ مناخها؟ بساطة العيش فيها؟ “المعجون” الساخن مصحوبا بكؤوس من الشاي المنعنع، والكيف المشاع بيعه حتى في دكاكين التبغ في ذلك الوقت، أم أبقته فيها دوليتُها، وحريةُ العيش فيها، وكلُّ سحر أسطورتها وعجائبيتها”[5].

لقد حلّ بوولز بطنجة وسكنها أو سكنته، لكنه لم يبح بحقيقة الأسباب التي جعلته يستقر فيها كل تلك المدة، لقد ظل كتوما، وكل ما سعى إليه شكري، أو بعض أصحاب بوولز، إنما هو مجرّد استكناه لنصوص بوولز وبعض تصريحاته العامة، ليستخرجوا منها تلك الأسباب الخفية التي آثر أن يحتفظ بها لنفسه، ولذلك نجد أن تحسره على ماضي طنجة يخفي تشبُّثَه بتلك الصورة التي وجدها عليها عند حلوله بها، ففي روايته “دعه يسقط (let it come down) يقول: “من مفاتن المنطقة الدولية (طنجة) كان يمكن الحصول على أي شيء ما دام يُستطاع أداء ثمنه، وأن يُفعل أي شيء كان قابلا للرشوة، كانت قضية الثمن”[6]. لكنه خارج نصوصه، يظل جوابه عن سؤال “لماذا بقيت في طنجة؟” عامًّا وموثِرا الاحتفاظَ بحميمية أجوبة ترفض الخروج للعلن، يجيب في مكر: “لقد جئت وبقيت”، وعندما يسأله شكري: “ولماذا بقيت العمر كله؟” يجيب: “أوو! لأنه هكذا”[7].

يذهب محمد شكري إلى أن علاقة بول بوولز بالمكان هي علاقة جد ملتبسة، فهو يتعلق بها أكثر من أهله، وهو في نفس الوقت يعيش شرخا في علاقته به، يقول في إحدى رسائله إلى ويليام طارك: “إن الأماكن كانت دائما أكثر أهمية لي من الناس”[8].

“إن بول بوولز هو أهم كثيرا من الأماكن التي يكون فيها” كما يصرّح صديقه تينسي ويليامز، وهو بذلك يتمركز على ذاته، بالرغم من المظهر الرومانسي المنسجم مع الطبيعة الذي يحاول أن يكونه، يقول: “مثل أي رومانسي، كنت دائما مقتنعا، في غموض، أنه ذات يوم سأجدني في مكان ساحر يكشف لي عن أسراره ويهب لي الحكمة والنشوة، وربما الموت”[9]، ولذلك يخلص شكري إلى أمرين أساسين عن علاقة بول بوولز بطنجة والمغرب عامة:

  • بول بوولز أحبّ المغرب ولم يحب المغاربة، أحبّ طنجة ولم يحب الطنجاويين.
  • حنين بوولز لماضي طنجة مجرد فكرة استعمارية محضة.

ولذلك انطلق شكري يبحث في كتابه عن طبيعة الأفكار التي يحملها بول بوولز عن المغاربة وعن فكرة التعايش.

  • بول بوولز وفكرة التعايش:

لقد قدم بول بوولز حسب محمد شكري صورة مشوّشة ومختزلة عن المغرب، رغم مبالغات الكتاب الأمريكيين أصدقاء بوولز الذي اتخذوه مرجعا لهم عن المغرب وموئلا، وهكذا “أصبح الوصي الأكبر على من يفد إلى طنجة (مدينة الحلم) من الأمريكيين، وأحيانا وصيّا حتى على غيرهم، بعد أن ربض فيها مثل أبي الهول، فصار المعمِّد الشرعي، والمرجع لهم عن المغرب كله”[10]، غير أن كل ما أحبّ من طنجة والمغرب كان حالة الحرية والتسيّب التي مكنته من تحقيق نزواته وشهواته، ولم يبق متعلّقا في أواخر حياته، إلا بصوت الأذان الذي كان يوقظه. لقد ظل بول بوولز رغم كل المدة التي عاشها في طنجة وما قدمته له، محتفظا بنظرة التحوّط والشك وبعض الخوف، من المغاربة، “إنه من الصعب العيش في بلد مسلم دون أن يكون المرء مسلما”، هكذا يقول في رسالة إلى ريجينا فاينرايش (2- 8- 1989).

وفي روايته “السماء الواقية” يقول على لسان بطله (حمو التهامي): “لا يمكن أن تحدث إلا أشياء سيئة حينما يجتمع النصارى والمسلمون”[11]. لقد صوّر بول بوولز المغاربة في بعض أعماله الإبداعية في صورة همجية مبالغ فيها، وقد وصف مشاركتهم في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب فرانكو، الذي أباح لهم إحراق القرى ونهبها واغتصاب النساء حسب قوله، بمثابة وحوش ضارية متعطشة للدم محبّة للتدمير والفتك، يقول: “لقد كانت لهم مطلق الحرية في فعل ما يشاؤون، وفعلا نفّذوا ذلك بمنتهى السرور، حيث قتلوا رجال الدين، والراهبات، وأحرقوا الكنائس، والقرى، وخرّبوا كلّ ما اعترضهم في طريقهم، لأنهم كانوا يحبّون ذلك”[12].

وجاء في قصة “بعد منتصف النهار” لبول بوولز على لسان إحدى البطلات (السيدة كالندر): “إنهم ليسوا أهلا للثقة على الإطلاق كلهم مجانين مثل الماعز”[13]. وتقول إحدى بطلات رواية “السماء الواقية”، السيدة لايل عن المغاربة: “إنهم جنس منحط ومُضجِر، لا يفعلون شيئا آخر في الحياة سوى التجسّس على الناس، كيف تعتقد أنهم يعيشون؟!”[14].

ويشير محمد شكري إلى عجز بول بوولز عن الاندماج بشكل فعّال في المجتمع المغربي، من خلال عجزه عن تعلّم الدارجة المغربية، ونطقها بشكل مضحك، على خلاف بعض أصدقائه الغربيين الذين أتقنوها، في حين كان بوولز يفضل استخدام اللغة الإسبانية كلغة حديث إلا مع بني وطنه من الأمريكيين، يقول محمد شكري: “إن بوولز لا يسعى إلى الانسجام مع الآخرين، إنه يحطمه على غرار (الأبواب المقفلة[15])”[16].

لقد وصف محمد شكري ما كان يعيشه بول بوولز من عقدة كونه أجنبي غير مرغوب فيه، بالبارانويا (مرض التوهّم)، في انتقاد لاذع لذلك التوجّس الذي لم يستطع بوولز التخلّص منه إزاء المغاربة رغم كل السنين الطويلة التي عاشرهم فيها، فقد عاش “مؤمنا أنه أجنبي غير مرغوب فيه ولا مصالحة معه”[17]، وقد قال في أحد استجواباته: “إنهم لا يقبلونني، لم يقبلوني أبدا، ما زلت أُعْتَبَرُ أجنبيا هنا”[18]، “هذا العداء، إن كان موجودا من طرف المغاربة له، خلقه هو ولم يخلقه المغاربة اتجاهه”[19]، يؤكد شكري.

غير أن الجانب المضيء من علاقة بول بوولز بالمغرب والمغاربة هو شغفه بالموسيقى المغربية وسعيه الدؤوب لجمعها، وتسجيلها، مستعينا بالسفر عبر القرى والمداشر، مستندا إلى دعم السلطات حينها لمشروعه.

  • بول بوولز وزوجته جين آور:

حلّت جين آور، أو جين بولز، بطنجة سنة 1949 رفقة ترومان كبوتي، بعد تردّد طويل في اللحاق ببول، يقول عنها بول بوولز: “جين تزوّجتني لأنها كانت تهرب من أمّها أكثر من هروبها من الرجال”[20]. عاشت طفولة منطوية، وعرفت بطيبوبتها العالية، بينما تميّز شبابها بالراديكالية، لم تكن ذات شخصية توافقية أبدا، عاشت حياة متحررة، من حيث لباسها وقصة شعرها وعلاقاتها الحميمية، وتحدّت كل الأعراف والتقاليد، أما في مجال الكتابة، فقد أرادت أن تتخطى عصرها، لكنها عاشت إحباطا أدبيا، تجلى في عدم قدرتها على المثابرة على الكتابة، واستعصائها عليها غالبا، بالإضافة إلى تمزيقها ما تكتبه باستمرار، أصدرت روايتها الأولى بعنوان “الحوذي المنافق”، لقد كانت تحاول أن تعيش تمزّقها بين الخيال والواقع عوضا عن كتابته، يقول عنها شكري: “الواضح أنها كانت تحبّ الناس أكثر من الإبداع عنهم”[21].

ما أعجب جين في بول هو أنه كان يبتسم بعذوبة، حيث في 21 فبراير 1938 تزوجت به، رغم معارضة أمّها التي كانت تود له تزوج ابنتها يهودي مثلها، وهكذا تزوجته لتغضب أمها، بينما تزوجها بوولز ليغضب أباه المعادي للسامية.

إن ما يهمّنا في هذا المقام هو إيراد مجموعة من المقارنات التي عقدها شكري بين بول بوولز وزوجته جين آور، وليس صورة جين عند محمد شكري، لقد تميّزت جين آور بالتردّد في حين كان بول حاسما، وفي مقابل إحباطها الأدبي وعدم قدرتها على الجلوس لساعات طوال لتكتب، كان بول مواظبا على الكتابة صابرا عليها، يتلاءم بسرعة مع أسوأ الحالات ويكتب رغم كل الظروف، بينما جين آور تمزّق ما تكتبه، وإذا عجزت عن الكتابة كانت تغرق نفسها في تناول الكحول، أما بول بوولز فقد استعمل “المعجون”[22] كوسيلة للحد من الحركة أثناء الكتابة، والجلوس لساعات طوال، كما سيأتي عند مقاربة موضوع علاقة بوولز بالكتابة.

كانت جين آور شكّاءة متذمّرة في حين كان بول بوولز صبورا كتوما، صلبا كصخرة، وكان بول عصاميا معتمدا على نفسه، بينما ظلت جين آور رهينة مساعدة الآخرين لها، وإذا كان بول بوولز يخطط لكل ما يفعله، فإن جين آور على النقيض منه، كانت تجرفها اللحظة والعاطفة.

عندما سئل بول بوولز عن الزواج أجاب: “لكي أتخلّص من النساء، وتتخلّص هي من الرجال”[23].

لقد عاشت جين آور منفتحة بمزاج متذمّر، لم تحاول التستر عن ميولاتها ونزواتها، وشذوذها، في حين ظل بول بوولز متحفّظا كتوما، كان يحتاجها ويستمد من تمرّدها ووقوفها بجانبه وذكائها المتّقد قوّته، وكانت هي تحبّ نبوغه وتعيش معه كفكرة، يقول محمد شكري: “جين لم يهمّها بول إلا كعشرة وفكرة، وكذلك هي والنساء بالنسبة لبول، إنه أكيد تزوّج ذكاءها وموهبتها”[24].

  • بول بوولز والجنس:

إن ما يشدّ الانتباه أن جين آور رغم تحرّرها الجنسي، رفضت رفضا قاطعا أن تمارس الجنس مع بوولز إلى حين الزواج بها، ولم تدم علاقتهما الجنسية أكثر من سنتين ونصف، ليعتصم كل منهما بمثليته، هي تعشق النساء، وهو شاذ في نفسيته وخياله، يكتم شذوذه، ولا يبوح به إلا في تخيّلاته الإبداعية، يقول عنه صديقه كومسون: “إن بول كان له قليل من الغريزة الجنسية”[25]، وهكذا سيصير الجنس بمثابة إثم في حياة بول بوولز، وسيركبه خوف شديد من أن يُغْتَصَب خاصّة في حمّام عمومي مغربي، يقول بول: “أنا شاذ بشكل مخالف”[26]، ويقول محمد شكري: “إذا كان بول مفتونا باللواط فهدفه منه هو تصعيده حتى يصير تجريديا: مجرّد فكرة حتى يسلم منه جسديا”[27].

يورد محمد شكري أن بول بوولز بدأ يتقزز من الأجسام البشرية العارية منذ أن كان يدرس الرسم وهو في السادسة عشرة من عمره، وقد بلغ سن السابعة عشرة ولمَّا يعرف بعد الفروق الجنسية بين الذكر والأنثى، لقد بدا أن بول أعطى كل الحرية لزوجته جين آور كي تمارس سحاقيتها، في حين هرب هو من الجنس ولم يعد يستهويه، إلا الشذوذ عبر الخيال، ولذلك يخلص محمد شكري إلى أن “بول بوولز مجرم جنسي خفيّ لم يرتكب جرائمه”[28].

  • بول بوولز والأصدقاء:

لقد تحوّل بولز مع مرور الوقت- بحكم إقامته الطويلة في طنجة- إلى نقطة استقطاب جاذبة للأمريكيين والأجانب من الكتاب الذين جاؤوا إلى طنجة أو قضوا فيها فترة زمنية قد تطول أو تقصر، ولعل من أبرزهم كما يذكر شكري في كتابه، الكاتب براين جيسين الذي زار المغرب سنة 1950 ممنوحا من طرف مؤسسة (فايت براين)، وأخذه بولز إلى الجبل، حيث فتنته الموسيقى الشعبية، خاصة طبول جهجوكة، ولما قرر الاستقرار بمدينة طنجة، التي كان يسميها “الجنة الأرضية”، تعلم الدراجة المغربية وفتح مطعما في منطقة مرشان  أسماه (ألف ليلة وليلة)، وتخلص تدريجيا من ذائقة الكتابة بعد نشر روايته “الصحراء المفترسة” التي لم تُمنح نجاحا أدبيا يذكر.

وفي سنة 1952 سيأتي دور الكاتب الأمريكي الفوضوي ويليام بورووز للحلول بهذه المدينة، وكان قد قرأ كتاب بوولز “دعه يسقط” الحديث الصدور، وأراد أن “يتحقق” كما يروي شكري من هوية مؤلفه، ولكنه كما يقول روندو، جاء في الحقيقة جريا وراء الشواذ والحشيش ..

سيلتحق بعد ذلك بجماعة بوولز الشاعر جاك كرواك والكاتب آلان غنسبرغ للإقامة وتناول الكيف والمعجون والكتابة تحت الشمس اللاهبة، على أن إقامة هذين الأخيرين لم تطل كما كان متوقعا، بسبب الحنين القاهر إلى مسقط الرأس: نيويورك.

جاء كذلك الكاتب العالمي تينيسي ويليامز الذي أقام بفندق المنزه وكان من عادته اليومية أن يستيقظ مبكرا للكتابة، وفي العاشرة والنصف ينصرف لقراءة الجرائد في مقهى باريس ويشرب المارتيني في أكواب عملاقة حتى ساعة الغذاء، ويذكر محمد شكري أن ويليامز الذي نشر كتابا حول ذكريات معه، كان يصر على الكتابة اليومية، ولكنه مع التقدم في السن بدأ يفقد طاقته على العمل بسبب الترهل وتقلب المزاج.

وفي طنجة أيضا، عاش الأديب الفرنسي العملاق جين جينيه في إثر عودته من ضيافة السود بأمريكا، والثوار الفلسطينيين بمخيمات الأردن.

وإلى هؤلاء جميعا، ينبغي أن نضيف الكتاب ترومان كابوت وغور فيدال وألفريد سيستر والموسيقي هارون كوبلاند وغيرهم كثير.

وفي حقبة السبعينات، استمر بولز في لعب القطب الجاذب لكل الأجانب من مشاهير الكتاب والفنانين الذين حجوا إلى مدينة البوغاز، وظل بيته محجّا للهيبيّين الذين يعبرون المضيق لمجالسة هذا المعتزل المتوحّد الذي كان بعضهم يعتبره أبا روحيا لهم، ومن بين هؤلاء نجوم جيل الروك العظام الذين كانت لهم إقامات في شقّته من أمثال مايك جاكر، العضو البارز في مجموعة الرولينغ ستونر وكينغ كريمسون وستينغ. وقد أورد محمد شكري في كتابه عددا من أصدقاء بول بوولز، مبديا مجموعة من التعاليق أو الملاحظات التي تخص العلاقة بينهما، ومن ذلك:

  • تروما كيبوتي: جاء برفقة جين آور، يصفه بول بوولز بطريقة مضحكة مقلدا صوته بسخرية.
  • براين جيسن: حل بطنجة سنة 1950، وهو صاحب رواية “الصحراء المفترسة”، كان أفضل من بول في حب المغاربة ومعاشرتهم والحديث معهم بالدارجة، أحب الموسيقى الشعبية المغربية لدرجة كبيرة، وأوصى بنثر رماد جثته في صخور مغاور هرقل وجامع الفنا.
  • إدوار روديتي: وقد كان يشبهه في تشجيعه على الإبداع والفن، كان لهما نفس السن، وصداقتهما قديمة، ورغم أن بول كان ضعيف السمع، إلا أنه كان أكثر حيوية في حركاته وانعكاساته من روديتي.
  • بياتريس بندار: شاعرة رومانسية، كانت مهذبة ورقيقة.
  • ريجينيا فاينراس: صديقة لبول كان يراسلها.
  • موريسيت: صديق كان يراسله سنة 1932.
  • أرون كوبلاند: أقام معه أياما في طنجة.
  • الهيبيون: عاشرهم بول بوولز واستضافهم في بيته، وتحمّلهم طويلا قبل أن يتبرّم ويضجر منهم، لأن بعضهم كان يتعبه بتصحيح نصوص أدبية لا موهبة فيها.
  • المرابط: صديقه المغربي، كان مساعدا له، لكن أنكر صداقته له، ووصفه بأنه مجرد خادم عنده.

ويسجل محمد شكري عن علاقة بول بوولز بأصدقائه، بعض الملاحظات، كالتالي:

  • كان بول يحبّ أن يتفرج على الصراع بين أصدقائه، كما بين المرابط وزائريه.
  • كان رغم هدوئه وصبره لا يسمح لكرامته أن تهان، إذ سرعان ما ينتفض غاضبا.
  • لم يكن بول بوولز عنيدا في نقاشاته مع أصدقائه.
  • بول بوولز والكتابة:

كان أول عهد بول بوولز بالأدب أن أمّه كانت تناغيه وهو لم يتعدّ الرابعة من عمره، بحكايات فوق مستواه العقلي لتُنيمُه، كما أنها كانت تقرأ له أيضا قصص إدغار آلان بو المرعبة، ولذلك صار كاتبه المفضل عندما كبر، قبل أن يكتشف لوتر يامون الأكثر دموية من آلان بو.

صدرت لبوولز رواية “السماء الواقية”، بلندن سنة 1949، وتأثر في كتاباته بنَفَس الأسفار والمغامرات من جرترود شتاين، بحيث “لا تكاد تخلو قصة له أو رواية من رحلة بعيدة أو قريبة، فهو كاتب مشّائي (نسبة إلى الأرسطوطاليسية peripatetitien) كما يقول عنه دانييل روندو”[29]، كما أُعْجِبَ بالشاعر الفرنسي رامبو إلى حدود سن خمسة عشر سنة من عمره، ثم أعجب بمغامراته بدل شعره بعد ذلك، رغم أنه كان يحب أن يكون شاعرا ولم يدرك طموحه هذا.

ويذكر محمد شكري أن بول بوولز تأثّر ببعض قراءاته الإثنولوجية، ومن ثمة حاول ابتكار أساطير موازية للعقلية البدائية في كتاباته، ويمكن القول بأن هناك ثلاثة عناصر كانت تعد ركائز الكتابة عند بوولز:

  • الأساطير والرحلات والبعد الغرائبي.
  • جين آور، حيث كانت له ملهمة تغذي نتاجه الأدبي، ويستمد منها قوته، يقول شكري: “ظل بول وجين يستلهم كلاهما الكتابة عما يوحيه أحدهما للآخر حتى عجزت هي عن الكتابة بسبب مرضها”[30].
  • المخدرات: حيث كانت تساعده على الثبات في مكانه وتقلل من حركته، وتعطي مخيلته زخما مناسبا، أو ما كان يسميه “المخيلة المشتهاة”[31]. يقول بول بوولز: “لا أستقر في مكاني، لا يمكن لي أن أبقى جالسا، ينبغي لي أن أتحرك، عندما نريد الكتابة فإنه يستحيل، لكن حينما ندخن فإننا لا نريد التحرّك أو القيام بجولة، إننا نظل حيثما نحن، مركزين على ما نفعله”[32].

لقد ذهب شكري إلى أن كتابات بوولز تتميز بالعنف والغرائبية، حيث يفجر أسوء ما في الإنسان، ولذلك يعلّق قائلا بحسم: “الإنساني في كتاباته يكاد ينعدم”[33]، ويورد شكري مسألة أخرى تتعلق بموقف بول بوولز من الكاتب نفسه، وهو ما يتجلّي ابتداءً في تغييبه للسارد بصيغة المتكلم غيابا شبه كلي في أعماله، يقول بول: “تُعطى أهمية بالغة للكاتب وأهمية أقل لعمله، ماذا يهم من هو وما يحسه إذا كان مجرّد آلة فقط لنقل الأفكار؟ في الحقيقة هو غير موجود، إنه صفر، فراغ، جاسوس مبعوث إلى الحياة بقوى الموت”[34].

 

  • بول بوولز والمال:

لا ينفك محمد شكري في سيرته الروائية يصوّر الحياة المتقشفة لبول بوولز التي كان يعضّ عليها بالنواجد، فهو الأجنبي البخيل والشحيح الذي يحب المال ويمقت تبذيره[35]، حيث يقيم لنا شكري بونا شاسعا بين عطاء جين آور وبخل بولز قائلا: “كان يشفق عليها دون أن يردعها، بل كان يتحمل نزواتها عندما توقع شيكات برصيد أو بدون رصيد وتعطيها لمن يطلب مساعدتها، حتى ولو لم يكن يعرفها، أو تترك حسابات في بعض الحانات، مثل باراد، يدفعها عنها هو البخيل الذي عاهد نفسه بألا يدفع إلا ما يكن دفعه عن نفسه لا عن غيره”.

ويقول أيضا في موضع آخر: “لقد كان بول بوولز يجد دائما قريبا من عائلته أو صديقا يؤويه ويساعده. ولعله ورث شحّه من والديه اللّذيْن لم يكونا يُعينانِه ماديا إلا حينما يكون مشرفا على الإفلاس التام. ومعروف أن بول بوولز يحبّ المال ويؤثر عليه محاولا دوما أن يتقرب إلى من يملكه، يقال عنه: “هو يعيش حياة قناعة”، لكن لماذا لا يقال عنه : أنه يعيش حياة شح …”[36].

رغم أن بول بوولز عاش فقيرا إلا أنه لم يعش طفولة قاسية تبرّر شحه كما يقول شكري، فقد كان بول بخيلا، لكنه رغم ذلك يشفق على زوجته جين آور ويدفع عنها شيكاتها بدون رصيد التي تتركها في بعض الحانات كما يورد شكري في كتابه.

“إن بخل بول بوولز يتجلّى حتى في الورق الذي كان يكتب عليه بعض رسائله إلى جين، ورق فظيع كانت تكرهه”[37]. ثم يسهب شكري في شرح أسباب بخل بوولز، مرجعها إياها إلى والديه اللذين لم يكونا يعينانه ماديا إلا حينما يكون مشرفا على الإفلاس التام، ولذلك كان بوولز يحب المال ويتقرب دائما إلى من يملكه، حيث أنه كانت “تعجبه حياة الرفاهية، لكنه لا يدفع ثمنها”[38]. ولذلك فقد ذكر شكري أن بول تررد كثيرا قبل أن يشتري أول سيارة، وكان ميالا إلى جمع المال لا صرفه.

لا نغفل كذلك الوصف الذي أعطاه شكري لبوولز في أكثر من موضع وذلك بكونه مصاص دماء تلميحا منه إلى مدى الاستغلال المادي الذي ألحقه به خلال مرحلة الترجمة، مقرا على أنه قد أفلح في ربح المال الكثير بترجمته لكتابه  نذكر على سبيل المثال ما ورد على لسان شكري “إنه يتوهم أن هناك دوما من يتجسس عليه ويتوجس به شرا مثل سلب ماله، مثلا، الذي يتحدث عنه بتقديس وعبادة. بول جد بخيل، هذا من حقه، لكن ليس من حقه أن يتوصل سنويا بعائدات حقوق نشر كتبي التي ترجمها، ولا يعطيني قسمتي ماعدا التسبيقات الهزيلة التي آخذها عند التوقيع على العقد، ثم هو يأخذ 50 في المئة عن حقوقه في الترجمة “[39].

على العموم يعتبر البخل المفرط لبوولز في نظر محمد شكري حالة مرضية لأن توفيره وعدم تبذيره للمال يأتي نتيجة خوفه من الفقر الذي يفصح شكري أنه لا محالة يعيشه في كلا الحالتين.

لكننا وبالمقابل نجد في الكتاب الوسوم ب” الحوار الأخير بول بوولز – محمد شكري” لعبد العزيز جدير إجابات وتصريحات من بول على شكري فيما يخص وصفه بمصاص دماء: “آه يقصد أنه مص دمي خلال هذه المرحلة. فقد كان يريد أن أقدم في ترجمة “الخبز الحافي” نسخا طبق الأصل لجمله العربية. كان خلال الترجمة يظل يراقب ما أترجمه حرصا منه على أن أقوم بترجمة حرفية. كان يريد أن يعكس النص الإنجليزي عدد الفواصل والنقط الموجودة في النص العربي.. ولك أن تتصور الصعوبات التي يمكن أن يعانيها مترجم يجلس إلى جانبه صاحب النص ليرغمه على عرض النص على آلة تنسخه بلغة أجنبية ويحتفظ بعدد سطوره ونقطه وفواصله وجمله ذاتها… وبعد لَأْيٍ استطعتُ أن “أقنعَه” أن اللغة الانجليزية ليست هي اللغة العربية وأن لكل لغة خصائصها…”[40]

ثم يضيف: ” لقد كانت ترجمة كتاب شكري أشقى ترجمة أقوم بها طيلة عمري.. فمن جهة لم أكن أعرف اللغة التي كتب بها الكتاب وهي العربية الفصحى، وأقول صراحة إن شكري هو الذي قام بالترجمة لأنه كان يبحث عن المقابل باللغة الدارجة أو الإسبانية أو الفرنسية ذاتها …إنه هو الذي استغلّني لأنني ترجمت كتابه.. فقط. فلم أضف إليه شيئا ولا حذفت منه شيئا.. واستفاد هو من تلك الترجمة بقدر ما خسرت: كل اتهاماته الكاذبة مصدرها ترجمتي لكتابه ذلك..”[41].

 

  • بول بوولز ووالداه:

إنه من المعلوم أن بول بوولز عانى من صرامة أبيه وقسوته وعنفه، كما عانى من العزلة التي كانت تخيم على منزل العائلة، وهو الأمر الذي أسفر عن قطع كل الروابط العاطفية مع المكان وترك في لاوعي بوولز رفضا وكراهية له، ودفعه بالتالي إلى للبحث عن منفى بعيد، ولعله اجثت في أعماقه جذور الحنين إلى مربع الصبا بصفة تامة، خاصة إذا علمنا أن لحظة ولادة بوولز قد عرفت أحداثا وروايات من النادر وقوعها، تقول الرواية الأولى أن والد بولز قد اتخذ قرار التخلص منه، بعد ولادته بستة أسابيع، بينما تعزي الرواية الأخرى الأمر إلى رغبة جدته من أمه في التخلص منه والقضاء عليه بهدف الاستئثار بابنته لوحدها، لكن الأرجح كما يذكر شكري هو عداوة أبيه له: “إن نزوع الهروب القهري ولد مع بولز، نحن نعرف أيضا أن وجوده لم يكن مرغوبا فيه: فأبوه أراد أن يتخلّص منه، وهو في الأسبوع السادس من عمره، عندما وضعه على حافة الشرفة في أحد أيام نوفمبر الثلجي. وهناك رواية أخرى تقول إن جدته من أمه “فينفسر” هي التي كانت تريد موته غيرة منها لكي تستأثر بابنتها (أمه) وحدها وأنها لم تكن ترغب في أن يكون لابنتها أطفال”[42].

لكن الأرجح هو عداوة أبيه له، والتي يصرح بها شخصيا كما قال شكري: “عاش بولز طفولته وسط عالم الكبار، وليس حضن الكبار، لأنه لم يتمتع بأي دفئ في أسرته، إذ حياته قننت وعوقبت إلى حد الإرهاب والجنون، ولم يتسامح معه أبوه إلا في ظروف نادرة. ومن بين التعذيبات التي كانت تمارس عليه أن أباه كان يفرض عليه بنوع من الوسواس القهري، مضغ لقمة أربعين مرة قبل بلعها حفاظا على صحته، كما كان يعتقد”[43].

ينضاف إلى هذه القساوة اعتراف بولز بإنكار والده لمواهبه الباكرة وخير دليل على ذلك الرسالة التي بعث بها هذا الأخير إلى صديقه موريست عام 1932 من إيطاليا: “غيورا من موهبتي الهائلة أَمَرَ بأن يخرج البيانو من الدار”[44]، كما لا يجب أن نغفل أيضا اللوم والعتاب اللَّذَيْن تعرّض لهما بوولز من والده في أحايين كثيرة لأنه هو السبب الرئيسي في مرض أمه ولاسيما أن ولادته كانت عسيرة وصعبة.

 

  • بول بوولز والموت:

إننا وبقراءتنا المتأنية لصفحات سيرة “بول بوولز وعزلة طنجة” نقف على تأكيد محمد شكري الجازم على أن بول يخشى الموت، حيث يورد شكري كلامه وهو يجيب صحافيا عربيا كان قد طرح عليه هذا السؤال:

“سأل شاكر نوري بول بوولز:

  • هل تخاف الموت؟
  • لا إنني لا أخاف الموت. طبعا لا أريد أن أموت، لكن مع ذلك فإني أخشى هذه اللحظة القدرية. كلنا سنموت وهذه حقيقة إنسانية ينبغي لنا أن نقبلها كما نقبل الحياة. فالموت جزء من الحياة ورغم ذلك فأي شيء لن يكون حقيقة واقعية” [45].

لكننا نجد بالمقابل بول بوولز يفند هذا الكلام الذي قصد فيه شكري من منظوره قلب الجمل بغرض الإساءة له قائلا: “ألا يلاحظ أن لهذا التصرف صلة بالدجل؟ إن صاحبنا لا يقدم أفكارا أو يناقش قضايا بل يلوك الكلام ويراكمه، وسعيه واضح، لا علاقة له بالأدب أو الفكر، وهو أن يتهم ويكذب لعله يستطيع أن يغوي بعض القراء.. ما قلته حقا: ليس الموت هو الذي ينكّل بالعالم {الناس} بل هو الخوف، أي إن الخوف يحتلّ المكانة الأولى وإن الموت يأتي بعد ذلك. كل ما في الأمر. هنا يكمن المشكل الحقيقي: حينما يزعم أحد التحدث عنك، في حين أنه، في العمق، هو نفسه، لا يفهم ما تقوله: كيف يتسنى له أن يقدم عرضا عنك، وعن أفكارك؟ عندما تنطلق انطلاقة سيئة أو متعثرة نسقط في بداية الطريق أو في منتصفه. ولن نصل أبدا إلى الهدف. إنه يحاول التعليق على فكرتي عن الخوف ويبدو لي أنه لم يفهم الفكرة التي يريد أن يعقب عليها لزعمه (فيما بعد) إنني أخاف الموت وإنني أخاف من الخوف! (ضحك). بالطبع، الانتحار يمكن من التحرر من الخوف، من الموت، أي التحرر من الحياة إذا كان حملها يؤثّر على شخص ما، ثم إننا عندما نموت فنحن نفارق الحياة. وبالطبع، فإننا نتخلص/ نتحرر من شخص ما إذا كان وجوده يثقل كاهلنا بالافتراء عليه، بقصف رقبة كلامه وأفكاره بهدف التأثير في سمعته، لأننا لا يمكن أن نقصف رقبته..(ضحك)”[46].

لا يتوانى شكري بعد حديثه عن خشية بولز من الموت في اتهامه بشكل مباشر: “كنت أعرف أن بول قادر على قتل آلاف الأشخاص في مخيلته المبدعة”، وهذا يراد به أن بول بوولز يقود شخصيات قصصه ورواياته إلى النهايات المفجعة وإلى العدمية والموت. هذا الكلام المبالغ فيه والمتميز بالتضخيم والتهويل في رأي بوولز الذي ينفيه بعده لمجموع الشخصيات التي ماتت في ما كتبه ؟ قائلا كم شخصية ماتت في كل ما كتبته؟ التامي في رواية “دعه يسقط”، الصحراويان في قصة “طريدة هشة”. الطريقة التي قتل بها التامي استقيتها من كتاب المحلل النفسي روني ألاندي. أما موت الصحراويين فقد استقيتها من حكاية واقعية رواها لي عسكري فرنسي خلال زيارتي للصحراء وذلك خلال الثلاثينات من هذا القرن. كيف يتحول هذا العدد الضئيل جدا إلى “آلاف الأشخاص”؟ ألا تؤكد هذه المبالغة المجانية رأيي القائل بأن السيد شكري لم يقرأ نصوصي؟[47].

 

  • خلاصات:

لقد استند محمد شكري في تقديمه لصورة بول بوولز إلى مجموعة من المصادر كالتالي:

  • قراءة في أعمال بول بوولز
  • شهادات أصدقاء ومعاصرين
  • مقارنات مع أصدقاء مجايلين أو قدماء ومع زوجته.
  • نُقول واستقراءات من رسائل بولز آو زوجته.
  • وقائع وحوارات شخصية لشكري مع بوولز.

وقد قدّم شكري صورة شاملة عن بول بوولز، شملت مختلف جوانب شخصيته وحياته، متجنبا المجاملة والمهادنة، بحيث لم يتردد في السخرية والنقد اللاذع أحيانا.

كما نجد أن شكري قد حاكم بول بوولز إلى معاييره الغربية التي تنسجم مع مرجعيته الثقافية والحضارية، حيث قارنه بأصدقائه، وحاكمه إلى أقواله وكتاباته، وقد كان يقظا وهو يتعامل مع كاتب يشكّل في النهاية عنصرا ضمن منظومة كانت ترمز حينها إلى بعد الهيمنة والاستعمار.

إن شكري وإن بدا متحاملا على بول بوولز في بعض الأحيان، إنما كان ينقل حقائق لا تعدّ فضائح بالنسبة لبول بوولز، إذا استثنينا مسألة ترجمة الخبز الحافي، وما قال بأنها سرقة لحقوقه من قِبَلِ بول بوولز.

لقد تميّزت نظرة محمد شكري بالعمق والشمولية والحدّة أحيانا، حيث يحضر البعد الفكري والثقافي، ويختفي البعد الإيديولوجي أو الديني، وهذا ما يفصح عن أن محمد شكري لم يوقع صك إعجاب على بياض ب”الكاتب الغربي”، ولم ينبهر به ولا تعامل معه بشكل سطحي، بل أحاله على مرجعيته الثقافية والفكرية، وحاكم آراءه إلى أفعاله وسلوكه، وإلى كتاباته أيضا.

ولعل مصدر الحدّة التي يمكن أن يوصف بها محمد شكري في موقفه من بول بوولز ترجع إلى الاعتزاز بالنفس الذي عرف به شكري، إضافة إلى اتساع مشاربه الأدبية واللغوية، إذ ربطته علاقات مختلفة مع العديد من كتاب الغرب، فرنسيين وأمريكيين وغيرهم، وهو ما فتح أمامه نوافذ عديدة أغنته عن سلوك المجاملة طلبا لحظوة أو مصلحة يلين بموجبها موقفه وتفتر حدّته.

لقد كان شكري صريحا أحيانا إلى حد الإيلام، وكان وهو يكتب عن بول بوولز كأنه يكتب عن شخصه في علاقته ببوولز وليس عن بول بوولز بشكل مجرد.

 

 

 

المصادر والمراجع:

  • شكري، محمد، بول بوولز وعزلة طنجة، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1996.
  • شكري، محمد، بول بوولز وعزلة طنجة، منشورات الجمل،1997.
  • الحوار الأخير بول بوولز- محمد شكري، عبد العزيز جدير، دار جداول للنشر،2011.

[1] – كاتب روائي مغربي، وباحث في السرديات.

[2] – موسيقى محلية مغربية تعتمد على الطبل والغيطة (مزمار).

[3]– محمد شكري، “بول بوولز وعزلة طنجة”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1996، الطبعة الأولى، ص: 11.

[4]– نفسه، ص: 21.

[5]– نفسه، ص: 10.

[6]– نفسه، ص: 11.

[7]– نفسه، ص: 11.

[8]– نفسه، ص: 16.

[9]– نفسه، ص: 21.

[10]– نفسه، ص: 28.

[11]– نفسه، ص: 12.

[12]– نفسه، ص: 14.

[13]– نفسه، ص: 14.

[14]– نفسه، ص: 14.

[15]– مسرحية لجون بول سارتر، ترجمها بول بوولز إلى الإنجليزية.

[16]– محمد شكري، “بول بوولز وعزلة طنجة”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1996، الطبعة الأولى، ص: 45.

[17]– نفسه، ص: 140.

[18]– نفسه، ص: 140.

[19]– نفسه، ص: 140.

[20]– نفسه، ص: 49.

[21]– نفسه، ص: 55.

[22] – مخدر شعبي.

[23]– نفسه، ص: 82.

[24]– نفسه، ص: 85.

[25]– نفسه، ص: 64.

[26]– نفسه، ص: 65.

[27]– نفسه، ص: 64.

[28]– نفسه، ص: 72.

[29]– نفسه، ص: 9.

[30]– نفسه، ص: 87.

[31]– نفسه، ص: 20.

[32]– نفسه، ص: 77.

[33]– نفسه، ص: 93.

[34]– نفسه، ص: 66.

[35]– بول بوولز وعزلة طنجة، محمد شكري، الصادر عن منشورات الجمل، ص: 54.

[36]– المصدر نفسه ، ص 55.

[37]– نفسه، ص: 60.

[38]– نفسه، ص: 61.

[39]– المصدر نفسه، ص 124.

[40]– الحوار الأخير بول بوولز – محمد شكري، عبد العزيز جدير، جداول للنشر، ص: 15.

[41]– نفسه، ص: 16.

[42]– بول بوولز وعزلة طنجة، محمد شكري، ص: 21.

[43]– نفسه، ص: 22.

[44]– نفسه، ص: 21.

[45]– نفسه، ص: 21.

[46] – عبد العزيز جدير، الحوار الأخير بول بوولز-محمد شكري، ص: 88 – 89.

[47] – نفسه، ص: 39.

1 تعليق

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر البريد الإلكتروني الخاص بك. الحقول المطلوبة مؤشرة بعلامة *

1 التعليق

  • المندير
    04/10/2023, 6:56 م

    السلام عليكم
    يبدو ان الكاتب المغربي محمد شكري ،ومن خلال العلاقات المتعددة مع اصناف من الادباء والكتاب والفنانين الغربيين استطاع ان يكون صورة واضحة عن الادب والفكر الغربي على العموم حيث وقف على سمات التفكير لدى ثلث من اربابه، ذلك جعله ينتقد هو يدرك مدى عمق الفكر او سطحيته، وتاثير الفكر في صاحبه وتاثره به ، ليس من قرأ كمن عاشر وقرأ.

    الرد

آخر المقالات